في التجربة الدستورية التونسية

في التجربة الدستورية التونسية

undefined

في عمق التجربة
من الأغلبية إلى التوافق
حصيلة الدستور

منذ أن أدى الحوار الوطني في تونس إلى استعادة المجلس التأسيسي لأشغاله وبنسق أسرع بكثير من تلك الخطى المتثاقلة التي غلبت عليه لمدة سنتين، بدأت تتضح معالم النص الدستوري الذي تمت المصادقة عليه نهائيا.

وهو نص انتظره التونسيون كما انتظره إخوانهم العرب وباقي الدول الصديقة من باب رصد التجربة.

لقد وفر النقاش العام الذي صاحب صياغة هذا المشروع لكل المهتمين -سواء بالقانون الدستوري أو تاريخ وعلم اجتماع المراحل الانتقالية- مادة مهمة لدراسة هذه التجربة في فرادتها وتواصلها، فهذا النص ليس وليد سياق الثورة في تونس فقط، بل يندرج كذلك ضمن تجربة دستورية منفتحة لا يمكننا دونها أن نفهم محتوى الفصول الحالية.

في عمق التجربة
كما يعرف جمهور المؤرخين، فإن التجربة الدستورية التونسية تعود إلى أواسط القرن الـ19، وذلك في سياق موجة الإصلاحات التي شهدتها الدولة العثمانية زمن التنظيمات.

وفر النقاش الذي صاحب صياغة مشروع الدستور مادة مهمة لدراسة هذه التجربة في فرادتها وتواصلها، فهذا النص ليس وليد سياق الثورة في تونس فقط، بل يندرج كذلك ضمن تجربة دستورية منفتحة

فقد صدر عام 1857 ما يعرف بإعلان عهد الأمان الذي وضع اللبنة الأولى "لدسترة" الملكية وتحديد حدودها ومصادر شرعيتها.

صحيح أنه كان للقناصل الأوروبيين دور في ظهور هذا النص من خلال ممارسة بعض الضغط على الباي (الحاكم) لإدراج إصلاحات تخدم مصالح التجار الأوروبيين، لكن ذلك لا ينفي رغبة المصلحين التونسيين في إدخال إصلاحات تواكب العصر.

نجد من ضمن هؤلاء المصلحين الشيخ محمود قبادو، والوزير خير الدين باشا، والمؤرخ أحمد بن أبي الضياف الذين أدرجوا المادة الثالثة التي جاءت فيها "التسوية بين المسلم وغيره من سكان الإيالة في استحقاق الإنصاف لأن استحقاقه لذلك بوصف الإنسانية لا بغيره من الأوصاف…".

وهذه المادة مهمة باعتبار أن كلمة الإنسانية المستعملة هنا تعني -في الحقيقة- مبدأ الكونية في المساواة، وهي حجر الزاوية لفكرة المواطنة، أي أن هناك نوعا من التحول من الفهم الكلاسيكي للإنسان باعتباره فردا في مجموعة دينية إلى مفهوم الإنسان باعتباره إنسانا في إطار المجتمع.

بعد أربع سنوات صدر أول دستور في العالم العربي والإسلامي في تونس عام 1861، وذلك على قاعدة إعلان عهد الأمان الذي سبقه.

وقد حاول هذا النص -لأول مرة- تحديد صلاحيات الباي من خلال مجلس استشاري، كما أرسى مفهوم الحقوق. غير أن الباي استغل ثورة الأرياف عام 1864 لإلغائه، وتمكن بذلك من اتقاء شر نص يحدد مصاريف العائلة الملكية ضمن ميزانية الدولة.

في المقابل، لم يمنع هذا الإلغاء من أن يبقى الدستور مرجعا فكريا وثقافيا للنخبة التونسية في نهاية القرن التاسع عشر، وخاصة مع ظهور البوادر الأولى للحركة الوطنية.

فقد مثل الدستور أهم مطلب رفعه الوطنيون التونسيون ضد الاستعمار الفرنسي، حتى أن أول حزب تكوّن هو الحزب الحر الدستوري الذي أصبح زمن الاستقلال الحزب الاشتراكي الدستوري.

ففكرة الدستور تعكس تواصل الثقافة السياسية في التجربة التونسية خلال الفترة المعاصرة والتي تعود إلى أفكار علَم مثل خير الدين التونسي.

بعد الاستقلال، اختار الفاعلون السياسيون -وعلى رأسهم الحبيب بورقيبة- وباقي الدستوريين إنشاء مجلس تأسيسي يتولى صياغة الدستور، وهو خيار نادر في البلدان العربية آنذاك، حيث اختار أغلبها إسناد هذه المهمة إلى لجنة من الخبراء عادة ما تكون معينة، وقد دامت أعمال ذلك المجلس ثلاث سنوات (1956-1959) بسبب غياب الدولة في بداية الاستقلال.

