الجهل والخطر وراء دعوات الحرب الباردة

الجهل والخطر وراء دعوات الحرب الباردة..مروان بشارة

 undefined

 من الواضح أن الرياح التي تنذر بعودة الحرب الباردة كانت محسوسة للجميع، إلا أن الأزمة الأوكرانية قد نفخت فيها نارا حتى بلغت سخونتها مبلغا تكشفت معه درجة الهستيريا التي تسود التضارب بين العقائديين الأميركيين والروس.

إن سخونة الأزمة بلغت مبلغا جعل حتى الشخصيات الأميركية المعروفة ببرودة الأعصاب تتحدث عن ضرورة التحرك لمنع حرب باردة جديدة "لا تقدر بلادهم على تحمل تكلفتها".

ويطرح السؤال التالي نفسه: هل الحرب الباردة بنسختها الثانية مرحب بها؟ كثير من الذين يستخدمون مصطلح "الحرب الباردة" اليوم يستخدمونه لمجرد الرمز لمخاطر اتساع الهوة بين موسكو وواشنطن، إلا أن الأخطر من ذلك أن هناك أشخاصا يستخدمون هذا المصطلح لترويج إعادة سباق التسلح في أوروبا كما كان الحال أيام الحرب الباردة قبل انهيار الاتحاد السوفياتي في 25 ديسمبر/كانون الأول 1991.

كثير من الذين يستخدمون مصطلح "الحرب الباردة" اليوم يستخدمونه لمجرد الرمز لمخاطر اتساع الهوة بين موسكو وواشنطن، إلا أن الأخطر من ذلك أن البعض يستخدمه للترويج لإعادة سباق التسلح في أوروبا

لقد كانت الحرب الباردة فريدة من نوعها، حيث كانت تدور على جبهات متعددة من دون انقطاع وبزخم متساوٍ، فهناك الحرب على الجبهة العقائدية، وهي حرب اتخذت شكل المواجهة الفكرية والفلسفية، وحرب على جبهة الرؤى التي تتعلق بمستقبل العالم، وهناك الحرب الكونية النووية، وكذلك الحرب الدولية التي تضمنت صراعا لكسب الدول في كل قارة من قارات العالم، وأخيرا وليس آخرا حرب الإستراتيجيات بين أعتى قوتين عسكريتين في العالم.

ولكن، إذا ألقينا نظرة على الحرب الباردة التي كانت تدور في القسم الجنوبي من الكرة الأرضية فسوف نجد أنها لم تكن باردة حقا كما كان الحال في القسم الشمالي، فقد كانت الحروب بالوكالة تستعر يمينا وشمالا بين كيانات مدعومة إما من الولايات المتحدة أو الاتحاد السوفياتي آنذاك، وكانت النتيجة أناسا يقتلون كل يوم.

كانت إستراتيجية واشنطن تقوم على ثلاثة محاور: مواصلة إبقاء الاتحاد السوفياتي خارج عن مناطق النفوذ الأميركي، المحافظة على ألمانيا الغربية تحت السيطرة وبقاء الأميركيين في أوروبا الغربية.
وفي المقابل، كانت إستراتيجية موسكو تقوم على إحكام القبضة على أوروبا الشرقية، وإبقاء الأميركيين خارج مناطق نفوذ الاتحاد السوفياتي.

وفي خضم انخراط القوتين العظميين في تحقيق تلك الإستراتيجيات تولدت لكل منهما تحالفات عسكرية عملاقة قل مثيلها في التاريخ البشري: حلف شمال الأطلسي (الناتو) الذي ضم دولا بشكل رئيسي (غرب أوروبا والولايات المتحدة)، وحلف وارسو الذي ضم بصورة رئيسية دول أوروبا الشرقية والاتحاد السوفياتي.

قامت القوتان طبقا لتلك الأحلاف بنشر قوات وأسلحة على خطوط التماس بين أوروبا الشرقية والغربية تعتبر الأكبر في التاريخ.

