مقدمة في روح الثورات وقوانين حركتها

مقدمة في روح الثورات وقوانين حركتها - الكاتب: د . خالد المعيني

undefined

– عناصر الثورة وشروطها المسبقة
– قوانين الثورات ومحركاتها الدافعة
– معيار الثورات في الربيع العربي

يتداخل مفهوم الثورة في الأدب السياسي بشدة مع مفاهيم أخرى مقاربة كالانقلاب، والانتفاضة، والعنف والتمرد، والفتنة والفوضى، كما تمتد جذورها كظاهرة إنسانية عميقا في تاريخ الإنسانية، وهي ملازمة على الدوام لنشأة النظم السياسية، تطفو على السطح كلما جنحت هذه النظم عن إطار مشروعيتها، ومالت السلطة فيها إلى الاستبداد والديكتاتورية.

ومن الواضح أننا لا يمكن أن نطلق صفة الثورة كثيرا على الانتفاضات الكبرى في التاريخ الإنساني إلا من خلال قياس مدى قدرتها على إحداث نقلة نوعية عميقة في بنية المجتمع ماديا من خلال الاقتصاد والتنمية، ومعنويا من خلال نظام سياسي بنخبة جديدة، وتكريس منظومة قيم اجتماعية جديدة.

بمعنى آخر قدرة هذه الانتفاضة الشعبية الكبرى على اكتساب مضمون ثوري من خلال قدرتها على التأسيس لمتغيرات جديدة، تعيد رسم خارطة موازين القوة في المجتمع وفق رؤية جديدة.

كما أن الأفكار الثورية لوحدها ليست ذات قيمة، فإن الثورة الشعبية بدون أهداف وأساس نظري للتغيير ستكون بلا جدوى وستنتهي إلى غير ما يحلم به الثائرون

لا يقتصر مفهوم الثورة على الجانب السياسي، فقد أصبح من الشائع أن يطلق على أنماط أخرى كالثورة التكنولوجية، أو ثورة الاتصالات، وعلى الرغم من كونها ثورات مادية لكن معيار الثورة ينطبق عليها بدلالة النقلة العميقة التي تحدثها على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والمعرفي للمجتمعات، وهي لا تقل أهمية في تقرير تقدم وازدهار حياة بعض الشعوب.

عناصر الثورة وشروطها المسبقة
في الأدب السياسي يشير الاستعمال المعاصر لمفهوم الثورة (REVOLUTION) إلى شقين، يتعلق الشق الأول بنمط التغييرات الكبرى والجذرية التي تحصل في المجتمع نتيجة انتقال السلطة من طبقة اجتماعية إلى أخرى، أو نشوء طبقات جديدة كدلالة على وجود ثورة حقيقية.

في حين ينطبق الشق الثاني من الاستعمالات المعاصرة لمصطلح الثورة على التغيير الجزئي -على نطاق صغير- الذي يطال قشرة السلطة السياسية، حيث تتم الإطاحة بالحكام من مناصبهم واستبدالهم بآخرين، دون أن يتبع ذلك تغيير جذري على المستوى الاقتصادي، أو على مستوى منظومة القيم الاجتماعية التي تسود المجتمع.

يوصف التغيير الكبير في الشق الأول -غالبا- بأنه ثورة مستوفية للشروط، في حين يعتبر نطاق التغيير في الشق الثاني في حدود "الانقلاب".

ويمكن قياس المد الثوري بمدى التغيير الحاصل على ثلاث مستويات، سياسيا، واقتصاديا، واجتماعيا، وكثيرا ما يختزل مصطلح الثورة في شقها السياسي بعملية استبدال طاقم الحكم بآخر.

وغالبا ما يقف النمط الأول من الثورات خلف "النقلات" التاريخية الكبرى في حياة الشعوب، وهي تحدث عبر آليتين، إما عن طريق انعطافات حادة كالانتفاضات والكوارث والحروب، أو أن هذه الشعوب تكتسب المضمون الثوري لتطوره تدريجيا عبر تبنيها مناهج وأفكارا خلاقة، ترسم للمجتمع خطواته اللاحقة بصورة مدروسة، تتسم بالعقلانية والواقعية، تفضي عبر خاصية التراكم إلى تقدم المجتمع وازدهاره عبر ترسيخ منظومة قيم جديدة.

وعند دراسة هذا النمط من التغييرات في المجتمعات المزدهرة حاليا نجد أن الطبقة المتوسطة تقف وراء هذا الإنجاز، فهي الطبقة الأكثر تأهيلا لإحداث نقلة حقيقية نوعية وكبرى في حياة المجتمعات، ولكن بطريقة هادئة وتدريجية.

فالثورات الشعبية التي كثيرا ما تنطلق بصورة عفوية هنا وهناك كثيرا ما تنتهي إلى عكس ما تشعر به الجماهير الثائرة أو تحتاجه على وجه اليقين، وذلك بسبب عدم تنظيم هذه الجماهير لنفسها، وعدم وجود أهداف وبرامج واضحة.

