كيف اختطف اللوبي اليهودي قضية فلسطين بأميركا؟

كيف اختطف اللوبي اليهودي قضية فلسطين بأميركا؟ - مروان بشارة

علاقات خاصة
حالة استقطاب
فلسطين.. امتحان أميركا

احتدم النقاش اليهودي اليهودي في الولايات المتحدة في السنين الأخيرة، مع بروز المزيد من الأصوات اليهودية المنتقدة لإسرائيل والتي استطاعت أن تستقطب اهتماما ملحوظا.

إن هذا النقاش المفيد ليس غريبا على المشهد السياسي الأميركي. الأميركيون من كافة ألوان الطيف يفعلون ذلك، الأميركيون من أصل كوبي يفعلون ذلك ونظراؤهم الإيرلنديون والأرمن… إلخ.

ولكن حصر النقاش الأميركي حول فلسطين والعالم العربي في حدود المجتمع الصهيوني هو أمر مضر.

علاقات خاصة
إن سيطرة الصهاينة على القضية الفلسطينية والعلاقات مع العالم العربي في حدود المجتمع الصهيوني في الولايات المتحدة له دلالتان سلبيتان الأولى تتعلق باستمرار حالة القصور المزمن في رؤية قضايا فلسطين والعالم العربي من زاوية صحيحة، والثانية أن الصهاينة يتحكمون بإدارة دفة الحوار في الولايات المتحدة فيما يتعلق بالسياسة الأميركية تجاه الصراع العربي الإسرائيلي.

يقيّم الفلسطينيون اليوم في الغرب ضمن معايير إسرائيلية بحتة، إما معتدلون أو متطرفون، بناء على مدى تقبلهم للاحتلال الإسرائيلي أو رفضهم إقامة "دولة يهودية" على ترابهم الوطني

هذا الوضع -بالتالي- يؤدي إلى التعامل مع الشعب الفلسطيني من منظور المصالح الإسرائيلية فقط لا غير، بينما تهمل هوية الشعب الفلسطيني ومكانته التاريخية على خارطة العالمين العربي والإسلامي.

الفلسطينيون اليوم يقيّمون في الغرب والولايات المتحدة تحديدا ضمن معايير إسرائيلية بحتة، إما معتدلون أو متطرفون، متحضرون أو متخلفون، محبو سلام أو أشرار، وكل ذلك بناء على مدى تقبلهم للاحتلال الإسرائيلي أو رفضهم إقامة "دولة يهودية" على ترابهم الوطني.

هذا الأسلوب في التعاطي مع القضية الفلسطيني أثمر في النهاية فشلا أميركيا ذريعا في التوصل إلى صيغة سلام عادلة تنهي الصراع الدائر منذ سبعة عقود. وهذا الفشل يمكن أن يؤدي إلى حرمان الولايات المتحدة من نفوذها وأفضليتها وبالتالي يمكن أن يحدث ضررا مباشرا للسياسة الأميركية تجاه المنطقة.

إلا أن كل ذلك لا يزال بالإمكان تجنبه أو تغييره.
إن ارتباط اليهود الأميركيين بإسرائيل قد ازداد قوة في العقود القليلة الماضية. والفتور الذي قوبلت به إسرائيل العمالية/الاشتراكية حل محله الإعجاب والحبور بعد كسب إسرائيل حرب عام 1967 واحتلالها لفلسطين بالكامل.

ونتيجة لذلك، ولدت "علاقة خاصة" تبنت بموجبها أميركا إسرائيل و"أمركتها" حتى أضحت الطفل المدلل الذي يحق له ما لا يحق لغيره، ليبدأ بعد ذلك مدٌ هادر من الدعم اليهودي للحليف الإقليمي الجديد لأميركا.

ولكن رغم ذلك، فإن معظم اليهود الأميركيين ظلوا في الولايات المتحدة ولم يهاجروا إلى إسرائيل جماعات وفرادى كما فعل اليهود في باقي بلدان العالم، واستطاعوا ببقائهم في الولايات المتحدة توفير دعم لا يقدر بثمن لإسرائيل. دعم على كافة الصعد، مالي وسياسي وحتى إستراتيجي.

لقد هاجر ما يقدر بأربعة ملايين يهودي إلى قارة أميركا الشمالية بين عامي 1860 و1960، ومما يسجل لهم أنهم وأحفادهم أضحوا لاعبين أساسيين ومؤثرين في دوائر صنع القرار الأميركي، ولذلك فوجودهم كان له كبير الأثر على قضية اليهود المركزية: فلسطين وإسرائيل.

ومما ساعد في تكريس رجحان الكفة لصالح اليهود هو أن فلسطين ككيان، ليس لها أي ثقل إستراتيجي في حسابات الولايات المتحدة، والأميركيون من أصل عربي وفلسطيني فشلوا في شن هجوم مضاد يتسم بنفس عوامل القوة والتأثير أو يتفوق عليها.

