فتنة حلايب

خريطة مصر موضح عليها مثلث حلايب

تأزيم وتصعيد
إعلام المارينز
منطقة تكامل

يحلو دائما للنخب العربية أن تلقي بالمسؤولية في خلق أزمات حدودية بين الأقطار العربية، على كاهل من استعمروا الوطن العربي عقودا طويلة، وربما أراد معدو اتفاقية "سايكس-بيكو"، ترك تلك المشاكل الحدودية بين الأقطار العربية، لكي تكون برميل بارود قابل للانفجار في أية لحظة‫.‬

وفي ذات السياق، تأتي أزمة "حلايب" تلك المنطقة الحدودية بين مصر والسودان، والتي جرى ترسيمها بمعرفة البلدين، وفق اتفاقية فبراير/شباط عام ١٩٥٣، وبعد قيام الثورة المصرية في ٢٣ يوليو/تموز من عام ١٩٥٢ بشهور قليلة‫.‬

وشاركت في هذا الترسيم بريطانيا العظمي التي كانت تستعمر الدولتين، والتي أبت إلا تغادر المنطقة دون أن تخلق للبلدين تلك المعضلة، والتي ظلت منذ استقلال السودان في أول يناير/كانون الثاني عام ١٩٥٦، حجر عثرة في وجه تطوير العلاقات بين البلدين.

تأزيم وتصعيد
فعلى سبيل المثال، قالت وكالة الأنباء السودانية يوم الأربعاء الموافق ١٠ سبتمبر/أيلول الجاري "إن قوة عسكرية سودانية عادت للمرابطة في حلايب".

في سياق الأزمات الحدودية تأتي أزمة "حلايب" تلك المنطقة الحدودية بين مصر والسودان، والتي جري ترسيمها بمعرفة البلدين، وفق اتفاقية فبراير/شباط ١٩٥٣، وبعد قيام الثورة المصرية عام ١٩٥٢ بشهور قليلة

وقد سوّقت السلطات السودانية السياسية والإعلامية ذلك الأمر على أنه استعادة سودانية لمنطقة حلايب، التي سبق ودخلتها القوات المصرية، وأحكمت قبضتها عليها أيام حكم مبارك، وللأسف كان ذلك خطأ من قبل حكومة الخرطوم لا يمكن تقبله‫.‬

وزاد الطين بلة أن نقلت وسائل الإعلام السودانية أيضا، تصريحات عن مسؤولين في العاصمة السودانية الخرطوم تشير إلى أن الحكومة السودانية أدرجت منطقة حلايب بعد تحريرها من الجيش المصري كدائرة انتخابية‫.‬

هذا الأمر استثمرته وكالات أنباء عالمية بعضها يضمر الشر للبلدين الشقيقين، ونشرته على أوسع نطاق للوقيعة بين الدولتين الشقيقتين، وذلك في إطار مخططات خارجية خبيثة لتغذية نيران الفتنة بين الجانبين المصري والسوداني‫.‬

ونتيجة لما أثاره الإعلام السوداني، اتهم أنصار الرئيس المصري المعزول محمد مرسي (الرئيس الحالي) عبد الفتاح السيسي، بالتفريط في مثلث حلايب‫، وهي نفس الاتهامات التي سبق وأن كالتها من قبل النخبة العلمانية لمرسي إبان فترة حكمه لمصر، وفي أعقاب عودته من زيارة مهمة قام بها للسودان الشقيق‫.‬

ولكي نلم بالمعضلة التي تواجه العلاقات بين البلدين الشقيقين، نطالع في مؤلفه القيم حول "السودان وأهل السودان" ما ذكره يوسف الشريف الخبير في العلاقات المصرية السودانية‫، والذي قال فيه "إن إشكالية العلاقات المصرية السودانية تكمن في غياب الرؤية الإستراتيجية التي تحكم هذه العلاقة، وغياب الخطاب السياسي الموحد للبلدين لمواجهة التحديات الخارجية، وكذلك غياب وسائل الاتصال، والمواصلات المتطورة بينهما".

ودعا الشريف، إلى إعادة كتابه تاريخ البلدين، وذلك لتنقيته من الشوائب والتفسيرات الخاطئة التي تكرس الضغائن والحساسيات، ووفق منهج قومي موحد، وأسلوب يحقق الانسجام والتوافق الشعبي‫.‬

إعلام المارينز
وفي ذات السياق، وخلال حوارنا معه، ركز السفير السابق بعدة دول أفريقية بلال المصري على "ضرورة توجيه السياسات الإعلامية في البلدين، لكي تراعي الخصوصية الثقافية للقاهرة والخرطوم معا، وبذلك يمكن تكوين أجيال من أبناء مصر والسودان، يؤمنون بحتمية الوحدة بين الشعبين الشقيقين، حسب قوله.‬

