المسجد أو الحداثة

المسجد أو الحداثة - ميشيل روكار

undefined 

تُرى ماذا ألَـمّ بـ"الربيع العربي"؟

عندما اندلعت في تونس ومصر وليبيا المظاهرات التي أدت في النهاية إلى زوال ثلاث دكتاتوريات، لم يكن أحد يعلم ما قد ينشأ جراء مطالبة المتظاهرين بالديمقراطية. وعلى الرغم من الطبيعة غير المسبوقة وغير المتوقعة للأحداث -أو ربما بسببها- ارتفعت الآمال إلى عنان السماء.

والواقع أن ما حدث منذ ذلك الوقت يبين بوضوح ما كان معلوماً لدى الجميع (أو ما كان ينبغي لهم أن يعلموه) منذ البداية، وهو أن تغيير الأنظمة ليس بالأمر البسيط أبدا، فحتى وقتنا هذا لم يتسن لأي من الدول الثلاث إيجاد الحلول المؤسسية المستقرة، الكفيلة بنزع فتيل التوترات الداخلية المتزايدة الحِدة، والاستجابة بشكل فعّال للمطالب الشعبية.

كما شهدت بلدان أخرى في المنطقة -بما في ذلك اليمن وبعض دول الخليج- درجات متفاوتة من الاضطرابات. وعاد العنف الطائفي إلى استنزاف العراق مرة أخرى، في حين أصبحت الاشتباكات بين الفصائل المناهضة للنظام في سوريا معتادة، بسبب سعي الإسلاميين إلى كسب اليد العليا قبل أن تبدأ عملية الانتقال السياسي، التي يفترض أن تحدث إذا انهارت الحكومة.

هناك العديد من العوامل التي تشكل الأساس الذي يقوم عليه عدم الاستقرار المزمن في المنطقة، من بينها التخلف التنموي، ويعتبر الفقر والتفاوت بين الناس سببا في تغذية جزء كبير من الحشد الشعبي في المنطقة

وحتى في المملكة المغربية، كان الغضب الشعبي الشديد سبباً في إرغام الملك -الذي يتمتع بسلطة مطلقة بوصفه أميراً للمؤمنين- على الانتقال نحو شكل أكثر شمولاً من الإسلام السياسي.

وعلى نحو مماثل، لا تشير التطورات في القوتين غير العربيتين في المنطقة إلى أنهما في مأمن من عدم الاستقرار. ففي تركيا، سلطت الاحتجاجات الأخيرة الضوء على المعارضة المتزايدة لسلطة رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان المفرطة في التعجرف والغطرسة، والسياسات الاجتماعية القائمة على أسس دينية، والمسببة للانقسام والفرقة.

وفي إيران أيدت غالبية الطبقة المتوسطة المرشح الأكثر اعتدالا بين المرشحين المقبولين لدى مجلس الأوصياء الإسلامي (مجلس تشخيص مصلحة النظام) في انتخابات يونيو/حزيران الرئاسية.

هناك العديد من العوامل التي تشكل الأساس الذي يقوم عليه عدم الاستقرار المزمن في المنطقة. ومن بين هذه العوامل التخلف التنموي. ففي حين حقق بعض الرؤساء والأمراء ثراء فاحشا بفضل النفط، فإن الرعية لم ينلها إلا أقل القليل من الفوائد، فالجوع منتشر. وكان الفقر والتفاوت بين الناس سبباً في تغذية قدر كبير من الحشد الشعبي في المنطقة.

بيد أن سياسات الاحتجاج في المنطقة تعكس أيضا رفض الدكتاتورية والحكم الاستبدادي. فرغم افتقار هذه البلدان إلى تقاليد المعارضة المفتوحة، فإن العولمة أوضحت للجميع أن التنمية الاقتصادية تتطلب تغيير النظام.

وأخيرا، أصبح الإسلام السياسي طرفا مشتركا في كل نزاعات المنطقة، ولا ينبغي لنا أن ننظر إليه -كما نفعل غالبا- بمعزل عن المحن الاقتصادية التي تعيشها هذه البلدان. والأمر ببساطة أن الإسلام -أحد أعظم الأديان في العالم، والذي يدين به ما يقرب من ربع البشرية- تأخر عن ركب التطور والتنمية.