إضافة إلى ذلك، العالم العربي طالما كان مقسما وضعيفا مما أدى إلى غياب ضغط إقليمي فاعل على واشنطن لتتصرف بإنصاف ومسؤولية فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية. ومن انعكاسات غياب التأثير العربي على واشنطن، أن رؤية الأخيرة للقضية الفلسطينية أصبحت رهينة النفوذ اليهودي داخل أميركا.

اليهود الأميركيون المعتدلون يرون في التوصل إلى تسوية في الضفة الغربية خطوة ضرورية للمحافظة على الهوية "الديمقراطية" للدولة اليهودية، وضمانا لدعم أميركي مطرد لإسرائيل

ولم يسجل في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي سوى حالتين استثنائيتين اتخذت فيهما الولايات المتحدة موقفا مغايرا لمصالح اليهود الأميركيين وإسرائيل، الأولى عام 1991 في عهد الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش (الأب) عندما أصرت واشنطن على وقف إسرائيل لنشاطها الاستيطاني لفسح المجال لعقد المؤتمر الدولي للسلام.

والموقف الثاني كان عام 2010 عندما حذر الجنرال ديفد بترايوس من أن القضية الفلسطينية أصبحت "مصدرا لتغذية المشاعر المعادية للولايات المتحدة التي ينظر إليها على أنها تتحيز لصالح إسرائيل".

ولكن حتى تحذيرات بترايوس سرعان ما تبخرت وتم تجاهلها عندما انخرطت الولايات المتحدة مرة أخرى في رعاية محادثات السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين.

من جهة أخرى، فقد ظل الصهاينة الأميركيون متمسكون بشكل كبير بأطروحاتهم القديمة والتقليدية رغم قيام مؤرخين إسرائيليين على وجه الخصوص، بتعرية تلك الطروحات وكشف مخططاتهم السرية المبكرة لابتلاع فلسطين وجرائم الحرب التي ارتكبوها في سبيل ذلك الهدف. واستمر الصهاينة الأميركيون بتبني أساطيرهم القديمة فيما يتعلق بإسرائيل اليوم على أنها معجزة ومقدسة.

حالة استقطاب
مع مجيء الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى السلطة، انعطفت أميركا نحو اليسار، بينما اتجهت إسرائيل في انتخابات عام 2009 نحو اليمين أكثر فأكثر، وهذا ما تسبب في حالة استقطاب وغربلة للنخبة اليهودية الأميركية المنظمة، كما ولّد ضغطا على اليهود المعتدلين ليوجهوا انتقادات لما يسمى بـ"أرض إسرائيل"، والنأي بأنفسهم عن السياسات المتطرفة لحكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.

هذا الانقسام، أحيا الجدل السياسي القديم الجديد بين اليهود المعتدلين المطالبين بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي ووقف بناء المستوطنات غير القانوني والعمل على إنجاح الدولة الفلسطينية، وبين اليهود المتشددين الذين يطالبون أن يعترف الفلسطينيون بإسرائيل على أنها "دولة يهودية" وأن يتخلوا عن مطالبهم في القدس وأن يسقطوا حق العودة، وكل ذلك حتى قبل أن يتم التوصل إلى تسوية مقبولة في عملية السلام.

وبناء على ما تقدم تبدو أطروحات اليهود المعتدلين لأول وهلة على أنها خطوة كبيرة في الاتجاه الصحيح نحو الاعتراف بحقوق الفلسطينيين في بلدهم، فلسطين، إلا أنها في الحقيقة تدفع بشكل رئيسي باتجاه المصالح الإسرائيلية، وليس الفلسطينية.

إن اليهود الأميركيين المعتدلين يرون في التوصل إلى تسوية في الضفة الغربية خطوة ضرورية للمحافظة على الهوية "الديمقراطية" للدولة اليهودية، وتضمن دعما أميركيا مطردا لإسرائيل.

إلا أن هؤلاء المعتدلين لا يرون أهمية اعتراف إسرائيل بالظلم التاريخي الذي وقع على الفلسطينيين، ولا يلتفتون إلى تعويض الفلسطينيين عن سبعة عقود من الاغتصاب لأملاكهم وأموالهم وأرضهم، وأكثر من أربعة عقود من الاحتلال العسكري.

بعبارة أخرى، في الوقت الذي يسعى فيه المعتدلون لإنقاذ إسرائيل من نفسها، وتخليص اليهودية من آثام الاحتلال العسكري والتفرقة العنصرية، إلا أنهم يرفضون التعامل مع الفلسطينيين على أنهم ضحايا عدوان إسرائيل.

ورغم كل ما قيل، علينا أن لا نخطئ الظن ونتصور أن كل يهود أميركا مؤدلجون وأصحاب هدف يتطابق مع أهداف الصهيونية، فبينهم من ليس بصهيوني بل وناشط ضد الصهيونية.

