بيان وزراء التعاون.. بداية مصالحة أم مزيد خلاف؟

بيان وزراء التعاون.. بداية مصالحة أم مزيد خلاف؟

خلافا للمعتاد من دول مجلس التعاون الخليجي في عدم إظهار خلافاتها البينية للعلن، فقد بدت أزمة سحب سفراء الثلاثي الخليجي -السعودية والإمارات ومعهما البحرين- من قطر عكس المعتاد، وظهرت خلافا علنيا واضحة مقاصده أو من أراد إبرازه، ليعيش الخليج، شعوبا ورسميين، بين شدّ وجذب في مشهد غير معهود في الخليج.

قبل أن نتعمق في الموضوع، فإن التطرق إلى بدايات الأزمة قد يكون مفيدا بعض الشيء لكي ندرك تفاصيل الأزمة وكيف بدأت إلى أن انتهى الأمر بالاتفاق الأخير، الذي وقعه وزراء خارجية التعاون الخليجي في قاعدة عسكرية بالرياض يوم الخميس الفائت.

يتضح من البيان أن لكل دولة سيادة، ومن مستلزمات ذلك الحق في اتخاذ قرارها المناسب فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، مما يعني اتفاقا على عدم إكراه أي دولة عضو على رأي معين قد تراه ضد مصلحتها

في سابقة لم تعهدها لا حكومات ولا شعوب المنطقة، ظهر فجأة في الأخبار قرار اتخذته ثلاث دول أعضاء بمجلس التعاون الخليجي، هي السعودية والإمارات ومعهما البحرين، بسحب سفرائها من قطر، وجاء في بيانها أن ذاك القرار تم اتخاذه بسبب "تدخلات" قطر في شؤونها الداخلية والمساس بأمن المنطقة ومصالح شعوبها!

جاء البيان القطري سريعا ومتسما بالهدوء والحكمة، حيث أفاد بأنه "لا علاقة للخطوة التي أقدم عليها الأشقاء في المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والبحرين بمصالح الشعوب الخليجية وأمنها واستقرارها، بل باختلاف في المواقف حول قضايا واقعة خارج دول مجلس التعاون".

ولم تمض فترة طويلة حتى تفاجأ الجميع مرة أخرى باجتماع دعت إليه الرياض، يحضره وزراء خارجية دول مجلس التعاون يوم الخميس الفائت، والخروج ببيان رسمي، بدت صياغته متعمقة في الرسمية وواضحة في الوقت ذاته، بحيث لا يمكن أن تُفهم أو تتحمل أكثر من أن الوزراء اتفقوا على أمور متفق عليها سابقا على شكل مبادئ ومواثيق، من تلك التي قام عليها كيان المجلس قبل أكثر من ثلاثة عقـود. حيث "تم الاتفاق على تبني الآليات التي تكفل السير في إطار جماعي، ولئلا تؤثر سياسات أي من دول المجلس على مصالح وأمن واستقرار دوله ودون المساس بسيادة أي من دوله".

بان الأمر إذن، ووضح أن لكل دولة سيادة، ومن ضمن تلك السيادة الحق في اتخاذ القرار المناسب فيما يتعلق بسياستها الخارجية، أي أنهم بشكل مختصر واضح اتفقوا على عدم إكراه أي دولة عضو على رأي معين قد تراه ضد مصلحتها، وأن الأصل في تلك الوقائع حدوث تنسيق ونقاش لأجل الوصول إلى رأي يتوافق مع مصالح ورؤى الأعضاء، لا أن يُجبر البعض على أمر اتفق عليه البعض الآخر.

وهذا ما يؤيد ضمنا البيان القطري الأول من أن الخلاف الذي حدث، وانقسم الخليجيون على أنفسهم وبسببه حدثت أزمة سحب السفراء، لا علاقة له بمصالح الشعوب الخليجية وأمنها واستقرارها، بل يتعلق باختلاف في المواقف بشأن قضايا واقعة خارج دول مجلس التعاون، والقضية الأبرز بكل تأكيد هي الموقف من حكومة الانقلاب في مصر، وتأتي بعدها الثورة السورية، وإن كان الخلاف على القضية الأولى هو الأبرز والأكثر تأثيرا على علاقات دول الخليج بعضها ببعض.

