هل حصلت ثورة في تونس؟

هل حصلت ثورة في تونس؟ الكاتب :عادل لطيفي

undefined

التشكيك في الثورة
الثورة.. معرفيا

أحيا الشعب التونسي -هذه الأيام- ذكرى انطلاق الشرارة الأولى للثورة التونسية يوم السابع عشر من ديسمبر/كانون أول من سنة 2010.

لقد استعاد هذه الذكرى -خاصة في سيدي بوزيد المهد الأول للثورة- في جو باهت، وفي ظل خيبة أمل واضحة لدى المواطن العادي الذي أصبح عاجزا تحت وطأة ارتفاع الأسعار وانسداد الأفق السياسي واستفحال ظاهرة الإرهاب.

إنه ظرف صعب نتج عنه بروز تذمر سلبي عبر عن نفسه بشكل غير مباشر من خلال ظهور نوع من الحنين إلى الماضي، وكذلك من التشكيك أصلا في حصول ثورة.

التشكيك في الثورة
يلاحظ أن الموقف الذي ينفي وقوع ثورة في تونس قد بدأ يجد له صدى واسعا، وذلك على خلفية طول انتظار التونسيين لفرج بدا أنه لن يأتي.

فكرة أنه لم تحصل ثورة أصلا في تونس يرددها جانب كبير من الفاعلين الاجتماعيين العاديين كشكل من أشكال التعبير عن التذمر من وطأة واقع اقتصادي واجتماعي وأمني ما انفك يتأزم يوما بعد يوم

قد يفهم هذا الموقف في سياق التذمر العام من سياسة الترويكا، ولكن في الوقت نفسه هناك طرفان آخران يروجان لهذه الفكرة.

هناك التيارات الثورية بمختلف توجهاتها، وذلك في إطار قراءة إيديولوجية لما حصل وما يحصل، ثم في جانب ثانٍ بعض الأطراف التي يمكن احتسابها على النظام السابق بشكل مباشر أو غير مباشر.

فكرة أنه لم تحصل ثورة أصلا في تونس يرددها جانب كبير من الفاعلين الاجتماعيين العاديين، وذلك كشكل من أشكال التعبير عن التذمر من وطأة واقع اقتصادي واجتماعي وأمني ما انفك يتأزم يوما بعد يوم.

هو ليس بموقف سياسي أو استقراء لأحداث، بل هو رد فعل عفوي من باب البراغماتية الاجتماعية، لأن المعبرين عنه يحكمون على الواقع من منطلق تأثيراته المباشرة على حياتهم اليومية المعيشية.

وفي هذا الإطار، مثل الفشل الذريع للمرحلة الانتقالية التأسيسية على المستوى الأمني وعلى المستويين الاقتصادي والاجتماعي الأرضية الخصبة التي نما عليها نفي الثورة أو التذمر منها.

وقد وصل هذا التذمر حد مقارنة وضع ما بعد الثورة بفترة حكم بن علي في نوع من الحسرة عن ماضٍ مضى، لكن هذا التعبير السلبي عن الاستياء لا يفسر فقط بخيبة الأمل في حكم الترويكا، بل كذلك بأسباب أخرى موضوعية تهم كل السياقات الثورية.

فكل ثورة هي بطبعها حمالة لحنين إلى الماضي، وهذا الحنين يفهم في إطار سيكولوجيا اجتماعية عامة مرتبطة بتراكم أحداث الحاضر وبزخمها وبعمقها، مما يجعل من الصعب على الفاعل الاجتماعي العادي فهمها.

هذه الحيرة أمام حاضر متداخل ومتناقض تحجب كل إمكانية لتصور المستقبل، لذلك يعود هذا الفاعل إلى الارتماء في ماضٍ خبره على أن ينخرط في مستقبل مجهول.

في تونس تزامن هذا الحنين الهيكلي الملازم تاريخيا لأغلب السياقات مع فشل حكومة الترويكا ومع رداءة أداء مؤسسة الرئاسة ليزيد من انعدام ثقة شعب في ثورته.

أما الطرف الثاني فهو يعتمد على مقولة الثورة للشك في الثورة ذاتها، وذلك في إطار قراءة إيديولوجية. هي قراءة لا تنفي الثورة تماما بل تعتبرها إما مسارا غير مكتمل أو أنها ثورة مسروقة أو تم تحويل وجهتها.

وينطلق أصحاب هذا الرأي من وجود نموذج نظري للثورة له قوانينه الواضحة التي تجعل منها حتمية تاريخية.

