جنوب السودان.. صراع التاريخ (2)

مقال الكاتب / محجوب محمد صالح - جنوب السودان.. صراع التاريخ (2)

في حلقة سابقة تساءلنا عن أسباب الصراع الحالي بين مكونات الحركة الشعبية الحاكمة في الدولة الوليدة، وقلنا إن مردها لخلافات وشكوك كبيرة ظلت تسيطر على أذهان قادة الحركة دون أن يتمكنوا من إيجاد وسيلة لمعالجة هذه الخلافات والسيطرة على تلك الشكوك.

إن أي تحليل لتداعيات الأزمة الحالية في الجنوب وأطراف الصراع التي أشرنا إليها في الحلقات السابقة لا ينبغي أن يتجاهل حقيقة أساسية في جنوب السودان وهي سيادة (ثقافة العنف والتمرد) التي أفرزتها الحرب الأهلية في الجنوب.

وقد نبهت في مقال قبل 15 عاما إلى أن سيادة ثقافة العنف والتمرد في الجنوب ستظل سائدة حتى لو تحقق السلام وقلت (ونتكهن بأن الصراع المسلح سيستمر بعد السلام حتى إذا انفصل الجنوب وأسس دولته الخاصة، وسنشهد مزيدا من الصراعات الشخصية والتكتلات القبلية وسيلجأ كثير من هذه الفئات لحسم صراعها بالسلاح)، وهذا هو ما يحدث بالضبط الآن وهو نتيجة طبيعية لسيادة ثقافة العنف والتمرد.

ثمة ثلاثة معسكرات متصارعة في دولة الجنوب هي مجموعة سلفا كير المتحصنة بـ"الشرعية" الانتخابية ومجموعات باقان التي تعد نفسها القيادة التاريخية للحركة، ومجموعة رياك مشار المعتمدة على الثقل القبلي لقبيلة النوير

ثمة ثلاث معسكرات متصارعة الآن في دولة جنوب السودان، وقد رصدناها سابقا، وهي مجموعة سلفاكير وهي متحصنة بـ"الشرعية" التي اكتسبتها بالانتخابات ومعتمدة على سند قبلي وعلى سلطة الدولة وترغب في الانفراد بالأمر والقضاء على منافسيها، ومجموعات باقان التي تعد نفسها القيادة السياسية التاريخية للحركة والحافظة لإرثها داخل الحزب، والأجدر بقيادة الدولة الوليدة، ومجموعة ريك مشار المعتمدة على الثقل القبلي لقبيلة النوير والمنافسة لقبيلة الدينكا على القيادة استنادا إلى شراسة مقاتلي القبيلة.

وهناك مجموعة رابعة تتخذ الآن موقف الانتظار والترقب، وهي مجموعة القبائل الاستوائية التي لعبت دورا كبير في إجهاض اتفاقية أديس أبابا مطلع الثمانينيات عندما تبنت فكرة القضاء على (هيمنة الدينكا)، وذلك بتفكيك الجنوب الموحد إلى ثلاث ولايات وهم لم يحسموا أمرهم في الصراع الدائر الآن.

ولكن اللافت أن ولاة ولايات الاستوائية الثلاث في اجتماعهم الأخير طالبوا بمواقع قيادية في جيش الحكومة لضباط الولايات الاستوائية بحثا عن موقع متقدم في القوة الرسمية الضاربة مما يعني أنهم يبحثون عن مواقع القوة التي تدافع عنهم.

وأوغندا -أو على الأقل رئيسها موسيفيني- عينه على القبائل الاستوائية الأقرب إليه ويراهن على خلق تحالف بينهم وبين الدينكا في مواجهة النوير ومعسكر أبناء قرنق، وتجيير مثل هذا التحالف لصالح الحلف الجنوبي/الأوغندي مما يثير مخاوف دول الجوار الأخرى -كينيا وإثيوبيا والسودان- وطموحات موسيفيني هي العنصر الجديد في الصراع، وهي الأكثر خطورة، لأن من شأنه أن يضفي عليه بعدا إقليميا مقلقا.

هذه العوامل الصراعية الناشطة في ساحة الجنوب اليوم تجعل المفاوضات التي انطلقت من أديس أبابا مهمة عسيرة، وسلفا كير المتحصن بقوة الدولة يواجه نقطة ضعف أساسية، وهي أن الجيش الذي يعتمد عليه ما زال (قوة تحرير) ولم يتحول بعد إلى جيش قومي، وما زال أقرب لمجموعات من المليشيات القبلية المتصارعة التي تفتقد الانضباط والضبط والربط.

