بوكو حرام.. من "إزالة البدع" إلى "الغزو والسبي"

بوكو حرام تعرض مبادلة التلميذات المختطفات بسجناء

سبي ونخاسة
جذور وتطورات
صدام مع السلطة
الارتباط بالقاعدة
الطريق نحو العالمية

شكلت حادثة اختطاف مسلحين من "جماعة أهل السنة للدعوة والجهاد" المعروفة إعلاميا باسم
"بوكو حرام" لأكثر من مائتي فتاة من إحدى المدارس في بلدة شيبوك بشمال نيجيريا منتصف أبريل/نيسان الماضي منعطفا حاسما في تاريخ الجماعة التي تقاتل ضد الحكومة النيجيرية منذ خمس سنوات.

ورغم الغموض الذي يلف ظروف الحادثة فإن من المؤكد أن الحكومة المحلية في ولاية بورنو التي كانت مسرحا للعملية أشعرت الجيش النيجيري بتحرك قوة من "بوكو حرام" نحو القرية التي توجد بها مدرسة الفتيات قبل وقوع الحادث بعدة ساعات، لكن الجيش تأخر في التحرك لمنع وقوع ما حصل.

يأتي الحادث الأول من نوعه (اختطاف الفتيات) ليدفع بالجماعة من جديد إلى واجهة الأحداث بعد أن باتت تتصدر نشرات الأخبار وتحظى باهتمام قادة العالم السياسيين والدينيين والحقوقيين

ويمكن تفسير تأخر تحرك الجيش على ضوء قراءات متعددة ومتباينة، أولها البيروقراطية الرتيبة التي تنخر مؤسسات الدولة النيجيرية وفي مقدمها الجيش، الأمر الذي يشل قدرته على التحرك السريع، والتعاطي مع الحالات الطارئة، إضافة إلى ضعف إمكانياته في تلك المنطقة، وخوف أفراده من النزعة الدموية العنيفة لدى عناصر "بوكو حرام"، فضلا عن أن الوضع في شمال البلاد يبقى ثانويا قياسا للأهمية التي توليها الحكومة للوسط والجنوب، حتى في المجالات الأمنية والعسكرية.

سبي ونخاسة
حادثة اختطاف الفتيات، والخطاب الذي وجهه زعيم الحركة "أبو بكر شيكو" وتبنى فيه العملية حملا في ثناياهما روح الغزو والسبي، وأيقظا من قاموس التاريخ مصطلحات "بيع السبايا" المعروضات في سوق النخاسة، كما شكلا تطورا في خطاب الجماعات الجهادية في المنطقة، والتي كانت تكتفي في الغالب الأعم بالإثخان في من تعتبرهم "أعداء الله"، والغنيمة والفيء مما وقع في يدها من ممتلكاتهم، أما "السبي" فهو معطى استخرج من غيابات التاريخ، وأخذ لبوسا دينيا كما هو حال سائر أنشطة الجماعات الجهادية المسلحة في المنطقة بما في ذلك جماعة "بوكو حرام".

ويأتي الحادث الأول من نوعه ليدفع الجماعة من جديد إلى واجهة الأحداث بعد أن باتت تتصدر نشرات الأخبار وتحظى باهتمام قادة العالم السياسيين والدينيين والحقوقيين، الأمر الذي يستدعي تسليط الضوء على حقيقتها وأصولها، وعلاقاتها بباقي الجماعات الجهادية في المنطقة وفي العالم بأسره.

ويتطلب الأمر منا العودة إلى الجذور التي ولدت منها جماعة "بوكو حرام"، والظروف التي اكتنفت ذلك الميلاد وما صاحب تطورات النشأة من أحداث وبواعث كان لها بالغ الأثر في مسار الجماعة وتوجيه بوصلة نشاطاتها نحو مزيد من العنف والراديكالية.