من هنا، فإن استخدام مصطلح "الحرب الباردة" اليوم يعتبر أمرا لا معنى له، لثلاثة أسباب:
الأول أن حلف وارسو لم يعد له وجود والناتو تمدد شرقا حتى وصل إلى تخوم روسيا، ألمانيا اليوم قوة تتهيأ لقيادة أوروبا، أما أميركا فقد أكملت للتو سحب ثلثي قواتها من أوروبا كجزء من خطة لإعادة نشر قواتها على مستوى العالم تتضمن اعتبار آسيا محورا مهما (مع تواصل صعود الصين كقوة لا يستهان بها اقتصاديا وعسكريا).

والثاني عودة الحرب الباردة تعني إعادة تقسيم العالم من جديد إلى مناطق نفوذ، لقد دعمت واشنطن لعقود طويلة أنظمة شمولية بهدف استخدامها لوقف المد الشيوعي، وفي المقابل قامت موسكو ببناء أنظمة دكتاتورية وحركات متشددة لمواجهة الإمبريالية والرأسمالية.

ولتحقيق ذلك، قامت القوتان آنذاك بتسليح قتلة وسفاحين وأفاقين ودعمتا حركات وشخصيات إرهابية، واحتضنتا مجرمين دوليين ومولتا قتلة مأجورين في مختلف أصقاع الأرض.

من جهتها، موسكو هجرت مهمتها في تغيير العالم، رغم أنها تقوم من وقت لآخر برمي ثقلها خلف دكتاتور ما معادٍ للولايات المتحدة، إلا أن ذلك لا يرتقي إلى مستوى الجهد الذي كان يبذل أثناء الحرب الباردة.

ربما يمكن أن يُسمى ما تقوم به روسيا أنه سعي لأن تكون قوة إقليمية مسلما بها، إلا أن أيام الاتحاد السوفياتي أو ما كان يعرف باسم "إمبراطورية الشر" قد ولت منذ أمد طويل.

الحرب البادرة لم تعد، ولا تقوى لا الولايات المتحدة ولا روسيا على تحمل تكلفة عودتها. ربما لم يفعل أوباما وبوتين الكثير لنزع فتيل الأزمة، إلا أنهما التفتا عن صيحات الذين يدقون طبول الحرب

إن إعادة قيام الإمبراطورية تتطلب أكثر بكثير من مجرد الأخذ بيد الرئيس السوري بشار الأسد أو الربت على كتفي عبد الفتاح السيسي وزير الدفاع المصري السابق والمرشح لرئاسة مصر.

إن بناء إمبراطورية جديدة أو إحياء واحدة قديمة يتطلب قوة اقتصادية ورؤية للعالم قادرة على توليد زخم عقائدي مؤثر، وروسيا اليوم تفتقر إلى كل هذه الأمور.

على الصعيد الاقتصادي، روسيا تبنت الرأسمالية الغربية ونمطها في الإنتاج منذ فورة التحول إلى اقتصاد السوق التي اجتاحتها في تسعينيات القرن الماضي، رغم وجود تدخل حكومي بمستويات مختلفة.

إن الاقتصاد الروسي اندمج -ولا يزال يقوم بخطوات إضافية- في النظام الاقتصادي العالمي الذي يسيطر عليه الغرب.

لقد انضمت روسيا إلى منظمة التجارة العالمية، وهي عضو في منظمة الدول الصناعية الكبرى الثماني المعروفة اصطلاحا باسم "جي8" (G8) قبل تعليقها عضويتها هذا الأسبوع. من جهة أخرى، إن حجم تجارتها مع الولايات المتحدة يبلغ 38 مليار دولار، ولديها 139 مليار دولار في سندات ضمان الخزينة الأميركية.

أما الشريك الاقتصادي الأول لروسيا فهو الاتحاد الأوروبي، ويبلغ حجم تبادلها التجاري مع الاتحاد 50% من مجمل صادراتها ووارداتها، ويقدر ذلك التبادل بـ330 مليار دولار سنويا.