علينا ألا ننسى أن اليهود العلمانيين الذين لا يقدمون أنفسهم كيهود بالضرورة، هم الفئة التي تبنت أكثر المواقف إنصافا وأخلاقية من القضية الفلسطينية

وإذا كان اليهود ألد أعداء فلسطين في الولايات المتحدة، فمنهم أيضا أشد الداعمين لقضيتها وأعلاهم صوتا في الدفاع عنها.

وهذا أمر حري أن يكتسب احترامنا، لأن دعم إسرائيل في الولايات المتحدة أمر محمود ومبارك، بل حتى مجز وتترتب عليه إعفاءات ضريبية، بينما دعم القضية الفلسطينية يمكن أن تكون له عواقب سياسية مالية وخيمة إذا كان الداعم من اليهود الأميركيين.

ومن بين أشد الداعمين للقضية الفلسطينية أقلية من اليهود الأرثوذوكس المتشددين وهم مجموعة مناهضة للصهيونية ترى في قيام إسرائيل خروجا على التعاليم اليهودية التي تؤمن بقيام إسرائيل، ولكنها تقول إنها ستقوم بمشيئة إلهية محضة وأن الإنسان يجب ألا يتدخل في تحقيق مشيئة الله تلك، وأن قيام إسرائيل الحالية تم بتدخل إنساني سافر.

ولكن، علينا ألا ننسى أن اليهود العلمانيين الذين لا يقدمون أنفسهم كيهود بالضرورة، هم الفئة التي تبنت أكثر المواقف إنصافا وأخلاقية من القضية الفلسطينية. وسواء اتفقنا معهم أم اختلفنا، فهم مجموعة تصنف الفلسطينيين بشكل واضح لا لبس فيه كضحايا سلب واغتصاب الممتلكات والقهر.

إنهم يعتبرون القضية الفلسطينية امتدادا للنضال من أجل الحرية والتحرر من الاستعباد والاحتلال والحرب.

توجههم كوني بحق، ودافعهم أخلاقي وليس عرقيا. إلا أنهم يظلون أقلية، وعلى هامش المؤسسة الأميركية ودوائر صنع القرار، وخارج الدائرة اليهودية المتنفذة في أميركا.

فلسطين.. امتحان أميركا
قد يميل الرئيس أوباما قليلا لأطروحات وضغوط اللوبي الصهيوني اليهودي المعتدل (جي ستريت)، ولكن الحكومة الأميركية والكونغرس الأميركي مستمران دون شك في اتباع خطوات وأهواء اللوبي الإسرائيلي المتطرف المتمثل بلجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية (أيباك).

لا يمكن للحكومة الأميركية أن تتظاهر بأنها وسيط عادل عندما تكون "محامي إسرائيل" كما وصفها صهيوني أميركي عضو في وفد أميركي سابق في مفاوضات السلام

وهكذا تستمر مؤسسة السياسة الخارجية الأميركية بالتأرجح بين معتدلي الصهاينة ومتطرفيهم، بدل أن تقوم بوساطة نزيهة بين الإسرائيليين والفلسطينيين، والنتيجة هي فشل ذريع لمفاوضات سلام عمرها عقدان من الزمن، لم تسفر سوى عن هدم مصداقية الولايات المتحدة في المنطقة العربية.

في الفترة التي تلت فشل مفاوضات كامب ديفد عام 2000، أتذكر أنني قرأت بأن الفلسطينيين -والعرب من قبلهم- شعروا أن الوفد الأميركي كان مقسما إلى عماليين وليكوديين في إشارة إلى حزبي إسرائيل العمال والليكود ويمثل الأول الوسط بينما يتبنى الثاني سياسة اليمين.

في الواقع، أحد المراقبين لاحظ أن الوفد الأميركي لمفاوضات كامب ديفد الأولى بين إسرائيل ومصر كان بالكامل من مسيحيين أميركيين باستثناء السفير الأميركي صامويل لويس في إسرائيل آنذاك، بينما كامب ديفد عام 2000 مع الفلسطينيين أظهرت وفدا أميركيا مكونا بالكامل من يهود مؤيدين لإسرائيل باستثناء الرئيس الأميركي آنذاك بيل كلنتون.

أنا شخصيا ليست لدي هذه المعلومات، ولا أبحث عن من هو يهودي ومن غير يهودي، ولا أقيّم الناس على أساس دينهم، ولكن الوجود الطاغي لمؤيدي إسرائيل من اليهود وغير اليهود في المؤسسة الأميركية هو بلا شك مبعث قلق.

هل يعني اسم مارتن إنديك شيئا لكم؟ هو مثل سلفه دينيس روس، هذا الحليف الوثيق لإسرائيل هو الذي يمثل الولايات المتحدة في المفاوضات بين الإسرائيليين والفلسطينيين بشكل يومي.

لا يمكن للحكومة الأميركية أن تتظاهر بأنها وسيط عادل عندما تكون "محامي إسرائيل" كما وصفها صهيوني أميركي كان أحد أعضاء الوفد الأميركي في مفاوضات السلام في السابق.

والأمر هكذا، فالمسألة لم تعد مسألة عرق أو دين، وإنما مسألة حكمة سياسية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.