وقد انقسمت أثناء الصراع الأخير فوقف بعضها مع سلفا كير وتمرد البعض الآخر عليه وانضم للمعارضة، ولولا سلاح الجو الأوغندي والوجود الحاسم لقوات أوغندية على الأرض لكان الصراع أكثر دموية ولما صمد جيش الحكومة، ولانتفل الصراع إلى مناطق عديدة تنعم الآن بالهدوء، وهذا هو السبب الذي يحدو بدول الجوار الأفريقي ألا تتخذ موقفا حادا في المطالبة بانسحاب القوات الأوغندية لأن الإيغاد التي ترفض الوجود الأوغندي العسكري في الجنوب تدرك أن انسحابهم فجأة سيؤدي إلى الانهيار الكامل لاتفاق وقف إطلاق النار الهش ويفتح الباب لحرب شاملة.

ولذلك يسعون الآن إلى احتواء الوجود الأوغندي داخل قوة عسكرية أفريقية بمشاركة العديد من دول الجوار تنشط تحت علم الاتحاد الأفريقي ولا تمثل دولة بعينها. وبهذا "يذوبون" الوجود الأوغندي في وجود عسكري أفريقي أكبر، لكن أوغندا ستظل القوة الأكثر أثرا في هذا الجيش الأفريقي.

أما السودان فهو الآن يتعامل مع أزمة الجنوب بقدر كبير من التحفظ ويختفي وراء لافتتين- لافتة دعم الشرعية المتمثلة في سلفا كير حسب مقررات الاتحاد الأفريقي ولافته التوسط بين الفرقاء في إطار جهود الإيغاد باعتباره عضوا فيها- لكن ليس سرا أنه يتعرض لضغوط من جماعة رياك مشار ليؤازرهم.

ومع حرص السودان على سلفا كير وتطوير العلاقة معه فإنه يعرف ويحسن التعامل بدرجة أكبر مع رياك مشار الذي كان مشاركا في حكومة الخرطوم وفي معاركها ضد الحركة الشعبية إبان الحرب الأهلية، والذي حافظ على قنوات مفتوحة مع الحكومة حتى بعد عودته لصفوف الحركة، ولا يزال يطمع في أن تدعم الخرطوم مشروعه الهادف إلى الاستيلاء على السلطة في الجنوب وسيطرته على مواقع النفط في أعالي النيل الكبرى.

يمثل النفط عنصرا أساسيا في أي صراع يدور في الجنوب، فهو مصدر الدخل الوحيد لجنوب السودان وهو أيضا المسؤول عن استشراء الفساد في أوساط المسؤولين الجنوبيين

ورغم أن الخرطوم ما زالت تتمنع فإنها لا تريد أن تقطع شعرة معاوية معه، غير أن موقف الخرطوم محسوم تماما تجاه باقان أموم وجماعته، إذ يعدونهم الأكثر عداء للشمال والأكثر دعما للجبهة الثورية ولمعارضي حكومة الخرطوم.

وهذا يقودنا إلى الحديث عن النفط الذي بات عنصرا أساسيا في أي صراع يدور في الجنوب أو هو مصدر الدخل الوحيد لجنوب السودان وهو – أيضا- المسؤول عن استشراء الفساد الذي شكا منه سلفا كير كثيرا، رغم أن معارضيه يعتقدون أنه يبالغ في الحديث عن الفساد ليخلق منه مبررا لاغتيال شخصيات منافسة بعد اتهاهمهم بالفساد دون دليل.

لكن النفط لا يهم أمره الجنوبيين وحدهم، إذ إن هناك مستثمرين آخرين في مقدمتهم الصين وماليزيا والهند يهمها أمر النفط، وهناك أميركا التي تريد كسر الاحتكار الصيني على نفط الجنوب ويثير قلقها أن الصراع الحالي يدور في مناطق النفط.

ومع أن كلا الطرفين المتحاربين يبدي الآن استعدادا لتجنيب حقول النفط مخاطر الحرب لأنهم يدركون أهميته بالنسبة لهم، فإنه إذا أصبحت الحرب الأهلية شاملة وازدادت ضراوة المعارك فسيصعب على المتحاربين الحفاظ على حقول النفط بمنجاة من شرور القتال، وهو ما يسهم في الضغوط على الجانبين لتنفيذ وقف إطلاق النار والبحث عن تسوية سياسية.

بات المجتمع الدولي يضيق ذرعا بهذا النزاع، ولذلك سيبذل المزيد من المساعي والضغوط للوصول إلى معادلة واقعية لاقتسام السلطة والثروة بين الفرقاء في الجنوب، لكنه لا يستبعد احتمال التدخل العسكري من حساباته إذا اندلعت الحرب من جديد.

الوضع- إذن- مفتوح على كل الاحتمالات، لكن بعض الأمل ما زال معقودا على إنجاح مساعي الحل بالمزيد من الجهود الإقليمية والدولية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.