السودان.. الثابت والمتحوّل في مفاوضات المنطقتين

رئيس وفد الحكومة السودانية إبراهيم غندور ورئيس الآلية الأفريقية تابو أمبيكي-تقرير حول مفاوضات أديس أبابا بين الحكومة السودانية ومتمردي الحركة الشعبية

دوامة سوء الفهم
ترميم مطلب الحكم الذاتي

تشريح المفاوضات

فشل في التوفيق بين رؤى الطرفين.. هذا هو الوصف الراتب الذي جثم على صدر ملفات المفاوضات بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية-قطاع الشمال حول منطقتي النيل الأزرق وجنوب كردفان.

ومنذ بداياتها يوم 14 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي وإلى أن يعود المتفاوضون أدراجهم لتبرير الفشل الملازم لها، ليس بيد الآلية الأفريقية الراعية برئاسة ثامبو مبيكي الرئيس السابق لجنوب أفريقيا إلا أن يعلّق المفاوضات إلى يناير/كانون الثاني القادم، تاركاً الكلمة التي لم تعد سرّاً وهي الاختلاف حول أجندة التفاوض.

دوامة سوء الفهم
تكمن أهمية المنطقتين (النيل الأزرق وجنوب كردفان) في أنهما مسرح صراع تعلق فيما قبلُ بمشكلة الجنوب، والآن بعد انفصاله تمثلان الجنوب الجديد لدولة السودان، فضلاً عن أن المنطقة تمور بمكونات عرقية ودينية وثقافية عديدة.

ورغم ثراء المنطقتين بالموارد الطبيعية فإنهما عانَتا من التهميش وتردي الأوضاع الاقتصادية، فكانت مطالبة أهاليهما بالحكم الذاتي منذ عام 2002، ليكون لمدة ست سنوات تحت إدارة الجيش الشعبي التابع للحركة الشعبية لتحرير السودان، وليتقرر بعدها مصير المنطقة بين الانفصال أو البقاء ضمن حدود السودان.

كان هناك إصرار شديد لدى رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان الزعيم الراحل جون قرنق على مناقشة أوضاع المنطقتين في مفاوضات نيفاشا 2005. وقبل أن تُتوّج باتفاقية السلام الشامل، أشارت إلى حقّ المنطقتين في تقرير المصير بعد انتهاء الفترة الانتقالية التي تم تحديدها بستِ سنوات. وكان رفض الحكومة لهذه المطالبة واضحاً، ولكنها تمسكت بفكرة المشورة الشعبية، ومنذ ذلك الوقت سرى الاختلاف حول المسمى وتفسير كل طرف له في أوصال المفاوضات اللاحقة.

ومما دعّم هذه المطالبة هو توجس أبناء المنطقتين بعد انفصال جنوب السودان عام 2011 -خاصة المنتمين إلى الحركة الشعبية- بأنه قد تمّ التضحية بهم واتخاذهم ذريعة لإكمال اتفاقية السلام الشامل لضمان حق تقرير المصير لجنوب السودان دون النظر في مطالبتهم.

ترميم مطلب الحكم الذاتي
بدأت المفاوضات حول المنطقتين في أديس أبابا وسط أجواء من التفاؤل رغم الاختلاف. وهذه الاختلافات هي ديدن كل المفاوضات في القضايا السودانية، ولكن تفاقمها حول أجندة التفاوض نفسها وحول تحديد المنبر المناسب لمناقشة القضية المطروحة دعا إلى تعليقها ووصفها بالفشل.

المفاوضات حول المنطقتين بدأت في أديس أبابا وسط أجواء من التفاؤل رغم الاختلاف. وهذه الاختلافات هي ديدن كل المفاوضات في القضايا السودانية، ولكن تفاقمها حول أجندة التفاوض نفسها وحول تحديد المنبر المناسب لمناقشة القضية المطروحة، دعا إلى تعليقها ووصفها بالفشل

انبعثت مطالبة كبير مفاوضي الحركة الشعبية-قطاع الشمال ياسر عرمان بمنح حكم ذاتي لمنطقتي النيل الأزرق وجنوب كردفان في إطار السودان الموحد، لما تتميز به الولايتان من تنوع عرقي وثقافي وديني، فشل المركز في دمج مكوناتهما داخل إطار البلد المترامي الأطراف فيما قبل، كما واصل في فشله في احتوائهما بعد الانفصال.