ولذا غالبا ما تتمخض هذه الثورات غير المنظمة عن ولادة طغاة جدد، وإعادة إنتاج دكتاتوريات ونظم استبدادية جديدة، تحكم وتضطهد الشعب باسم الثورة والشعب، لتعود به إلى المربع الأول.

يمكن قياس المد الثوري بمدى التغيير الحاصل على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وكثيرا ما يختزل مصطلح الثورة في شقها السياسي بعملية استبدال طاقم الحكم بآخر

وفي الوقت ذاته، فإن الثورات والانقلابات التي تقوم بها قلة سواء من ضباط الجيش أو المناوئين -ورغم كل الشعارات الجذابة والبراقة التي يرفعونها في بداية الأمر- كثيرا ما تنتهي إلى العكس، وتتحول هذه الأقليات الأوليغاشية إلى طغم حاكمة ومستبدة ودكتاتورية.

فإذا وصفنا النمط الأول من الثورات بالثورات العفوية والعاطفية، والنمط الثاني بالانقلابات التي لا تتعدى استبدال نظام سياسي بآخر، فبالإمكان أن نطلق على نمط الثورة التي من الممكن أن تنجزها الطبقة المتوسطة الثورة من الوسط أو الثورة العاقلة.

وعليه فإن الثورة كواقعة لا يمكن أن تحصل بصورة رومانسية ويتيمة ما لم تستكمل عناصرها الحاكمة، وإلا فإنه من العبث أن نطلق عليها صفة ثورة، لأن الثورة تقوم في الحقيقية على ثلاث ركائز أساسية:

أولا: فكر خلاق تشتقه عقول المفكرين الذين يمثلون عصارة وضمير العقل الباطن لمعاناة شعوبهم.
وثانيا: نخبة شجاعة تتبنى هذا الفكر.
ثالثا: جماهير واعية وليست قطعانا ديماغوجية يسهل التلاعب بها.

إن من شأن توافر هذه العناصر أن يرتقي بإرهاصات الشعوب ومخاضها الثوري إلى مصاف الثورات الحقيقية، فالفكرة والتنظيم والحاضنة كفيلة بصناعة الوقود الثوري اللازم، الذي لن تنفد طاقته إلا بتحقيق الأهداف النهائية والكبرى للشعوب الثائرة على واقعها الفاسد.

قوانين الثورات ومحركاتها الدافعة
إذا كان هناك من قانون أساسي بصورة عامة للثورات فيمكن -حسب اعتقادنا- أن نطلق عليه قانون "شدة التناقض" والذي نستطيع تعريفه بتلك الفجوة التي كثيرا ما تتسع بين الشعارات والأيديولوجيات المطروحة وفشل وعجز قادتها، وما بين واقع الشعب الاقتصادي الذي يعيشه، ومنظومة القيم الاجتماعية السائدة التي تحكمه.

وكلما تقلصت هذه الفجوة ابتعد احتمال نشوب الثورة، وكلما أخذت هذه الفجوة بالاتساع فإن ثورة ما ستولد من أحشاء المجتمع، وهي أمر حتمي وواقع لا محالة، بغض النظر عن الكيفية التي ستعبر بها عن نفسها، سواء كان ذلك بانقلاب أو انتفاضة أو ثورة شعبية عفوية.

ويبدو أن معظم الثورات تكون عادة مسبوقة -ربما على مدى جيل- بفترة مخاض واختمار وغليان، وهنا قد تعبر الثورة عن نفسها بحالة من الانفجار الشعبي العفوي والعاطفي.

ولكن عدا هذه الحالة، فإن القاعدة العامة في الثورات الحقيقية هي أن يجري توجيهها من قبل مفكرين، وهذا يعني وجود شرط تلازم الغليان الشعبي المتصاعد مع الأفكار الثورية، التي تحدد نمط التناقضات الاجتماعية التي يجب أن تحلها، وترسم شكل النظام الجديد الذي تود أن تقيمه.

فكما أن الأفكار الثورية لوحدها ليست ذات قيمة فإن الثورة الشعبية بدون أهداف وأساس نظري للتغيير ستكون غير ذات جدوى، وتنتهي إلى غير ما يحلم به الثائرون.

من جانب آخر، كثيرا ما يؤدي غياب الشروط الثلاثة للثورة (الفكرة الخلاقة، النخبة المنظمة، الجماهير الواعية) إلى إجهاض أو خطف هذا الحراك الثوري الوليد حتى قبل أن يطرح ثماره، وأحيانا حتى قبل أن يولد.

الثورات الشعبية التي تنطلق بصورة عفوية هنا وهناك كثيرا ما تنتهي إلى عكس ما تشعر به أو تحتاجه الجماهير الثائرة، بسبب عدم التنظيم، وعدم وجود أهداف واضحة

فغياب مثل هذه الشروط الحاكمة وخاصة عدم وضوح الفكرة، وغياب الطليعة المنظمة، كثيرا ما يقود إلى ثغرة وفسحة تغري المغامرين الذين ليس لديهم شيء يخسرونه، وكذلك الانتهازيين ذوي القدرة على تبديل جلودهم، أو أية جهات منظمة مسبقا داخل المجتمع، على ركوب الموجة، ونكون حينئذ عند مربع (الثورة المضادة) التي ستستلزم دورة جديدة من الدماء والتضحيات لاستعادة الثورة وتصحيح مسارها. 