جذور وتطورات
يعود تاريخ ظهور العمل السلفي الجانح إلى العنف في نيجيريا إلى النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي عندما ظهرت حركة أطلقت على نفسها اسم جماعة "إزالة البدعة وإقامة السنة"، وعرفت اختصارا باسم "إزالة"، وقد تأسست على يد الداعية السلفي إسماعيل إدريس وبمعيته بعض الطلاب العائدين من الدراسة في المملكة العربية السعودية، وانتشرت دعوته في شمال نيجيريا وجنوب النيجر.

ويقول قادة الحركة إنها تسعى للقضاء على ما يسمونه الشركيات والبدع في أوساط أتباع الطرق الصوفية ذات الانتشار الواسع في شمال نيجيريا، وامتلكت الحركة تنظيما شبابيا على شكل مليشيات منظمة.

وفي منتصف ثمانينيات القرن الماضي ظهرت حركة أخرى أطلقت على نفسها اسم "جماعة الإخوان المسلمين" بقيادة الشيخ إبراهيم يعقوب الزكزكي، واستقطبت آلاف الأتباع، وانضم إليها شاب يدعى محمد يوسف في وقت مبكر من عمره، وأصبح أحد الشباب الفاعلين فيها.

وفي عام 1995 بدأ زعيم الجماعة الشيخ الزكزكي ينحرف عن النهج الذي أسست عليه الجماعة، وأعلن اعتناقه المذهب الشيعي وبات على صلة بالمراجع الشيعية في قم وطهران، فعرفت الجماعة أكبر انشقاق في تاريخها، حيث انشق جزء منها واحتفظ باسم الجماعة ونهجها، وانشق آخرون واختاروا المضي نحو التوجه المتشدد ردا على التغلغل الشيعي في المنطقة وما يعتبرونه انحرافا عقديا لشيخهم ومؤسس حركتهم.

ومن هؤلاء الشاب محمد يوسف الذي رأى في جماعة "إزالة" بديلا يسعى من خلاله لمواصلة نشاطاته الدعوية، وانضم إليها، ليصبح أحد أهم قادتها في يوبي وبورنو، إلا أن جماعة "إزالة" شهدت بدورها انشقاقا داخليا، فغادرها محمد يوسف مع أتباعه.

وفي عام 2002 أسس محمد يوسف جماعة جديدة تحمل اسم "جماعة أهل السنة للدعوة والجهاد"، متأثرا بتداعيات أحداث 11 سبتمبر/أيلول عام 2001 في الولايات المتحدة، وعرفت ساعتها باسم "طالبان نيجيريا".

بعد المجزرة -التي ارتكبت سنة 2009 بحق أعضاء الجماعة ومئات المدنيين المسلمين- كانت "بوكو حرام" على موعد مع بداية ربط الصلة بأقرب التنظيمات الجهادية إليها جغرافيا، وهو تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي

واشتهرت الجماعة بموقفها الرافض للتعليم العصري على الطريقة الغربية، ومنه أخذت اسمها الإعلامي المشهور "بوكو حرام"، وتعني كلمة "بوكو" بلغة الهوسا الشائعة في المنطقة "التعليم الغربي"، تضاف إليها كلمة "حرام"، حيث يؤمن محمد يوسف وأتباعه بأن هذا التعليم يناقض الشريعة الإسلامية، ويعتقدون أن المستعمرين المسيحيين هم من أقاموا هذا النظام التعليمي في المنطقة للقضاء على التعليم الديني الذي كان موجودا فيها قبل الاستعمار.

وكان مؤسس الجماعة محمد يوسف يتابع بأسى وحزن المآسي التي يتعرض لها المسلمون في نيجيريا في صراعهم المفتوح مع المسيحيين، حيث أحرقت المساجد والقرى وأبيد الآلاف من السكان وارتكبت جرائم اغتصاب جماعي، الأمر الذي ساهم في تشكيل شخصية ناقمة ومتطرفة لدى الشاب الثلاثيني الذي حاول أن يقدم نفسه للمسلمين النيجيريين كمصحح للعقيدة من الزيغ والبدع، ومنقذ لبيضة الدين من الصليبيين والمسيحيين.