وبرفض الحكومة لهذه المطالبة وتمسكها بمنبر أديس أبابا لمناقشة قضية المنطقتين وباتفاق الدوحة لمناقشة سلام دارفور، يبدو جلياً الاختلاف حول رؤية الطرفين. ذلك أن الحكومة تنحو باتجاه تجزئة المفاوضات، بينما تركز فصائل الجبهة الثورية التي تضم تحالف الحركة الشعبية-قطاع الشمال وحركات دارفور، على أن مشاكل السودان كلٌّ غير قابل للتجزئة.

ومن منطلق أن العملية السلمية الحالية التي تشرف عليها الآلية الأفريقية الرفيعة المستوى تتم بهدف تحقيق السلام الشامل والتغيير الديمقراطي في السودان، جاء تأطير المفاوضات في مفهوم عملية سلمية واحدة بمسارين اعتمد على ما ورد في قرار الاتحاد الافريقي رقم 456.

وهذا القرار يتبنى رؤية ومنهجا للحل الشامل والنهائي لأزمات السودان المتعددة والمتعمقة. كما أنه نفس القرار الذي شددت عليه قيادات المجتمع المدني ودعمته، لما يوليه من اهتمام بالأزمات الإنسانية وتنفيذ للقرارات الخاصة بالوقف الشامل للعدائيات للأغراض الإنسانية، ووصفته بأنه يسهم في معالجتها نهائياً وفي كافة مناطق الحروب (دارفور، والنيل الأزرق، وجنوب كردفان/ جبال النوبة)، وفي المناطق الهشة الاستقرار والخارجة للتو من النزاعات.

وبعدما اعتمد وفدا الحكومة السودانية والحركة الشعبية-قطاع الشمال في هذه المفاوضات جميع مكونات الاتفاقية الإطارية المقترحة من الآلية الأفريقية الرفيعة المستوى، وقبيل التوقيع على اتفاق خريطة طريق لوقف إطلاق النار وتشكيل ثلاث لجان سياسية وأمنية وإنسانية بساعات قليلة، تراجعت الأطراف المتفاوضة.

اتهمت الحكومةُ الحركة الشعبية-قطاع الشمال بالانصياع لجهات خارجية سمتها فيما بعد بتأثير المراقبين الدوليين وحركات دارفور، وحمّلتها مسؤولية انهيار التفاوض حول المنطقتين. كما أضافت أن القطاع غير جاد وغير مسؤول تجاه التفاوض لجهة إقحامه قضايا السودان الأخرى في جلسات التفاوض وعدم التزامه بمسيرة المفاوضات.

وبفرضية الحركة الشعبية-قطاع الشمال، إن كانت الحكومة ترى أن قضايا السودان منفصلة عن بعضها البعض فتلك مشكلة، وإن كانت لا ترى إلا حل مشكلة تلو أخرى فتلك مشكلة أخرى، لأن قضايا السودان لا تتجزأ.

تشريح المفاوضات
في مفاوضات المنطقتين أكثر من خلاف،لا يفنّده الموقف المضطرب للآلية الأفريقية الرفيعة المستوى بقيادة مبيكي، ولا ينهيه تعليق المفاوضات. انتهت الجولة التاسعة من المفاوضات وسط استياء الحركة الشعبية-قطاع الشمال من أن الحكومة لم تقدّم أي حلول على الطاولة، بينما قدّمت الحركة ورقة شملت مقترحات حول الحل الشامل ودارفور والأوضاع الإنسانية.

من الواضح أن جذور الخلاف تجاوزت الرؤوس المجتمعة في أديس أبابا، فاستعصى الاتفاق على ألا يختلفوا حول أدق التفاصيل، ومنها: متى يستمرون في جلسات التفاوض؟ ومتى يتوقفون؟

إن اهتزاز نظام الخرطوم ومحاولته البقاء صامداً لخلق فرصة أخرى للاستمرار في الحكم عبر الانتخابات القادمة، جعل من السهل على الأطراف الأخرى المتفاوضة الطعن في مقدرته على ذلك، بالركون إلى ما يباعد بين الحكومة والجبهة الثورية بشكل أكبر مما يقارب بينهما.

وما يبدو أنه يوغر في صدر الوفد الحكومي أنهم استدعوا مبادرة الرئيس البشير التي أطلقها للحوار الوطني منذ يناير/كانون الثاني الماضي، لكن انسحاب حزب الأمة وعدم مشاركة قوى اليسار والحركات المسلحة أدى إلى انتكاستها. وها هو الوفد الحكومي في مفاوضات أديس أبابا بقيادة إبراهيم غندور يلقي باللوم على الحركة الشعبية-قطاع الشمال بأنها استدعت قوى المعارضة إلى المفاوضات، ويصف قيادات المجتمع المدني بأنها قوى متضخمة لا يمكن الوصول إلى صيغة لمشاركتها في المؤتمر التحضيري.