وقد مكنتنا هذه التجربة المطولة من تتبع مداولات النواب التي وفرت لنا -معشر الباحثين- وثائق مهمة عن طبيعة الأفكار السائدة والشخصيات الفاعلة.

الواقع أن الدستور الذي انبثق عن تلك التجربة عام 1959 كان دستورا متقدما إلى حد ما على دساتير البلدان العربية الأخرى في ذلك الوقت، لكن النظام السياسي "البورقيبي" لم يلتزم بنص الدستور ولا بفلسفته العامة.

فكرة التأسيسي هذه ألهمت النخبة السياسية في تونس -أو بعضها- كي توفر نموذجا للحل بعد سقوط نظام الرئيس السابق بن علي.

وكانت انتخابات 23 أكتوبر/تشرين الأول 2011 التي أفرزت مجلسا حددت مهمته في كتابة الدستور وفي ظرف سنة، وهو حيز لم تحترمه الأغلبية السياسية الجديدة، إذ لم تأخذ هذه النخبة من التجربة الدستورية الرائدة، واعتبرت أن إنجاز الدستور يجب أن ينطلق من صفحة بيضاء، فتم إهدار وقت كثير في مسائل كانت سابقا من باب البديهيات.

من الأغلبية إلى التوافق
كانت مدة عمل المجلس التأسيسي محددة قانونا بسنة واحدة من خلال أمر دعوة الناخبين، وهو نص تدعّم بأغلب توقيعات الأحزاب الفاعلة -بما فيها حركة النهضة- على الالتزام بعدم تجاوز المدة المحددة.

غير أن هذه المدة تم تجاوزها وطال انتظار التونسيين حتى الملل، وذلك بشهادة أطراف من الترويكا الحاكمة ذاتها.

ويفسر هذا التباطؤ بانزلاق الحكومة من أولوية الإصلاح التأسيسي إلى أولوية الحكم، وانزلاق المجلس من المهمة التأسيسية إلى مهام برلمانية عادية.

في سياق هذا التوجه نحو التأكيد على إشكالية الحكم، تم العديد من التعيينات الحزبية على رأس الدولة والإدارات العمومية باعتماد الولاء دون الكفاءة، وهذا بشهادة الرئيس المرزوقي نفسه.

لكن هذا التمطيط لم يخدم مصلحة الحكومة ولا مصلحة البلاد والشعب، ذلك أن منطق الأغلبية الشرعية تآكل نتيجة رداءة التسيير الحكومي، وهو ما أجمع عليه العديد من الفاعلين بمن فيهم قياديون في النهضة.

الواقع أن مشروع الدستور التونسي لم يكتب فقط داخل قبة المجلس التأسيسي، بل إن النقاط الخلافية الأساسية تم حسمها في توافقات سابقة منذ سنة تقريبا وخاصة حول الفصل الأول من الدستور كما في مسائل أخرى

فقد اعتبر عبد الفتاح مورو أن الحركة وقعت في فخ الحكم، كما صرح رئيس الحكومة السابق حمادي الجبالي علنا بفشل حكومته وبضرورة تكوين حكومة كفاءات مستقلة.

وعلى خلفية الفشل الحكومي وتعثر أداء المجلس التأسيسي، بالإضافة إلى سقوط الشهيد محمد البراهمي في عملية اغتيال وتوسع نشاط المجموعات الإرهابية، فتح الحوار الوطني آفاقا جديدة لصياغة الدستور.

وكان دور رباعي المجتمع المدني الراعي للحوار حاسما في نقل الثقل السياسي من فضاء المجلس التأسيسي إلى فضاء الحوار الوطني، واستتبع ذلك انتقالا من منطق الأغلبية إلى منطق التوافق، سواء في المسار الحكومي أو في المسار التأسيسي.

كما أن وجود الأغلبية في موقع الحكم أضعف من حججها أمام المعارضة وسهل الوصول إلى توافقات مهمة، أي أنها كانت تحت ضغط الشارع الذي انتظر طويلا تحسين وضعه الاجتماعي وخاصة في الجهات الداخلية، كما أنها كانت تحت ضغط المعارضة والمجتمع المدني وحتى ضغط حلفائها في الحكم.

الواقع أن مشروع الدستور التونسي لم يكتب فقط داخل قبة المجلس التأسيسي، بل إن النقاط الخلافية الأساسية تم حسمها في توافقات سابقة منذ سنة تقريبا، وخاصة حول الفصل الأول من الدستور كما في مسائل أخرى.