وامتاز محمد يوسف بكونه خطيبا مفوها جاب معظم الولايات والمدن والقرى المسلمة في شمال نيجيريا داعيا لنهجه وحاشدا مزيدا من الأتباع.

وفي عام 2003 كانت فكرة الهجرة والتكفير قد نضجت لدى أتباعه فقامت مجموعات منهم باعتزال المجتمع في قرية كاناما النائية، وعرفوا باسم "المهاجرين"، فثارت الشكوك حولهم وهاجمتهم قوات الأمن النيجرية، وقتلت عددا منهم وأصابت آخرين بجراح.

صدام مع السلطة
وفي عام 2009 وقع صدام آخر بين أتباع "الجماعة" والسلطات النيجرية، كان بداية مرحلة المفاصلة والاقتتال، وذلك حينما اعترضت قوات الأمن عددا منهم كانوا في طريقهم إلى مقبرة لدفن أحد زملائهم، واشتبكت معهم فقتلت عددا منهم وأصابت آخرين بجراح، فشكل ذلك منعطفا في علاقة الرجل وأتباعه بالدولة النيجيرية، حيث ألقى خطابا مشهورا عرف باسم "بيان الرسالة المفتوحة إلى الحكومة الفدرالية"، وأعلن أنه يمنح الحكومة مهلة لا تتجاوز أربعين يوما لتغيير تعاطيها مع الجماعة وكف بأسها عنها ومحاسبة من اعترضوا طريق موكب الجنازة.

ولكن الشرطة النيجيرية لم تنتظر انتهاء المهلة، وشنت هجوما استهدف تجمعا للجماعة في أحد مساجد ولاية بوتي في أواخر يوليو/تموز عام 2009، واندلعت المواجهات بين الطرفين، واستمرت عدة أيام سقط فيها حوالي سبعمائة قتيل، معظمهم من عناصر الحركة وبعض رجال الشرطة والمدنيين، وانتهت المواجهات باعتقال زعيم الحركة محمد يوسف وتصفيته جسديا بعد التحقيق معه، كما تم اعتقال وقتل عشرات الأشخاص بتهمة الانتماء للحركة، وبثت قنوات عالمية صورا صادمة لعمليات إعدام جماعية في حق أشخاص معاقين وعزل يشتبه في أنهم أعضاء بالحركة، وقد أعلنت الحكومة النيجيرية ساعتها أنها قضت نهائيا على جماعة بوكو حرام.

لكن بعد أقل من شهر من تلك المواجهات الدامية، عادت الحركة للظهور من جديد عبر شريط لأحد قادتها يدعى عمر أعلن فيه بيعة الجماعة لتنظيم القاعدة في أفغانستان، وعزمها استئناف نشاطاتها وتوسيعها لتشمل كافة الأراضي النيجيرية.

ثم جاء الظهور المفاجئ لإمام الحركة الجديد أبو بكر محمد شيكو في منتصف عام 2010 والذي كان يشغل منصب نائب الإمام المؤسس محمد يوسف، وأعلن عزمه شن هجمات تستهدف المصالح الغربية أينما كانت، ومواجهة الحكومة النيجيرية بكل الوسائل المتاحة لديه، وضاعفت الجماعة في فترته من هجماتها، وأضافت لأساليبها السابقة أسلوب العمليات الانتحارية.

الارتباط بالقاعدة
وبعد المجزرة التي ارتكبت سنة 2009 بحق أعضاء الجماعة ومئات المدنيين المسلمين، كانت "بوكو حرام" على موعد مع بداية ربط الصلة بأقرب التنظيمات الجهادية إليها جغرافيا، وهو تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي، ولم يكن الأمر صعبا، نظرا لوجود مواطنين نيجيريين يقاتلون في صفوف تنظيم القاعدة في شمال مالي، فأرسل مؤسس إمارة الصحراء في تنظيم القاعدة "المختار بلمختار" عددا من عناصر كتيبته من النيجيريين إلى بلادهم لدراسة الموقف ومؤازرة إخوانهم هناك.