بعد صدور البيان الوزاري الخليجي الأخير، انقسم المحللون والنقاد والمتابعون للشأن الخليجي وعلاقاته الإقليمية، وبدا كل فريق ينظر للاتفاقية أو البيان وفق مواقفه تجاه دول المجلس، إضافة إلى موقفه الشخصي تحديدا من قطر ومن ثم جماعة الإخوان المسلمين!

لقد بدا واضحا للعيان أن البيان صيغ بطريقة تفيد بأنه لا غالب ولا مهزوم في الخلاف أو الأزمة التي نشبت بين الخليجيين مؤخرا، ولا أجد شيئا في تلك الصياغة يعيبها، انطلاقا من مبدأ دبلوماسي يحفظ لكل دولة وجاهتها واعتبارها.. وأما من صنّف المختلفين إلى فائز ومهزوم فهو بكل تأكيد قام بذاك التصنيف وفق مواقفه التي أسلفنا ذكرها قبل قليل.

الفريق الذي وقف ضد قطر هو دون ريب يقف ضد جماعة الإخوان، إذ يتم الربط دوما بين قطر والإخوان منذ أن بدأت ثورات الربيع العربي، والزعم بأن قطر تقف موقف الداعم الأكبر للجماعة، دون تقديم أدلة قانونية صلبة يمكن الاستناد عليها فضلا عن قبولها، معتبرين موقف قطر مما جرى بعد الثالث من يوليو/تموز الماضي في مصر والانقلاب على حكومة منتخبة دليلا على ذلك، وهو في رأيي لا يُعد دليلا كافيا على أنها تقف إلى جانب الإخوان وتدعمهم، ولو صح هذا الزعم جدلا لرأيت وضع الإخوان وقيادتهم وأعضائهم أفضل مما هم عليه الآن، وليس هذا صلب الحديث.

القضية الأساسية في الخلاف الخليجي هي الموقف من حكومة الانقلاب في مصر، والبيان لم يأت على هذا الخلاف لا من قريب أو بعيد، مما يفهم منه ضمنيا أنه لا يعارض قطر في رأيها تجاه أحداث مصر

من يقف ضد سياسة قطر تجده بالضرورة يعارض توجهات الإخوان، وحين يأتي ذكر الإخوان متلازما مع قطر فلا بد أن تضيف ها هنا الجزيرة أيضا، أو كما يحب الفريق المعارض لقطر هذا التصنيف.

هذا الفريق رأى في البيان الخليجي الأخير ضربة لقطر التي تنازلت عن شروطها السابقة، وأنها "رضخت" لمطالب الأشقاء الخليجيين، وتم سرد الكثير من تلك التنازلات ونشرها في وسائل إعلام معينة، والتي لم تثبت واحدة منها بدليل واضح قاطع يفيد بأن قطر تنازلت، وإنما هي في ظني مجموعة من الأمنيات لذاك الفريق، تمنى وما زال يتمنى حدوثها، لكن الواقع يفيد بالعكس من ذلك تماما.

القضية الأساسية في الخلاف الخليجي، كما أسلفنا، هي الموقف من حكومة الانقلاب في مصر، والبيان لم يأت على هذا الخلاف لا من قريب أو بعيد، بما يشير أو ربما يُفهم منه ضمنيا أنه لا يعارض قطر في رأيها تجاه الأحداث في مصر.

وظني أن الرأي القطري ليس بدعا من القول أو الفعل، وليس هو الوحيد المعارض في العالم لما حدث في مصر، حيث ترى قطر وما زالت تصر على أن التوافق الوطني هو الحل الوحيد لاستقرار مصر، أما ما عدا ذلك فهو استمرار لوضعية عدم الاستقرار التي تعيشها مصر منذ أكثر من عامين..

مما سبق يتبين أن قطر لم تتنازل إذن عن موقفها تجاه مصر، أو كما أراد البعض إيهام الآخرين بذلك، ويتبع ذلك الموقف الثابت لقطر، أداء قناة الجزيرة، التي ما زالت كما هي في موقفها الواضح من حكومة الانقلاب، وهذا يفند مزاعم الفريق المضاد لقطر أنها تنازلت عن مسألة وقوف الجزيرة مع ثورات الربيع العربي والثورة المصرية أبرزها..