وفي الحقيقة، السفير بلال المصري مُحقّ فيما طرحه، لكون أننا رأينا بعد انقلاب الثالث من يوليو الدور التخريبي الذي لعبه الإعلام مقروءا ومسموعا ومرئيا بالقاهرة‫.‬

وهو ما جعل عددا من المفكرين يطلقون على بعض وسائل الإعلام المصري مصطلح "إعلام المارينز" الناطق بالعربية، وهو إعلام يخدم المخططات الخارجية التي تستهدف مصر والمنطقة من أجل تفتيتها ضمن مخطط الشرق الأوسط الجديد‫.‬

ورأينا كيف لعبت بعض وسائل الإعلام والصحافة دورا ملحوظا في تهديد الأمن القومي، وشطر المصريين إلى نصفين، حيث رفعت تلك الوسائل شعار "إنتو شعب وإحنا شعب"، ضمن ما نتج عن الانقلاب من انقسام وصراع بين أهل مصر أنفسهم‫.‬

وتلك السياسات للإعلام والصحافة في عهد الانقلاب رآها الخبراء تتجه بمصر نحو تفتيت المفتت وتجزئة المجزأ، وتلك كارثة خطيرة تخص مصر وتعيشها الآن، ولاتزال فصولها مستمرة‫.‬

وفي ذات السياق الذي مضى على أساسه الإعلام في القاهرة، نعتقد أن الإعلام في السودان ‫-‬ وخصوصا الصحافة‫-‬ متورط بشكل أو بآخر فيه، ويمضي على منهاجه أيضا، لكون أنه يقسم أهل السودان إلى شعوب، وليس شعبين فحسب -كما فعلت بعض وسائل الإعلام المصرية- في تقسيم أهل مصر‫.‬
‫ ‬
وهو أمر شكل ولايزال يشكل تهديدا بالغ الخطورة لوحدة الأراضي السودانية‫، ‬ولذلك لابد أن تلتفت الحكومة السودانية لهذه القضية بجدية وتعالجها، في إطار لا يسقط حرية الصحافة والإعلام من الاعتبار، ويحافظ على أمن السودان القومي‫.‬

مثلث حلايب المتنازع عليه يقع عند البحر الأحمر داخل الحدود المصرية، وتزيد مساحته على عشرين ألف كيلومتر مربع، ويعتقد المعنيون في البلدين أنه غني بالمواد المعدنية والخامات المختلفة

وبناء على ما سبق، فإن كان بأس المصريين وبأس السودانيين بينهم شديد، فيما يتعلق بالخلافات السياسية بين أطيافهم المختلفة، وذلك في إعلامهم وصحافتهم، فما بالنا ببأس إعلام كل جانب منهم حيال الآخر، إننا نرى الطرفين يمارسان التشهير والمكايدة عبر تلك الوسائل‫.‬

والدور الذي يقوم به الإعلام مؤسف ومرفوض، ولن يكون لصالح أي من البلدين، وفي مصر تحديدا تتحمل مسؤوليته السلطة الحالية، لما في ذلك من ضرر بأمن مصر القومي‫.‬

وهنا يبرز الوجه السيئ للإعلام والصحافة، باعتبارهما أدوات تشكل خطرا شديدا على الأمن القومي للبلدين، من جميع النواحي‫.‬

وهو ما يتوجب على صانع القرار في البلدين مراعاته في أية تفاهمات مستقبلية بين الدولتين الشقيقتين، وذلك عبر ميثاق شرف إعلامي يحفظ الحريات والأمن القومي للبلدين الشقيقين في وقت واحد‫.‬

وذلك إن قُدر للبلدين الشقيقين أن يواجها تلك الفتنة، فتنة حلايب، ويتفاهما على وأدها في مرقدها، وهذا يتوقف على تواجد قيادات تعي تماما حقيقة العلاقات الأزلية بين الشعبين الشقيقين، وصلات الرحم والدم التي تربط بينهما‫.‬

منطقة تكامل
ومثلث حلايب المتنازع عليه بين البلدين، يقع عند البحر الأحمر داخل الحدود المصرية، وتزيد مساحته على عشرين ألف كيلومتر مربع، أي ما يقرب من مساحة فلسطين المحتلة ‫والتي تبلغ‬ ٢٤ ألف كيلو متر مربع، ويعتقد المعنيون في البلدين أن هذا المثلث غني بالمواد المعدنية والخامات المختلفة‫.‬

وقد شهدت علاقات مصر مع السودان في العام الذي حكم القاهرة فيه الرئيس المصري المعزول محمد مرسي تحسنا ملحوظا، أفضى إلى اتفاق بينهما على إقامة مشروعات تكاملية مشتركة، تتمثل في تشييد سلسلة من الطرق البرية والنهرية تربط بين البلدين، إلى جانب مشروعات زراعية لتحقيق الاكتفاء الذاتي للبلدين من الغذاء‫.‬