ففي رأي الوفد الحكومي أن المؤتمر التحضيري في أديس أبابا كان يفترض أن يشمل لجنة "7+7" وما أسماها "الحركات المسلحة"، مع تشديد الرفض بالاعتراف بالجبهة الثورية، واستبعاد واضح لحضور حزب الأمة وقوى الإجماع الوطني التي وقعت على وثيقة "الفجر الجديد" في كمبالا في يناير/كانون الثاني 2013 بنية إسقاط النظام، ثم عدم اعترافها بإعلان باريس، وهي وثيقة تم توقيعها بين الجبهة الثورية وحزب الأمة المعارض في أغسطس/آب 2014.

تشابك الظروف التي أدت إلى انهيار المفاوضات أشد تعقيداً مما يتم الترويج له بأن الطرفين يتعرضان لضغوط خارجية، فالقضايا المطروحة أشد فتكاً بالمفاوضات من أي ظروف أخرى

أما الموقف المتشدد من مشاركة حزب الأمة فهو لأن زعيم الحزب الصادق المهدي هاجم قوات الدعم السريع، وهي مليشيا قبلية تقاتل إلى جانب القوات المحلية يتعارف عليها باسم "الجنجويد". ثم كانت المفاجأة الكبرى وهي حضور قوى الإسناد وجماعة "سائحون"، وهي مجموعة من منسوبي الحركة الإسلامية الذين قاتلوا في جنوب السودان إبان الحرب الأهلية التي انتهت بتوقيع اتفاقية نيفاشا عام 2005.

ناصبت الحكومة هذه المجموعة العداء لأنها قامت بمحاولة انقلابية فاشلة في نوفمبر/تشرين الثاني 2012، بعد يأسها من تبني تيار متشدد داخل الحكومة يدعو إلى تطهير النظام من العناصر الفاسدة.

هزّ اتفاق نداء السودان -الموقع أثناء المفاوضات- الحكومة السودانية، فعلى إثره أعلن انهيار المفاوضات، وقامت لجنة آلية الوساطة الأفريقية بعد تشاور مع الطرفين بتعليقها إلى يناير/كانون الثاني القادم.

ومن غير قصد برز عنصر الانتخابات كسبب لإطالة أمد المفاوضات وعدم حسمها قبل أن يتم حسم انتخاب الرئيس البشير مرة أخرى. كان ذلك في الاعتذار الذي قدمه رئيس الوفد الحكومي إبراهيم غندور بأنه لن يأتي مرة أخرى وسيعين بديلاً عنه، لأنه سيكون مسؤولاً عن الانتخابات في بداية العام القادم. ويبدو من هذا أن هناك اتفاقا على مبدأ الحوار، ولكن ما زال كل طرف يناور لكسب مزيد من الوقت.

تشابك الظروف التي أدت إلى انهيار المفاوضات لهو أشدّ تعقيداً مما يتم الترويج له بأن الطرفين يتعرضان لضغوط خارجية، فالقضايا المطروحة أشد فتكاً بالمفاوضات من أي ظروف أخرى.

وفي الواقع فإن المفاوضات السودانية -على كثرة تكرارها ودربة الأطراف السودانية عليها- لم تعرف لغة الحسم الرائجة يوماً. وقد كان ما يكفيها دوماً هو ما يجيء على ألسنة المفاوضين وما قد يتراءى من هدف واحد هو القفز لالتقاط الثمار دون بذر ولا حرث.

بالرغم من أن المطالبة بالحكم الذاتي جاءت أقل من سقف مطالبات وفد جبال النوبة (جنوب كردفان) في هذه المفاوضات، فإنها قد تكون ترياقاً لأزمات السودان التي تمثل المنطقتان إحداها.

وبالنظر إلى الموروث الذي يزخر به السودان من تعدد ثقافي وديني ولغوي، فإن مقترح الحكم الذاتي أو الفدرالية أنجع الحلول لأدواء السودان المتعددة. وقد استمعت السلطة في الخرطوم إلى هذه المطالبات من قبل، فحاولت احتواء هذا التعدد ليس في إطار الوحدة، بل عملت على فرض ثقافة ودين ولغة واحدة، فكانت النتيجة انفصال الجنوب. وإن لم تعِ حجم المطالبات المتجددة وخطورتها بضرورة الحكم الذاتي، فستفرُّ أجزاء أخرى بأحقية تقرير المصير من حضن وطنٍ كان يوصف بأنه أرض المليون ميل مربع.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.