ثرثرة على النايل سات

ثرثرة على النايل سات

undefined 

الاستقطاب شديد في مصر، ونحاول أن نقف في الوسط، ليس للحفاظ على توازن مصطنع، بل لكي نعير كل قطب عيناً منصفة. وبعد بضع فقرات سنتناول "الترع" الفضائية المتبقية ونسلقها بلسان حاد.. ومنصف أيضاً. لماذا لم يغلقوا بقية القنوات أسوة بالقنوات المؤيدة للإخوان؟ لا نطلب ذلك من باب العدل، فمصر تعيش مرحلة "إما أن تكون معنا أو علينا"، لكن لأن الهواء أصبح عفناً من هذا الشحن.

خرج الناس في 30 يونيو/حزيران الماضي؛ ولا شك في أنهم خرجوا خروجاً كبيراً، وهزوا مكانة الرئيس المعزول محمد مرسي بقوة على الرغم من أن خطابه الأخير (ذاك الطويل) كان موفقاً من حيث هو حديث إلى الناس ومفاتحة قلبية. لقد ذكرني بأول خطاب للسادات.

فقد قام أبي -رحمه الله- عن أول خطاب للسادات وهو يقول "نعم، هذا الرجل جدير بحكم مصر". تحدث السادات يومئذ حديث كبير القوم، وابن البلد في آن، وكان موفقاً. وكان خطاب مرسي الأخير الطويل بالعامية، فوفر على اللغة العربية بضع عشرات من الأخطاء النحوية. ووفق في الانسياب بأريحية؛ على أن مرسي زل زلة كبيرة عندما سمى أشخاصاً بأعيانهم: أشخاصاً عاديين ما كان لرئيس الجمهورية أن "يضع رأسه برؤوسهم"، لولا أنه ضعيف. واشتم المواطن المصري البسيط رائحة الدم، اشتم أن الذئب جريح. والذئب الجريح مأكول.

حكم الإخوان سنة، ولم ينالوا فرصتهم، ولا نقول حيل بينهم وبين أن ينالوها، فالذي يحكم عليه أن يتوقع المعارضة. كما أنهم لم يكونوا ذوي خبرة سياسية عملية. بالغوا في أخونة الدولة، لكن، ليس إلى الحد الذي يصفه خصومهم، فكل حزب يأتي إلى السلطة يحاول أن يضع أنصاره في المراكز المهمة كي "يعرف يحكم".

لكن فكرة "التمكين" الراسخة في الفكر السياسي الإخواني كانت مثار خوف عند الخصوم السياسيين. فالإخوان ينتظرون حتى "يمكَّن لهم في الأرض"، ثم يمكثون ولا يريمون، وفي هذا ما يخيف أي معارض سياسي. أما أنهم كانوا متغلغلين في الجيش كما أرادنا السيد ثروت الخرباوي أن نصدق، فقد تفضل الفريق أول السيسي بالجواب.

صدقية أي انتخابات مقبلة قد اهتزت، ولم يعد بإمكان الحاكمين الجدد أن يزعموا لأنفسهم الديمقراطية، ولا الشرعية: لا الآن، ولا بعد الفوز بانتخابات

كان في تصريحات الإخوان غير قليل من السذاجة، لكن المقتل كان "سد إثيوبيا". فقد تعامل الحكم المصري مع النشاط الإثيوبي لإقامة سد بإهمال وتفريط، وبإخفاء الكساحة تحت السجادة. كان في مقدور حكومة تنال تأييد واشنطن، كحكومة الإخوان آنذاك، أن تقدع النشاط الإثيوبي.

رغم كل أخطاء الإخوان فقد كانت بيدهم حقاً الشرعية. فليضحك الضاحكون على ترديد الدكتور مرسي لكلمة الشرعية، لكنها كانت بيده، وربما ما تزال.

ولعل كثرة ترديد مرسي لها إنما كانت لأنه لا يملك من الإنجازات ما يكفي ليقدمه للشعب، فلاذ بكلمة "الشرعية" لياذ من أجبل وأصفى وانقطع فظل يردد البيت الأخير. ليس عنده سوى الشرعية، ونعما هي، وليست تكفي، ونزعها منه لم يضفها على نازعيها. وفي معمعان ثوري محتدم ما أسهل أن يقول الناس: إلى الجحيم بالشرعية. وقالوا. ولقولهم عقابيل. فصدقية أي انتخابات مقبلة قد اهتزت. ولم يعد بإمكان الحاكمين الجدد أن يزعموا لأنفسهم الديمقراطية، ولا الشرعية: لا الآن، ولا بعد أن يفوزوا بانتخابات نزيهة أو غير نزيهة. كتب التاريخ بقلم عريض: انتهى حكم الإخوان على يد العسكر.

في زمن الثورة المستمرة، لا نتقبل كثيراً بكاء الإخوان على الشرعية، ولا نصدق ما يقوله "المتمردون" والبنية السياسية المهزوزة التي ركبت على حركتهم عن الشرعية الشارعية، فالشارع الملتهب ملتهب في الاتجاهين. فإذا كان لدى الفريق أول السيسي الجينات المناسبة فها قد رُفع الستار الآن في المسرح السياسي المصري عن فصل "نابليون"، فليتفضل. أما الديمقراطية فحلم مؤجل.

