الثورة وعودة المظاهر القبلية

GUE330 - Tripoli, -, LIBYA : A Libyan woman holds a placard during a demonstration against the armed militias surrounding the Ministry of Foreign Affairs and the Ministry of Justice at Algeria Square on May 3, 2013 in Tripoli, Libya. Clashes erupted in the Libyan capital on May 3 between crowds demonstrating against militias in the city and supporters of a law to exclude Kadhafi-era officials from top government jobs, an AFP journalist said. Several hundred people gathered in Tripoli's central Algeria Square to protest against militias that have been laying siege to the justice and foreign ministries to call for the sacking of officials from the ousted regime of Moamer Kadhafi. AFP PHOTO/MAHMUD TURKIA

انفلات ما بعد الثورة
العوامل الهيكلية

شهدت منطقة دوز بالجنوب التونسي في بداية مايو/أيار مواجهات بين مجموعتين قبليتين على خلفية نزاع بشأن ملكية أراض مشاعة وغير مثبتة كان سيقام عليها مشروع للتنقيب عن النفط.

وتعيد هذه الحادثة نفس سيناريو أحداث سابقة تكررت في بعض مناطق الجمهورية لتطرح التساؤل عن خلفياتها ودوافعها في مجتمع تونسي عرف عنه تجاوزه للهياكل الاجتماعية القبلية القديمة كما عرف عنه تقليد الدولة الحديثة. عاملان يفسران عودة هذه الظاهرة: عامل ظرفي مرتبط بتبعات الثورة، ثم عامل هيكلي مرتبط بطبيعة الدولة وبطبيعة علاقتها بالمجتمع.

انفلات ما بعد الثورة
ليست هذه الحادثة بجديدة في تونس بعد سقوط نظام بن علي في بداية سنة 2011. فقد اندلعت نفس هذه المواجهات مباشرة بعد الثورة في مارس/أذار 2011 في جهة قابس ثم في أبريل/نيسان من نفس السنة في جهة السند من مدينة قفصة بالجنوب التونسي وبلغت ذروة عنفها في مدينة المتلوي من نفس الولاية في يونيو/حزيران الماضي.

يرى البعض أن هذه الأحداث مخطط لها من طرف جهات معينة تريد استهداف البلاد. فبعد الثورة تم اتهام ما يسمى ببقايا النظام القديم بإثارة النعرة الطائفية انتقاما لإزاحتها من السلطة

تكررت المواجهات القبلية كذلك في مدينة فريانة بالوسط التونسي في مايو/أيار 2012 ثم تتالت بعض المناوشات في مناطق أخرى إلى أن اشتدت مؤخرا بالجنوب التونسي مما تطلب فرض حظر التجول في مدينة دوز.

يرى البعض أن هذه الأحداث مخطط لها من طرف جهات معينة تريد استهداف البلاد. فبعد الثورة تم اتهام ما يسمى ببقايا النظام القديم بإثارة النعرة الطائفية انتقاما لإزاحتها من السلطة. وهو اتهام يعكس في اعتقادي عجزا عن فهم حقيقة الظاهرة وعن إيجاد حل لها. فحتى لو سلمنا فرضا أن الأمر من تدبير جهة أو أخرى فإن السؤال يبقى دائما مطروحا حول تجاوب المجتمع وبطريقة حماسية.

ليس المهم إذن من وراء الأحداث ولا أسبابها المباشرة بل الذهنية الاجتماعية التي استنفرت الفاعلين وهي العقلية الانقسامية أو العصبية بالمعنى الخلدوني.

تندرج هذه الأحداث المجتمعية في سياق جملة الانفلاتات العامة التي شهدتها تونس بعد انهيار نظام بن علي. هي ليست خاصية تونسية بل شهدتها أغلب البلدان العربية التي مستها التحولات الأخيرة وربما أحيانا بشكل أعنف وأوسع، فقد أدى انهيار سلطة الحاكم إلى إضعاف الدولة كجهاز سواء من حيث أداء المؤسسات أو من حيث المنظومة القانونية التي فقدت احترام المواطن لها. هذا الاحترام كان مبنيا في السابق على الخوف من السلطة وعلى إكراه الدولة وليس على الاقتناع بأن الدولة والقانون هما تجسيد للمجموعة ككيان سياسي مشترك.