ومن بين شروط الثورة وجود قيادة كانت قد عملت مسبقا على تهيئة الظروف لقيامها، وبما أن ما حصل في تونس كان حراكا شعبيا غير متجانس في مكوناته الاجتماعية المهنية فإنه يبقى بعيدا عن نموذج الثورة المثالي.

من جهة ثانية، يرى أصحاب هذا الموقف أن الثورة تقدمية بطبيعتها، وأنها لا تفضي إلى صعود قوى ماضوية إلى السلطة مثل القوى الإسلامية.

إن السؤال بهذا المعنى هو سؤال إيديولوجي وليس معرفيا أي أنه يعطي أولوية للنموذج النظري على حساب الواقع، والحاصل من المعرفة التاريخية أن الثورة ليست حتمية بل هي إمكانية من بين إمكانيات أخرى مثل التطور التراكمي السلمي.

أما بالنسبة لمآل الثورة من صعود القوى الإسلامية فهذا يعكس عدم فهم السياقات الجديدة للتحولات الثورية، وهي سياقات الحرية والديمقراطية والتعددية.

لا يستحضر البعض أن صعود الإسلاميين لم يكن مفاجئا للمتتبعين، فنجاحهم بأول انتخابات نزيهة مرتبط بعودة القوى المحافظة التي لم تتمكن من التعبير عن ذاتها وعن موقفها من الحداثة "الدولتية"

ومن جهة ثانية، لا يستحضر هؤلاء أن صعود الإسلاميين لم يكن مفاجئا للمتتبعين، خاصة للمتخصصين في المجتمعات العربية والإسلامية، فنجاح هذه القوى في أول انتخابات نزيهة مرتبط بعودة القوى المحافظة التي لم تتمكن من التعبير عن ذاتها وعن موقفها من الحداثة "الدولتية"، أي التي تركزت عن طريق الدولة.

بقي السؤال هل باستطاعة هذه القوى المحافظة أن تحافظ على قاعدتها الانتخابية، هذا ما لا تؤكده استطلاعات الرأي، خاصة في تونس والمغرب.
إضافة إلى النفي الاجتماعي والنفي الإيديولوجي للثورة يوجد نفي سياسي يرى فيها مجرد مؤامرة خارجية خطط لها الغرب منذ زمان.

ويبدو أن أغلب أصحاب هذا الرأي مرتبطون بالنظام السابق في تونس أو أنهم فقدوا امتيازات وتسهيلات ذلك العهد بما يجعل من هذا الموقف سياسيا بامتياز.
أما على المستوى المعرفي فهذا الرأي لا يستقيم أمام حيثيات الواقع لأنه يعتمد على ربط بين أحداث متناثرة سابقة للثورة، ولكن دون أي صلة موضوعية مع الواقع التونسي.

كما أن نظرية المؤامرة لا تفسر لنا سبب انطلاق الثورة في سيدي بوزيد مثلا. أرى أن نظرية المؤامرة هذه وعندما لا تكون خلفياتها سياسية فهي مجرد نوع من الكسل الفكري الذي يفسر بعدم القدرة على فهم الحراك الاجتماعي الداخلي، نظرية المؤامرة هي نفي لعلم الاجتماع والتاريخ في آن واحد.

الثورة.. معرفيا
بغض النظر عن النقاش بشأن طبيعة الحراك الذي شهدته تونس في شتاء 2010 و2011 إن كان ثورة أو انتفاضة أو أن أسبابه داخلية أو خارجية، فإن تناول المسألة من جانبها المباشر، أي من حيث مجرياتها ونتائجها أو من جانب معرفي تؤكد معطى الثورة.

فمن وجهة نظر علم اجتماعية لا يمكن أن ننسى أنه طوال فترة الثورة نشأت بمرور الأيام لحمة عجيبة بين مختلف قوى المجتمع في المناطق الداخلية في البداية ثم في المدن الكبرى في ما بعد، تحركت كلها في لحظة ما ضد نظام الرئيس السابق بن علي.

كان هناك الشباب العاطلون والمدرسون والموظفون والمحامون أو ما أسميه بالنخب المحلية، وقد وجدت كلها في الاتحادات الجهوية والمحلية للشغل نقطة التقائها لافتكاك الفضاء العمومي من السلطة.

انخراط مختلف هذه القوى في ذلك الحراك حول أكبر ممثل للمجتمع المدني، وهو الاتحاد العام التونسي للشغل الذي أصبح يمثل مقوما من مقومات الذاكرة الشعبية للتونسيين، لا يمكن فهمه خارج رؤية علم اجتماعية تفسر تلك الهوة التي أصبحت تفصل بين المجتمع والدولة، وهو انفصال تراكمي على خلفية فشل النظام السابق في المجال الاجتماعي برز بشكل واضح من خلال انتفاضة الحوض المنجمي سنة 2008.