وكثيرا ما تكون هذه الدورات محفوفة بالمخاطر، لما قد يرافقها من عنف واحتمالات انقسام مجتمعي، ناهيك عن إمكانية تزايد وتدخل العامل الخارجي المتربص.

معيار الثورات في الربيع العربي
وبقدر تعلق الأمر بالحراك الشعبي الثوري العربي، فإن شروط ومناخ هذه الثورات قد أصبح ناضجا، ولكن هذا لا يعني أنها استكملت كافة الشروط، فهي لا تزال بعد في مراحلها الأولى من المخاض، لأن الثورة رديف للتغيير الجذري. من هنا يصح القول إن الحراك لم يأخذ بعد شكله النهائي ولا يزال قيد التبلور.

وعليه، وبعد مرور أكثر من عامين على ربيع الثورات العربية أصبح من الضروري إجراء مراجعة هادئة وموضوعية لحصاد هذه الثورات، وفرز ثمارها، وتصنيفها وفقا للشروط المنهجية لمعنى الثورات، بعيدا عن سراب الإعلام وصخبه.

ويمكن إجراء ذلك من خلال صياغة معادلة يمكن من خلالها قياس "مناسيب" ما جرى وما يجري، وأين استوفى مفهوم الثورة جوهره وشروطه في هذا القطر أو ذاك، وما هي المسافة التي تفصل الحراك الشعبي العربي عن معيار الثورة الحقيقية، وهل بالإمكان توحيد الرؤية والفكرة والهوية كشرط يسبق الثورة ويحدد مسارها.

مع محاولة استشفاف قوانين تاريخية حقيقية، وليست افتراضية أو ديماغوجية، دافعة ومحركة للثورة العربية، تقود الحراك الشعبي وتمده بموجات جديدة من الزخم الثوري، وصولا لتحقيق المعنى الكامل للثورة، وتحقيق الأهداف الكبرى المنشودة للشعب العربي، لكي يقف في مصاف الشعوب الأخرى التي تقدمته بأشواط.

وبهذا المعنى علينا التأني في دراسة ما يجري من ثورات، وعدم التسرع في الحكم عليها حيثما نضجت شروطها كاستحقاق داخلي في هذا القطر، أو يجري الإسراع في إنضاجها واستيلادها بعملية جراحية "قيصرية" في ذلك القطر استجابة لـ"استهدافات" خارجية، في سياق قوانين جديدة لإدارة الصراع الإقليمي والدولي.

إن تاريخنا السياسي العربي حافل بهذه الملابسات، حيث كثيرا ما يتداخل مفهوم الثورة -الذي كثيرا ما يحلو للبعض تسويقه رغم ندرة نماذجه العربية بناء على الواقع العربي- مع مفاهيم أخرى مقاربة تتعلق بالتغيير الجزئي في مستوى البناء السياسي الفوقي كالفتنة، والفوضى، والاضطراب، إضافة إلى الانقلاب الذي يبدو أنه النموذج الأكثر تكرارا في هذا التاريخ، حيث يعاد إنتاجه في كل مرة ولكن بأشكال وصيغ مختلفة.

كثيرا ما يؤدي غياب الشروط الثلاثة للثورة (الفكرة الخلاقة، النخبة المنظمة، الجماهير الواعية) إلى إجهاض أو خطف هذا الحراك الثوري الوليد قبل أن ينضج، وأحيانا قبل أن يولد

علينا أن نميز بدقة بين الانفعالات الجماهيرية المكبوتة، والتي تعبر عن نفسها بأيقونة (الشعب يريد إسقاط النظام)، وبين إمكانية توظيف زخم هذه اللحظات التاريخية لتحقيق قفزة نوعية حقيقية لتغيير قدر ومصير هذه الأمة، وتهيئة الظروف اللازمة والأفكار المناسبة للتأسيس لمرحلة جديدة من الاستقلال السياسي القائم على الاستقلال الاجتماعي والاقتصادي، وصياغة معادلة تضمن ربط تغيير النظام بإحداث تغييرات أفقية على مستوى المجتمع والحريات.

إن إغفال مثل هذه المعادلة ومثل هذا الربط قد يعيد المنطقة إلى مربع الاستقلال الناقص الأول. وإذا كان نموذج الاستقلال والثورات الأول قد أسفر بعد نصف قرن -نتيجة الفشل الاقتصادي والاجتماعي- عن انغلاق وانعزال ودكتاتورية الأنظمة، فإن تكرار "الثورة" على مستوى تغيير الأنظمة السياسية فقط، قد يؤدي إلى غربة هذه الأنظمة، وإلى انقسامات مجتمعية حادة على أسس طائفية وعرقية.

إن هذه الثورات بحاجة إلى جهد فكري وسياسي -هو من اختصاص النخب الشابة- لصياغة مثل هذه المعادلة، على أن تكون معادلة حقيقية ونقية، تنتمي إلى جوهر هذه الأمة، بعيدا عن الاستنساخ والتلاعب الخارجي وترف الصالونات الفكرية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.