مكالمات السيسي الكثيرة مع واشنطن قد تحرمه من تمثيل نابليون، ونخشى أن تصدق مقولة جمال حمدان "كانت وما زالت معضلة مصر الحقيقية أنها لا تنهار أبدا ولا تنهض أبدا.. وكأنها ملعونة بلعنة الوسطية".

بسعيهم للتمكين لأنفسهم أخاف الإخوان المعارضين السياسيين، وبعدم اهتمامهم بالرغيف فقدوا تأييد البسطاء، وبتراخيهم في قضية النيل فقدوا تأييد الروح الوطنية المصرية.

والآن يفرش الرئيس المعين، ومن حلفوا اليمين أمامه، البساط الأحمر للحاكم القوي الذي ينتظر الفرصة للوثوب، كي يعيد حركة المرور إلى "التحرير" و"رابعة". وقد بدأ ينضج الآن الشعور بأن الثورة فرغت من التهام كل أبنائها ومسحت فمها الدامي، وحان وقت العمل ولو تحت حكم "عبد الجبار"، لقب عبد الناصر عند مناوئيه.

يجري كل هذا في مصر على صراخ قنوات تلفزية فقدت بريقها. أجمل ما على هذه القنوات الإعلانات التجارية. هي فقط ما يطمئن المرء إلى أن في مصر اقتصاد، وفيها تسويق، وفيها مال يجري بين الأيدي، وفيها حياة عادية. غير أنها إعلانات مقلقة من جهة أخرى، لأنها ترسم صورة لمجتمع المدن الكبرى: مجتمع استهلاكي، اقتصاده ذيلي، واهتماماته سطحية. وأسوأ سوأة لهذه الدعايات أنها تعيل حفنة من المذيعين ذوي المرتبات السمينة، ممن يطعنون مهنة الإعلام في قلبها.

فليعلم القارئ أنني من جيل استمع إلى أحمد سعيد وهو يقول على "صوت العرب" عام 67: "الطائرات تتساقط بالعشرات.. كالحشرات". وقد كنا نعد معه الطائرات الإسرائيلية الساقطة، (وصلت شخصياً حتى العدد 76).

سمح حكم مبارك بالحوارات، وسمح بقدر غير قليل من الجرأة، ولكنه وقف بشدة ضد نشرة الأخبار. فالنشرة هي نشرة التلفزيون الرسمي فقط، وعلى المواطن أن يقيس الأمور بمسطرة واحدة.. رسمية

وما نراه في الإعلام التلفزي المصري الآن يذكر المرء بتلك الأيام السود. وإذ نشهد ما تتعرض له القنوات الخارجية من حملات، نقر بأن للمصريين الحق في أن يكفوا عن مشاهدة أي قنوات خارجية. ولكن المرء يحتاج إلى المعلومة المتوازنة. يحتاج إلى مشاهدة "رابعة" عندما تغص بالمحتجين، مثلما شاهد "التحرير". يحتاج إلى إعلام يصنع شيئاً غير الصراخ المتشنج. ويحتاج.. إلى نشرة أخبار.

شيء صغير تعلمته وأنا أشتغل لسنوات في راديو البي بي سي: جاء في أحد تلك الكتيبات التي يصفون فيها طريقتهم الإعلامية: "نشرة الأخبار ليست مجموعة أخبار ومعلومات فقط، بل هي أيضاً مسطرة قياس يقيس بها المستمع أهمية الأحداث الدائرة حوله".

نشرة الأخبار "كائن إعلامي" مهم لأنه يضعك في صورة الأحداث على نحو متكامل ومتوازن. فلماذا تفتقد تلك الترع الملوثة التي تملأ الفضاء المصري إلى نشرة أخبار؟ ذلك إرث قديم، فقد سمح حكم مبارك بالحوارات، وسمح بقدر غير قليل من الجرأة، ولكنه وقف بشدة ضد نشرة الأخبار. فالنشرة هي نشرة التلفزيون الرسمي فقط. وعلى المواطن أن يقيس الأمور بمسطرة واحدة.. رسمية.

جمهور "تمرد" وجمهور "الإخوان"، والجمهور العريض الأكبر -سمه حزب الكنبة، أو قل "أولئك البسطاء الذين يركضون وراء اللقمة"- كل هذا الجمهور من حقه أن تحترم عقله ومشاعره، وأن تقدم له الخبر الصادق، والتحليل الرائق، والنقاش الهادئ.

التعبئة والشحن ليسا مفيدين لقضية معارضي مرسي. والشعب المصري أذكى من أن يصدق أن رابعة فارغ. أقول هذا وأضيف أن الإعلام التلفزي المصري قبل 30 يونيو لم يكن أفضل، فقد كانت القنوات المؤيدة للرئيس المعزول مغرقة في الشحن والردح. كان ذاك ردحاً من فوق اللحية، والآن الردح حليق.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.