لقد أدى ضعف الدولة إلى تحول في طبيعة العنف الجماعي (كي نميزه عن عنف الأفراد) وفي اتجاهاته في البلاد. ففي إطار عادي من الاستقرار السياسي يكون العنف الجماعي من الأعلى إلى الأسفل. أي من الدولة باتجاه المجتمع في سياق مبدأ احتكار الدولة للإكراه وممارسة القوة سواء بالقانون أو بالعنف المادي.

بعد الثورة تغير اتجاه العنف كما توسع نسبيا نطاقه. فقد ظهر اتجاه أول للعنف من الأسفل إلى الأعلى، أي من المجتمع باتجاه الدولة. وقد أخذ عدة مظاهر من بينها تكرار مهاجمة مراكز الأمن، وحرق الإدارات والمرافق الخدمية العمومية والاستيلاء على أراضي الدولة

بعد الثورة تغير اتجاه العنف كما توسع نسبيا نطاقه. فقد ظهر اتجاه أول للعنف من الأسفل إلى الأعلى، أي من المجتمع باتجاه الدولة. وقد أخذ عدة مظاهر من بينها تكرار مهاجمة مراكز الأمن، وحرق الإدارات والمرافق الخدمية العمومية والاستيلاء على أراضي الدولة. كما اتخذ شكل الاعتداء على الموظفين العموميين من رجال أمن وموظفين وخاصة في الأشهر التي أعقبت الثورة لتتراجع وتيرتها مع عودة الاستقرار السياسي العام.

لقد شجع هذا العنف الموجه ضد الدولة على ظهور اتجاه جديد، أفقي في هذه المرة، وهو العنف البينمجتمعي -أي بين أطراف المجتمع ذاته- وقد اتخذ بدوره شكلين.

الأول: هو العنف الفردي المتمثل في الاعتداء على الأشخاص، أما الثاني: فقد تمثل في العنف بين المجموعات المتعاضدة فيما بينها سواء على أساس القرابة الدمية أو على أساس الجوار. وعادة ما تحدث المواجهات إما على خلفية نزاع حول أراض تم تقسيمها سابقا وتريد أطراف أخرى مراجعتها، أو على خلفية خلافات بين شخصية تؤدي إلى الاستنجاد بحمية القبيلة أو بحمية الجيرة.

في حالة الصراع حول الأراضي يمكن القول إن المسألة تتعلق بمحاولة إعادة النظر في الترتيب الاجتماعي القائم أو في إعادة توزيع مصادر الثروة المحلية بين المجموعات الفاعلة. أما في الحالة الثانية فيكون تطور الصراع الشخصي إلى مواجهة قبلية مؤشرا على تقزم صورة الدولة كحامية لأمن الأفراد.
إذا كانت المواجهات وليدة ظرف الثورة وتبعاتها الأمنية، فإن قاعدتها المتمثلة في العقلية القبلية ومختلف مظاهر العصبية أو التعاضد الآلي -كما يسميها دوركهايم- تعود إلى أسباب أعمق.

العوامل الهيكلية
قد تبدو هذه المواجهات القبلية متعارضة مع واقع تميز بعد الثورة بوحدة الشعب وبفرحة استعادة وطن كانت الدولة (أي الفئة الحاكمة) قد احتكرته. كما أنها قد تبدو متعارضة مع أهداف ثائرين انتفضوا بالأساس من أجل كرامة العيش والحرية.

الواقع أن الظاهرة القبلية في البلدان العربية التي تأسست فيها أنظمة جمهورية وترسخت فيها إلى حد ما تقاليد الدولة الوطنية ذات الحكم المركزي والتقسيم الإداري العقلاني، قد تراجعت بشكل كبير تحت فعل عوامل متعددة

لكن النظرة النقدية المتعمقة تذهب بنا بعيدا لفهم استمرارية هذه الظاهرة المجتمعية المعقدة بالرغم من عديد التحولات السياسية والاجتماعية سواء في العالم العربي أو خاصة في تونس.

الواقع أن الظاهرة القبلية في البلدان العربية التي تأسست فيها أنظمة جمهورية وترسخت فيها إلى حد ما تقاليد الدولة الوطنية ذات الحكم المركزي والتقسيم الإداري العقلاني، قد تراجعت بشكل كبير تحت فعل عوامل متعددة. فقد تراجعت هذه التقاليد بفعل تأثير اقتصاد السوق الذي أدمج المجموعات المحلية في شبكة معاملات تراجع ضمنها وقع الروابط العائلية التقليدية لصالح علاقات منفعية كما تراجع مفهوم الجماعة لصالح الفرد الذي بدأ يبتعد شيئا فشيئا عن تأثيرها.