وكان من أبرز القادة الذين غادروا شمال مالي باتجاه نيجيريا خالد البرنوي الذي قاد عملية اختطاف البريطاني كريستوف ماكمنوس والإيطالي فرانكو لامولينارا في مايو/أيار عام 2011 اللذين قتلا بعد اختطافهما من أبوجا بحوالي تسعة أشهر أثناء محاولة تحريرهما بالقوة.

وكان "البرنوي" ضمن مجموعة من الشباب النيجيريين انضموا إلى صفوف الجماعة السلفية للدعوة والقتال الجزائرية منتصف العقد الماضي في الصحراء المالية، وقد مكنتهم خبرتهم العسكرية وعلاقاتهم الوطيدة بالمسلحين الجهاديين في الساحل من تبوؤ الصدارة في جماعة "بوكو حرام" بعد عودتهم لبلادهم.

ليس في الأفق ما يشي بتراجع في مسيرة نمو الجماعة وتطوير أساليبها، طالما أن دوافع الميلاد من ظلم وقهر وإهمال كانت مناطق المسلمين بنيجيريا عرضة لها، لم تعالج أو يخفف من وطأتها

وكان ارتباط الجماعة وثيقا مع تنظيم القاعدة في شمال مالي حتى أن المفاوضات بشأن بعض الرهائن الذين يختطفهم الجماعة في نيجيريا كان يتولاها "بلمختار" مع الوسطاء، ويديرها من شمال مالي.

وقد اكتسب عناصر "بوكو حرام" تجربة واسعة عبر حركة التبادل والتنسيق مع الجماعات الجهادية في الصحراء الكبرى، وازداد ارتباطهم أكثر، خصوصا مع مجموعة "بلخمتار" والتوحيد والجهاد في غرب أفريقيا.

الطريق نحو العالمية
وهنا يمكن القول إن النشاطات المتلاحقة لجماعة "بوكو حرام" -خصوصا الضربات العنيفة التي نفذتها عقب مجزرة 2009، وآلاف الأرواح التي حصدتها في عملياتها- لفتت الانتباه إليها، وإلى قدرتها على الانبعاث من رماد تلك المذبحة المروعة بأقوى وأشرس مما كانت عليه إبان محاولة السلطات النيجيرية القضاء عليها نهائيا.

فلم يكن عدد أعضائها يتجاوز المئات قبل تلك الأحداث، ويعتمدون في الأغلب الأعم على الأسلحة البيضاء، لتصبح بعدها حركة ذات انتشار واسع وخبرة كبيرة، وتمتلك من العتاد والسلاح ما يجعلها مخوفة الجناب يحسب لها الجيش النيجيري ألف حساب، وتناشدها الحكومة الحوار ووقف إطلاق النار دون جدوى، بل أصبحت قادرة على القيام بعمليات نوعية كان آخرها اختطاف أزيد من مائتي فتاة والقدرة على الاحتفاظ بهن وإخفائهن في منطقة باتت كل عيون أجهزة المخابرات العالمية شاخصة نحوها.

ولعل ذلك من أبرز نتائج محاولات القضاء على الفكر بمقاربة القوة العسكرية والأمنية المتطرفة، والتي لا تعدو كونها رافدا لتغذية التطرف الآخر وتطوير أساليبه بدلا من معالجته والقضاء عليه.

وليس في الأفق ما يشي بتراجع في مسيرة نمو الجماعة وتطوير أساليبها طالما أن دوافع الميلاد من ظلم وقهر وإهمال كانت مناطق المسلمين في الشمال النيجيري عرضة لها على مر التاريخ الحديث، لم تعالج أو يخفف من وطأتها، الأمر الذي يعني تجنيد مزيد من الشباب في صفوف الجماعة التي تتجه بسرعة نحو الإقليمية والعالمية لتصبح حركة عابرة للحدود.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.