سوريا.. ما بعد ذهنية "التشبيح"

عماد مفرح مصطفى / سوريا.. ما بعد ذهنية "التشبيح"

undefined

كان شعار "شبيحة للأبد"، الشعار الأكثر ترددا في الساحات العامة أثناء المسيرات "المؤيدة" للنظام، كتأكيد على الخضوع الأبدي لمذلة الاستبداد وسلطته، مثلما كان ترديده، يُعبر عن الانصياع "الأزلي" لتلك الظاهرة "الفاشية" المقلقة للسوريين، والمسماة بظاهرة "التشبيح" التي أصبحت نارا ووقودا لآلة القتل والتعنيف دون أن يحدها أي رادع أخلاقي أو قيمي.

"الشبيح" كصفة، و"التشبيح" كممارسات، هي أمور خبرها السوريون خلال السنوات الثلاث الماضية، كأخطر الأسلحة الفتاكة المسلطة على حياتهم، عبر تحفيز بعض الجماعات "المؤيدة للنظام" على اتخاذ العنف "مهنة" ضد المعارضين، المختلفين عنهم، برؤاهم السياسية وتوجهاتهم الأيديولوجية.

كانت وما تزال ظاهرة "التشبيح"، من أساسيات ثقافة النظام "البعثي"، القائم على التذكير المستمر للناس بإرهابه وبطشه الذي لا يعرف حدودا، وإظهار نفسه على أنه يمتلك الأذرع الخفية والقاعدة الاجتماعية، التي لا تتوانى عن ممارسة الإرهاب والترهيب لصالح النظام، خارج منظومة "الدولة" و"الأجهزة الأمنية".

"الشبيح" كصفة، وكممارسات، هي أمور خبرها السوريون خلال السنوات الثلاث الماضية، كأخطر الأسلحة الفتاكة المسلطة على حياتهم، عبر تحفيز جماعات "مؤيدة للنظام" على اتخاذ العنف "مهنة" ضد المعارضين

وفي هذا الاتجاه، يبدو واضحا أن الهدف من خلق وتعميم ظاهرة "التشبيح" وذهنيتها المرافقة، هو إشاعة النمط "البربري" في تعامل مكونات المجتمع السوري مع بعضه البعض، وتمزيق الأواصر والأطر الاجتماعية الحاملة لمفهوم الثورة، الراغبة في التغيير والتحول نحو نظام أفضل.

والحقيقة، أن ظاهرة "التشبيح"، المستندة إلى البيئة النفسية الخائفة والذهنية القاصرة والمشوشة، لم تكن وليدة اللحظة الثورية في سوريا، فهذه الظاهرة تعود بإشكالياتها إلى فترة الثمانينيات، التي شكلت بعنفها، صدمة للوعي السياسي السوري، إثر الصراع الدامي بين "الطليعة المقاتلة" (الفصيل العسكري لجماعة الإخوان المسلمين) والسلطة، وما تبع ذلك من إطلاق يد الأجهزة الأمنية في حياة الناس، مع إعلاء شأن النظرية "الستالينية" حول مفهوم "الأب القائد"، وتبجيل الأسرة الحاكمة وإظهارها كقوة "سلطانية" قاهرة، فوق القانون والمحاسبة.

ولعل ذلك هو ما شجع الكثيرين من أبناء العائلة الحاكمة على فتح مكاتب "شبه رسمية" للقيام بأعمال السمسرة والتهريب والمحسوبية، وممارسة "التشبيح الاقتصادي" بعد قيادة "حزب البعث"، "للدولة والمجتمع" نحو الفساد والإفساد.

مع انطلاقة الحراك الشعبي في سوريا، ومطالبته بالحرية والكرامة، شهدت ظاهرة "التشبيح" اهتماما واضحا من قبل النظام، ففي بداية الحراك السلمي، كان يتم استدعاء "الشبيحة" أيام الجمعة للقيام بقمع المظاهرات السلمية وضرب المحتجين، واعتقالهم وتسليمهم للأمن إلى جانب إقامة المسيرات المؤيدة.

مع التذكير بأن غالبيتهم كانوا من أبناء الأحياء الشعبية الفقيرة والعشوائيات، ومن "موظفي البعث"، وبعض العاملين بصفة مدنية في الهيئات والدوائر العسكرية للجيش، إضافة إلى عدد من أعوان الأمن كان يتم شحنهم بانفعالات ومشاعر مختلطة، دينية وأيديولوجية وقومية، بهدف قطع كل الروابط الإنسانية والاجتماعية التي تربطهم مع المحتجين.

وما إن بدأ الثوار بتسليح أنفسهم، حتى أخليت الواجهة من "المعتدلين" منهم لصالح الشخصيات الأكثر تطرفا وعنفا بعد تنظيمهم في "فرق الموت"، لشن حملات "بربرية" على الحواضن الاجتماعية الثائرة.

وبذلك أصبحت ظاهرة "التشبيح"، النمط الشائع في إدارة التجمعات "المؤيدة" و"المعارضة"، كآلية لتصدير العنف "الممنهج" إلى المجتمع، وإغراقه في حالة من الرعب والخوف والارتياب، وتّخيير السكان بين الموت، أو الهرب، أو الخضوع.