ولا توجد وسيلة سهلة لتعويض هذا التأخر التنموي من دون التصدي لأساليب الحياة والعادات والعلاقات الاجتماعية التقليدية. والواقع أن الأديان لا تستطيع مقاومة الضغوط الاقتصادية.

الإرث الناتج عن الشعور بالظلم  والغضب لدى العرب والمسلمين يشكل جزءا من الأسباب التي تؤسس للوعكة الحالية في المنطقة

ولنتأمل هنا حالة اليهود، فنظرا لغياب وطن محدد لهم حدث التطور بين الشتات، حيث مهد التحرير المدني في أوروبا الطريق أمام الحركات الإصلاحية التي سعت إلى التوفيق بين الإيمان والحداثة.

وعلى نحو مماثل، منعت المسيحية -سواء الكاثوليكية أو الأرثوذكسية- التنمية الاقتصادية لقرون من الزمن، إلى أن بدأ الإصلاحيون من داخلها إعادة تعريف المواقف اللاهوتية في ما يتصل بالمال والعمل المصرفي، وطبيعة التقدم، والعلوم والتكنولوجيا.

وليس من قبيل المصادفة أن يكون الإصلاح الديني في الدول الاسكندنافية وألمانيا وإنجلترا وهولندا والولايات المتحدة سبباً في صعود الرأسمالية العالمية اليوم.

وتمتد هذه الديناميكية حتى إلى الصين الملحدة رسميا. فكانت الشيوعية الأرثوذكسية- المحاكاة العلمانية المثالية للدين- الضحية الأساسية للتطور والتنمية منذ أطلقت الصين إصلاحات السوق في عام 1979.

والإسلام أيضاً لا يخلو من الإصلاحيين. ولنتذكر هنا المهمة التي عهد بها محمد علي في عام 1826 إلى رفاعة الطهطاوي، الباحث المصري العظيم الذي أرسله محمد علي إلى أوروبا ليتعرف على الحضارة الغربية، ويحاول إيجاد صيغة تفاهم بينها وبين الإسلام.

ولكن في كل مكان من العالم العربي -وبدون استثناء- كان مصير الإصلاحيين السجن أو القتل، أو إهدار جهودهم بسبب العجز السياسي.

الواقع المرير الذي يعيشه العالم الإسلامي الآن يتلخص في أن قوى التقليد تميل -في وقت يتسم بانتشار عدم اليقين على نطاق واسع- إلى التحدث بصوت أعلى وأكثر وضوحاً من قوى التغيير

وفي غياب مقابل للثورة الصناعية في الغرب، وجد المسلمون (وبخاصة العرب) أنفسهم في مواجهة المهانة فضلاً عن الاستعمار الجزئي على مدى القرنين الماضيين. ويشكل الإرث الناتج عن هذا الشعور بالظلم والإذلال والغضب جزءاً من الأسباب التي تؤسس للوعكة الحالية في المنطقة.

 
والواقع أن بعض مظاهرات الشوارع لا تترك مجالا للشك في أن الكثير من الناس يبتعدون عن الدين كليا. وكان هذا ظاهرا في مصر وتونس بقدر ما ظهر في تركيا. ولكن الواقع المرير الذي يعيشه العالم الإسلامي الآن يتلخص في أن قوى التقليد تميل -في وقت يتسم بانتشار عدم اليقين على نطاق واسع- إلى التحدث بصوت أعلى وأكثر وضوحاً من قوى التغيير.

إن السلام في هذه المنطقة الضخمة ذات الأهمية الإستراتيجية البالغة -وبالتالي في العالم ككل- من غير الممكن أن يسود إلا إذا تمكنت بلدان المنطقة -رغم الاضطرابات- من حماية أنفسها من التطرف الأيديولوجي والتجاوزات السياسية.

ولابد أن تكون أهمية هذا الأمر شديدة الوضوح للغربيين الذين نشأت حضارتهم الحديثة على الانشقاق عن الدين، والذي قوبل في البداية بعنف محاكم التفتيش والإصلاح المضاد.

وإذا كان الإسلام -وخاصة في الشرق الأوسط- يسلك مسارا مشابها الآن، فهذا يعني أن عدم الاستقرار لفترة طويلة في المنطقة يصبح حتميا. والتفاهم المتبادل هو السبيل الوحيد الآن لتخفيف حِدة العواقب.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.