ولهذه الأسباب، فإن تحذيرات واشنطن المتتالية لأوروبا لم تلقَ آذانا صاغية، لأنها غير ذات جدوى من المنظور الاقتصادي والتجاري، ولأن الأوروبيين يعلمون علم اليقين أن التجارة والمال هما أفضل السبل لتحقيق الأمن.

الحرب البادرة لم تعد، ولا تقوى لا الولايات المتحدة ولا روسيا على تحمل تكلفة عودتها، ربما لم يفعل كل من الرئيس الأميركي باراك أوباما ونظيره الروسي فلاديمير بوتين الكثير لنزع فتيل الأزمة، إلا أن كليهما التفت عن صيحات الإستراتيجيين المتطرفين والعقائديين الذي أطلقوا صيحات تشبه دق طبول الحرب.

إن الولايات المتحدة -التي خرجت من الحرب العالمية الثانية وهي تنتج 50% من الناتج الإجمالي العالمي- لا تنتج اليوم سوى 20% وحتى هذه النسبة في انخفاض مستمر.

ربما من الأجدى مراقبة ما ستؤول إليه الأزمة الأوكرانية، وهل ستغير من قواعد اللعبة بروسيا في ما يتعلق بعلاقاتها مع الغرب.

من جهة أخرى، رغم أن التوتر بين العاصمتين الكبريين موسكو وواشنطن قد لا يرقى إلى وصفه بعودة الحرب الباردة فإنه قد يكون كافيا ليؤثر سلبا في الاستقرار بأوروبا ومناطق أخرى.

لهذا، فإن على بعض الذين يهمهم الأمر أن يقلعوا عن لغة الاستقطاب، وأن يتفقوا على إيجاد حل بديل لأوكرانيا، ولإسكات أولئك الذين يدقون طبول الحرب في كلتا العاصمتين.

ربما على الغرب أن يكون أكثر استيعابا وتفهما لمخاوف ومصالح روسيا، وعلى روسيا أن تكون أكثر تعقلا في رسم وتنفيذ إستراتيجياتها.

رغم أن التوتر بين العاصمتين الكبريين موسكو وواشنطن قد لا يرقى إلى وصفه بعودة الحرب الباردة فإنه قد يكون كافيا ليؤثر سلبا في الاستقرار بأوروبا ومناطق أخرى

وذلك يعني -إضافة إلى أشياء كثيرة- المحافظة على حياد أوكرانيا كبلد يمثل خطا فاصلا بين روسيا وحلف الناتو، ولقد كان إعلان رئيس الوزراء الأوكراني المكلف أرسيني ياتسينيوك أن كييف لن تنضم إلى حلف شمال الأطلسي خطوة في الاتجاه الصحيح.

ومن جملة الأمور المهمة التي تأتي ضمن سياق نزع فتيل الأزمة رفض أي محاولة من قبل اللاعبين الأساسيين لتصدير أزماتهم إلى الشرق الأوسط.

وأخيرا، على موسكو وواشنطن أن تواصلا برنامج نزع الأسلحة النووية الذي بدأتاه في مرحلة ما بعد الحرب الباردة وصولا إلى خيار الصفر الذي نصت عليه معاهدة نزع الأسلحة النووية.

وإذا استمرت روسيا والولايات المتحدة ببناء ترسانتهما النووية وأصبح خيار الصفر مجرد حبر على ورق فإن على الدول الأخرى أن تطور هي الأخرى أسلحتها النووية، لأن التخلي عن نزع الأسلحة النووية أمر غير مقبول.

لقد علا صوت منظري عودة الحرب الباردة مؤخرا، لأن صوت معسكر السلام ليس عاليا كفاية.
لقد حان الوقت للجم دعاة الحرب وحشرهم بعيدا، حيث لا يصل صوتهم إلى مسامع أحد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.