انفصال المجتمع عن السلطة هو شرط من شروط السياق الثوري حسب علم الاجتماع المتخصص في هذا الموضوع، وهو الذي يفسر ذلك التجانس الذي أصبح عليه المجتمع في مواجهة السلطة.

مثل هذا الزخم الشعبي لا يمكن أن يكون بتخطيط جهاز أجنبي، لأن ذلك يعني مراجعة كل ما راكمته المعرفة الإنسانية في مجال العلوم الاجتماعية.

على المستوى التاريخي كذلك يمكننا الحديث عن ثورة في سياق قراءة للتاريخ التونسي المعاصر، إذ لأول مرة يتخلص المجتمع من سطوة الدولة منذ أواسط القرن التاسع عشر.

والحديث يقتصر هنا عن الدولة بمفهومها الحديث، أي الدولة التي لها احتكار سن القانون، ولها بروقراطيتها ولها شرعية جديدة كما ورد في إعلان عهد الأمان الصادر سنة 1857 وكما ورد في دستور 1861.

وحتى الثورات التي حصلت طوال هذه الفترة طغت عليها النزعة المحلية، أو أنها كانت لأسباب ظرفية مثل انتفاضة الخبز سنة 1984.

انفصال المجتمع عن النظام السياسي ثم إسقاطه برمته في ما بعد هو حدث ثوري بأتم معنى الكلمة، وهو من أهم أحداث تاريخ تونس المعاصرة.

لقد أحدثت هذه الثورة القطيعة المرجوة والتي تمكن المجتمع من المساهمة في بناء مستقبله لا أن تفرض عليه الدولة رؤيتها مهما كانت حداثتها.

وفي هذا السياق أقول إنه مخطئ من يعتقد أن الثورة التونسية جاءت ضد الدولة الحديثة، بل كانت ضد نقائص الحداثة الدولتية بهدف إتمام مشروع الحداثة من خلال إشراك المجتمع.

هذا المشروع جسدته الثورة من خلال شعار الشغل والحرية والكرامة، أي أنها في نهاية الأمر ثورة المواطنة في بعديها الاجتماعي (العدالة الاجتماعية) والسياسي (الحريات).

أعتقد أن كل الخطأ يكمن في اعتبار الثورة مشروعا مكتملا بذاته والحال أن الثورة لا تبرمج مسبقا لأن أحد شروطها هو الصبغة الفجائية التي ربما يقف عليها نجاحها

يتعزز مفهوم الثورة في الحالة التونسية من خلال البعد السياسي، إذ إنه على الرغم من الصعوبات وعلى الرغم من خيبات الأمل فلا أحد يشكك في أن المكسب الوحيد الذي تحقق بعد الثورة هو حرية التعبير التي دفع من أجلها الشباب حياته، والحرية مكسب ناضلت ولا تزال تناضل من أجله عديد الشعوب.

وعلينا أن نعود لاستقراء التاريخ العربي الإسلامي قديما وحديثا ونقارنه بمسيرة شعوب أخرى كي نقف على أهمية الحرية كمكسب تاريخي وحضاري، إذ هي شرط من شروط النهوض الحضاري إذا أحسن المجتمع فهمها وإذا تم إشراك النخب في عملية البناء، وإذا تم فتح أفق ثقافي وحضاري للثورة ولم يتم اختزالها في بعدها السياسي.

أعتقد أن كل الخطأ يكمن في اعتبار الثورة مشروعا مكتملا بذاته، والحال أن الثورة لا تبرمج مسبقا لأن أحد شروطها هو الصبغة الفجائية التي ربما يقف عليها نجاحها.

الثورة هي حالة قطع بالأساس، والقطع حصل في تونس من خلال إسقاط النظام السياسي مع المحافظة على الدولة من خلال الإدارة والقوانين.

بقي السؤال هل أن هذا القطع ضامن لبناء الأهداف التي تحرك من أجلها الشعب؟ ذلك يبقى رهين عوامل أخرى لاحقة.

وعلى الرغم من صعوبة الظروف الحالية وخيبات الترويكا -وعلى رأسها حركة النهضة في المرحلة الانتقالية- فإن الغد واعد لتونس، وأكبر ضمان لذلك هو حركية وحيوية المجتمع المدني.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.