بيد أن العلاقات المصرية السودانية شهدت انتكاسة ملحوظة، عقب الانقلاب العسكري الذي وقع في الثالث من يوليو/تموز قبل الماضي في القاهرة، وكاد التعاون بينهما يتوقف في شتى المجالات‫.‬

واتهمت الخرطوم سلطات الانقلاب في القاهرة بدعم دولة جنوب السودان الوليدة، بينما ردت سلطات الانقلاب باتهام الخرطوم بإيواء معارضة مصرية للانقلاب، والانحياز لإثيوبيا في أزمة سد النهضة‫.‬

وتفاقمت الخلافات بين الانقلابيين في القاهرة والقيادة السودانية في الخرطوم، وتعقدت بشكل جعل الحكومة السودانية لا تجد حرجا في أن تنحاز بشكل علني إلى جانب إثيوبيا في أزمة بناء أديس أبابا لسد النهضة، وذلك على حساب علاقاتها التاريخية والأزلية مع القاهرة‫.‬

وقد باتت شرائح لا يستهان بها من الجيل الجديد، الذي تربى في السودان خلال العقود الثلاثة الماضية، تنظر لمصر نظرة تعكس السياسة غير الودية التي لمسها من قبل نظام حسني مبارك تجاه بلاده، وذلك طوال فترة وجود هذا الديكتاتور في الحكم بالقاهرة‫.‬

وترسخت في وجدان هذا الجيل من أبناء السودان الشقيق مفاهيم ليست دقيقة من بينها: أن القاهرة تنظر للخرطوم نظرة عنصرية‫، ‬وذلك إن جاز على الصعيد الرسمي، فلا يمكن تمريره على الصعيد الشعبي، لكون أن الشعب المصري لا يحمل إلا الحب الخالص للسودان وأهل السودان‫.‬

والمعروف أن الرئيس المصري السابق حسني مبارك اتهم الخرطوم بالتورط في محاولة لاغتياله عام ١٩٩٥، ودعم ما أسماه بالإرهاب في مصر، وهو ما نفته حكومة السودان مرارا‫.‬

في كل أزمة تتفجر بين القاهرة والخرطوم بفعل تباين المصالح والسياسات، كان البلدان يستدعيان فتنة حلايب لكي تكون وقودها، وذلك تحت ستار قصف إعلامي متبادل، ودخول أطراف خارجية على الخط للوقيعة والفتنة

وهكذا في كل أزمة كانت تتفجر ما بين مصر والسودان بفعل تباين المصالح والسياسات، كان البلدان يستدعيان فتنة حلايب لكي تكون وقودها، وذلك تحت ستار قصف إعلامي متبادل، ودخول أطراف خارجية على الخط للوقيعة والفتنة، ودق الأسافين والعبث بمستقبل العلاقات الأزلية بين الشعبين. وهو ما جعل عقلاء في مصر والسودان خلال العقدين الأخيرين يقترحون تحويل مثلث حلايب إلى منطقة تكامل اقتصادي بين البلدين‫.‬
‫ ‬
وعقب زيارة السيسي مؤخرا للخرطوم، تم الاتفاق بينه وبين السلطات السودانية على نشر قوات مشتركة من الجانبين في المناطق الحدودية بينهما‫.‬
‫ ‬
ونشر تلك القوات يتم بهدف وقف التهريب على جانبي الحدود، ووضع نهاية لاتهامات السلطة المصرية الحالية للخرطوم بإيواء العناصر الفارة من مصر والتي يتهمها قائد الانقلاب بالإرهاب‫.‬

والاتفاق بين المسؤولين بالقاهرة والحكومة السودانية، يشكل محاولة من قبل قائد الانقلاب لاستدعاء وتمثل الدور الذي تقوم به تشكيلات أمنية مصرية لحماية حدود "إسرائيل" مع سيناء، لكي تقوم به القوات السودانية على الحدود المصرية مع السودان بالجنوب، وذلك حماية للنظام المصري الحالي من إرهاب مزعوم محتمل‫.‬

ونتمنى أن تتفق كل من مصر والسودان على أن "حلايب" منطقة تكامل تجمع ما بين شعبي وادي النيل، لتكون خير شاهد على أزلية العلاقات بين البلدين الشقيقين، وتضع نهاية لهذا العبث بالأمن القومي العربي، فالبلدان سكانهما يقتربان من نصف سكان الوطن العربي، والاستقرار فيهما مهم للغاية بالنسبة لأمتنا العربية، وهذا الاستقرار لن يتحقق إلا بالقضاء على تلك الفتنة‫.‬

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.