تركز ثقافة عليا جديدة مصاحبة لتركز الدولة الوطنية كان له دور فاعل كذلك في تراجع تأثير الروابط القبلية والعشائرية. فالدولة الوطنية تضخ عن طريق التعليم وعن طريق الإعلام الرسمي خطابات حول الوحدة الوطنية وحول رموز الذاكرة الجماعية.

وعادة ما تكون هذه الدعاية الرسمية معارضة لكل مظاهر الخصوصية المحلية وتحاول حتى طمسها. ضمن هذا السياق، يتم تعويض الذاكرة المحلية بذاكرة أشمل هي ذاكرة الوطن، ذاكرة تمجد البطولات والوقوف في وجه الاستعمار كما تمجد التميز عن الأمم الأخرى وعن ثقافاتها. لعب توسع المنظومة الحضرية على حساب الأرياف دورا مهما بدوره في تراجع الظاهرة القبلية. ذلك أن نمط العيش الحضري يشجع على الاختلاط بين المجموعات ويخلق تحالفات جديدة كما أنه سياق مشجع على الفردانية. ونعلم أن في تونس اليوم تفوق نسبة السكان الحضر بكثير نسبة السكان الريفيين.

مقابل هذه التوجهات لا بد من القول في نفس الوقت أن بناء الدولة الوطنية في العالم العربي بقي منقوصا أو هشا مما يفسر استمرار فعل التشكيلات الاجتماعية التقليدية. ففي العديد من البلدان العربية تم استعمال المعطى القبلي في عملية البناء الوطني من أجل تركيز السلطة والحكم. من جهة ثانية فإن الدولة الوطنية بتفكيكها لمنظومات المجتمع التقليدي وتحويلهم إلى أفراد لم توفر بديلا تنظيميا واقتصاديا على أساسه تتماسك الفردانية.

في ظل عجز الدولة على مساعدة العدد الكبير من المهمشين لا يجد الأفراد من حل سوى الرجوع إلى مظاهر التعاضد التقليدي مثل العلاقات العائلية والقبلية والمحلية

فعلى المستوى الاجتماعي أصبح الدخول للوظائف والتمتع ببعض الخدمات الرسمية يمر عبر شبكة من العلاقات الزبونية التي تعتمد على الولاء وهو ما أعاد من جديد العلاقات القرابية ولو في إطار محدود أي إطار العائلة والعائلة الموسعة.

من جهة أخرى فإن ضعف الهياكل الاقتصادية وضعف النمو الاقتصادي لم يمكنا من تنوع الفرص ومن تفادي الأزمات الاقتصادية. وفي ظل عجز الدولة على مساعدة العدد الكبير من المهمشين لا يجد الأفراد من حل سوى الرجوع إلى مظاهر التعاضد التقليدي مثل العلاقات العائلية والقبلية والمحلية.

إن ما يعزز هذا التحليل هو أن أغلب المواجهات تندلع غالبا في مناطق فقيرة ولأسباب اقتصادية واجتماعية مرتبطة عادة بالأنشطة الاقتصادية الصغيرة مثل تجارة التفصيل أو الأنشطة الفلاحية. كما أن تركز الأحداث في مناطق داخلية عرفت تاريخيا بأنها مجال قبلي يبين أن النزعة القبلية بقيت كامنة وراء سلطة مركزية متواجدة بقوة من خلال الأمن والمؤسسات والإعلام والثقافة.

وجبت الإشارة في النهاية إلى أن هذه المواجهات التي حصلت في تونس تبقى محدودة جدا بالمقارنة مع مناطق أخرى من العالم العربي، فهي محدودة في مستوى المجال ويكون الضحايا عادة من الجرحى ونادرا من القتلى. كما يبقى تدخل الجيش حاسما لفرض الانضباط واستعادة الأمن في الأخير. لقد تراجع عدد هذه الأحداث كثيرا عن سنة الثورة 2011 مما يؤشر إلى استعادة المؤسسة الأمنية لفاعليتها.

ويبقى الحل النهائي يتطلب وقتا حتى يؤدي المسار الانتقالي في تونس إلى تركيز دولة المواطنة الحقيقية التي يكون فيها للمواطنين دور في صياغة القرار السياسي وبالتالي تقوية حس المواطنة والانتماء الجماعي للوطن على حساب أشكال التعاضد التقليدي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.