ظهرت الصبغة الطائفية الواضحة على مجموعات "الشبيحة"، وخاصة في المدن ذات التنوع المذهبي، بعد أن سوق النظام نفسه على أنه المدافع عن الأقليات- وخاصة "العلوية"- في مواجهة خطر "المجموعات الإرهابية المسلحة"، المفترض أنها "سنية" و"تكفيرية"، مستفيدة من الوعي "الطائفي" الجامع في بنيته بين الخوف من المستقبل وعقدة "الأقليات"، والصور النمطية حول الذات و"مظلوميتها التاريخية".

هكذا شكلت الهواجس المستقبلية محددات ثقافة "التشبيح"، الراغبة في زرع الخوف بسبب خوفها، معززة الروابط والانتماءات البدائية، على حساب الروابط الاجتماعية والإنسانية.

لم تكن هذه الظاهرة بعيدة عن التدخلات الإقليمية ومصالحها المتباينة في سوريا، وقد مهد الجوهر الطائفي لظاهرة "التشبيح" الطريق أمام التدخلات الإيرانية وحليفها اللبناني "حزب الله"، للقيام بتقديم كل أوجه الدعم والمساعدة العسكرية على أمل أن تصبح هذه المجموعات في المستقبل، "الفصيل العسكري" لأي تنظيم أو حزب، يكون بمثابة النسخة السورية "لحزب الله اللبناني".

وقد أعطتها السلطات في أواخر 2012، صفة قانونية تحت مسمى "قوات الدفاع الوطني"، كجيش احتياط متطوع، يغلف قلب النظام بقوة عسكرية "طائفية"، تقاتل عن عقيدة وخوف، مع إمكانية أن تصبح قوة أمر واقع في أي اتفاق أو معاهدة في المستقبل.

مع عجز ممارسات "التشبيح" عن تطويع البيئات السورية الثائرة، اندفع الداعمون لنهج "التشبيح" إلى ما يمكن وصفه بسياسة الهروب إلى الأمام، للوصول إلى ما بعد ذهنية "التشبيح" والمتمثلة في "إحراق البلد" واستهداف مستقبل سوريا، وقطع وتدمير سُبل التواصل الأهلي والسياسي، وزيادة التنافر الاجتماعي والأهلي وضخه بفائض من الحقد والضغينة.

مع عجز ممارسات "التشبيح" عن تطويع البيئات السورية الثائرة، اندفع الداعمون لها إلى ما بعد ذهنية "التشبيح" والمتمثل في "إحراق البلد" واستهداف مستقبل سوريا

غير أن تلك السياسة القائمة على "قصف" المستقبل السوري واستنزاف كيانيته إلى أبعد الحدود، خلفت معضلات خطيرة، ربما لن يتم الفكاك منها في المستقبل القريب، وتتمثل تلك الخطورة في تأسيس وترسيخ ثقافة المليشيات، بدفع كل المكونات السورية الاجتماعية والمذهبية والقومية، لتأسيس فصائل عسكرية خاصة بها، بحيث يأخذ كل فصيل على عاتقه حماية طائفته، وإشاعة نمط الحياة العسكرية القلقة في المجتمع، للوقوف في وجه "الإبادة المحتملة"، الأمر الذي يجعل من تنازل هذه المليشيات عن سلاحها طواعية في المستقبل، وانخراطها في مشروع سلمي ووطني، أمرا صعبا.

ترافق ذلك مع ضعف الحدود التنظيمية بين مجموعات "الشبيحة"، رغم انتسابها إلى الجذر الأيديولوجي الواحد، وهذه المعضلة ظاهرة لدى كل الجماعات السورية المسلحة، وإن بمستويات مختلفة، "فالشبيحة" لم تعد كتلة بشرية موحدة، وتحت إمِرة وقيادة واضحة، وقد حولهم إدمان الجرائم السياسية إلى ممارسة الجرائم الاجتماعية، كأمراء حرب، يستفيدون من دوامة الصراع ومتاهاته، ومن أعمال السلب والنهب.

الواضح أن كل الممارسات "التشبيحية"، بوصفها محاولة لمعاندة حركة وحكم التاريخ بالقوة، ومنع حصول أي تغيير والحفاظ على الوضع القائم، عجزت عن إعادة الخوف إلى قلوب السوريين، ما دفع النظام إلى إدخال عناصر "طائفية" جديدة، أكثر تطرفا إلى معترك الصراع السوري، وهو ما تمثل في تدخل عناصر من "حزب الله" و"لواء أبو فضل العباس" و"الحرس الثوري الإيراني"، كمرحلة تتجاوز فيها ظاهرة " التشبيح" لنفسها، ولحدودها ومحدداتها "الوطنية" وتذوب في التطرف الطائفي المشتعل في المنطقة.

قُصَارى القول، إن ذهنية "التشبيح" وما بعدها تحاول النيل من الروح السورية الثائرة، عبر تفخيخها بالنوازع التدميرية، الأمر الذي يستوجب من جميع المؤسسات والهيئات السورية الحريصة على بنية مجتمعها ومستقبله، محاصرة تلك الآفة وإشاعة خطاب جديد، يستبعد مفردات التشفي والثأر والانتقام، ويحرص على ممارسة العدالة وإحقاق الحق، وإخضاع كل مجرم لمحكمة عادلة، لكونها أقصر الطرق في بناء دولة المواطنة والحرية والعدالة الاجتماعية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.