لكن يوجد كذلك لاعب آخر خفي وهو المجتمع المدني الذي أسهم بشكل فعال سواء بتحركاته الميدانية أو بطرح بدائل وتنشيط النقاش في الفضاء العمومي.

هذا الدور نفسه لعبته النخب المتخصصة في القانون الدستوري، التي كان لمداخلاتها في الإعلام تأثير كبير على الرأي العام وحتى على النواب أنفسهم.

هكذا، ورغم طول المدة التي استغرقتها صياغة الدستور، فإن ذلك -حسب رأيي ومن وجهة نظر تاريخية- كان مهما لسببين:

يتمثل الأول في ذلك النقاش المجتمعي المفتوح حول مسائل مهمة مثل دور المساجد والعدالة بين الجنسين ودور الإسلام في الحياة العامة وقضايا الحريات واستقلالية القضاء، وكلها مؤشرات تبين -بالفعل- أن هناك تحولا من حداثة سابقة كانت الدولة هي الفاعل الرئيسي فيها، إلى حداثة يشترك المجتمع في صياغتها.

ثم من جهة ثانية، فإن الوصول إلى نص توافقي يضمن بعض الديمومة والاستقرار لهذا النص مما يسهل الاستقرار السياسي، أي أنه ليس دستور جهة بعينها تغيره الجهة المقابلة بسرعة في حال وصولها إلى الحكم.

حصيلة الدستور
رغم طول المدة التي تطلبتها صياغة الدستور فإن حل الأزمة السياسية أواخر السنة الماضية عجل بنسق العمل التأسيسي كمّا ونوعا، فشهدنا المصادقة على فصول حافظت عموما على المكاسب التي حققتها التجربة الدستورية التونسية، كما أضافت إليها مكاسب جديدة رغم بعض الثغرات.

فقد تم التوافق على الحفاظ على الفصل الأول من دستور عام 1959 الذي ينص على أن "تونس دولة حرة مستقلة ذات سيادة، الإسلام دينها والعربية لغتها والجمهورية نظامها". وهو فصل يحافظ على ذكر الإسلام باعتباره مقوما من مقومات هوية البلاد، أي الشعب والتاريخ والثقافة، وليس دينا للدولة باعتبارها جهازا.

هذه الصيغة -إن ربطناها بالفهم الذي ساد سابقا، والذي ذهب إليه المشرعون الأوائل بعد الاستقلال- تعطي للإسلام قيمة اعتبارية لا قيمة معيارية، ويزداد الأمر وضوحا إذا أضفنا الفصل الثاني الذي ورد فيه "تونس دولة مدنية تقوم على المواطنة وإرادة الشعب وعلوية القانون"، وهذا يعني أن هناك تأكيدا واضحا على مفهوم المدنية الذي توافق حوله جل الفاعلين.

رغم مكاسب الدستور، تبقى بعض النقائص قائمة وتتمثل خاصة في اختلال السلطات لصالح رئاسة الحكومة، والحل أن توجه أغلب العائلات السياسية في تونس نحو نظام رئاسي معدل

ومن بين المكاسب المهمة كذلك، ما ورد بالفصل السادس من اعتراف بحرية الضمير، وهذا يعني أنه أول دستور عربي يتضمن هذه الحرية.

كما أن التوافقات حول باب الحريات أعطت فصولا مهمة تبعدها عن سطوة القانون الجائر كما كان من قبل، بالإضافة إلى باب الأحكام العامة الذي حافظ على مكاسب المرأة ومن أهمها مجلة الأحوال الشخصية.

رغم ذلك تبقى بعض النقائص قائمة، وتتمثل -خاصة- في اختلال السلطات لصالح رئاسة الحكومة، والحل أن توجه أغلب العائلات السياسية في تونس نحو نظام رئاسي معدل، إضافة إلى أن غموض بعض الفصول سيجعلها لاحقا قابلة لتأويلات قد تصل حد التناقض.

يمكننا أن نلاحظ كذلك غياب منطق عام متجانس للنص، وذلك بسبب عمل اللجان بشكل مستقل، ثم بسبب الحرص على التوافق بين رؤى سياسية وفكرية مختلفة. لكن هذه النقائص لا تمثل عائقا أمام قبول النص سياسيا وشعبيا كي يضمن الوصول إلى انتخابات نزيهة وإلى مرحلة الاستقرار الديمقراطي.

كما أن مثل هذا النص قد يمثل نموذجا للبلدان العربية الأخرى حتى تمر نحو حريات ومشاركة مواطنية أوسع، وفي ذلك دعم لفكرة الخصوصية التونسية المتجسدة في انفتاح ثقافتها العربية الإسلامية وفي ثورتها وانتقالها الديمقراطي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.