نعود للبيان فنقول إنه لم يُلزم قطر فحسب، أو كما توهمه البعض وأراد رسم صورة ذهنية عند الآخرين بأن البيان جاء لإلزام قطر ووجوب رضوخها للقرار الجمعي الخليجي، بل إن البيان واضح وصريح ويلزم الجميع ببنوده وليس قطر فقط، ولعل أهم بنوده هو احترام سيادة كل دولة، والسياسة الخارجية جزء من السيادة لأي دولة.

من هنا يمكن القول إن قطر لم تتراجع عن مواقفها السابقة التي تعتبرها ثوابت في الإستراتيجية القطرية، التي من ضمنها الحفاظ على أمن وسلامة المنطقة وشعوبها، ولكن الذي حدث وتسبب في إصدار البيان المفاجئ هو تفهّم الخليجيين للرأي القطري ووجاهته، وخاصة فيما يتعلق بالشأن المصري والموقف من حكومة الانقلاب، والذي بدا للخليجيين الداعمين لها أنه مكلف للغاية، إذ لا تبدو في الأفق مؤشرات إيجابية على قرب استقرار الوضع، أو التقليل من الاعتماد على الدعم الخليجي.

هذا الأمر قد يفتح الباب واسعا من جديد أمام الخليجيين الداعمين للحكومة الحالية في مصر لإعادة تقييم الوضع واتخاذ موقف جديد، وهو ما قد يؤدي لخلاف جديد خاصة إن وضعنا في الاعتبار بعض التسريبات الإعلامية عن الموقف الإماراتي المتشدد تجاه تغيير الموقف من مصر، ومعارضتها غير المعلنة للبيان الوزاري الأخير، الذي تراه قد أرجع الأمور إلى نقطة ما قبل حدوث أزمة السفراء، وكأنها لم تحدث ولم تك شيئا!

ربما تتغير أولويات عند السعودية والإمارات، وهو ما قد يؤدي إلى خلافات، هي مستترة حاليا، لكن لا شيء يمنع خروجها إلى السطح فجأة، شأنها شأن قرار سحب السفراء ثم البيان الأخير المفاجئيْن

هذا يعيدنا مرة أخرى إلى البيان القطري الأول الذي أحرص في هذا المقال على التذكير به، وأن الموقف المتشدد من الثلاثي الخليجي الذي حصل مع قطر ما كان سببه أمن ومصلحة شعوب الخليج، بل بسبب اختلاف في المواقف حول قضايا واقعة خارج دول مجلس التعاون، والأبرز من تلك القضايا هي مصر.

البيان الوزاري أجده من قراءتي له قد احترم ضمنا القرار القطري فيما يتعلق بالموقف من حكومة الانقلاب في مصر، وهو ما قد يدفع بغيرها إلى إعادة النظر أيضا.. لكن مع قليل من استقراء الأحداث السابقة، فلا أتوقع تغييرا في الموقف الإماراتي، بل ربما تجنح إلى التشدد في الموقف والانفراد في القرار تجاه مصر، وقد تتوسع أكثر فترتبط بعلاقات ومصالح إستراتيجية مع إيران، وفي الأخبار أنها قد بدأت فعلا، ردا على الحماسة السعودية في موضوع بيان المصالحة الخليجية.

وهذا مؤشر فيما يبدو على أن الأولويات ربما بدأت تتغير عند الدولتين السعودية والإمارات، وهذا التغير في الأولويات قد يؤدي إلى خلافات، هي مستترة حاليا، لكن لا شيء يمنع خروجها إلى السطح فجأة، شأنها شأن قرار سحب السفراء المفاجئ، ومن بعده البيان الوزاري الخليجي المفاجئ أيضا.

فهل نحن على وشك مفاجأة خليجية ثالثة قريبة، وتكون قطر هذه المرة بعيدة عنها؟ ربما.. إذ لا شيء يمنع وقوعها في أي مكان وأي زمان بالخليج!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.