انتخابات إيران وأزمة النووي… حوار أم مواجهة؟

الانتخابات الرئاسية الإيرانية والأزمة النووية.. الحوار أم المواجهة؟

undefined 

في ظروف "داخلية وخارجية" بالغة الصعوبة والتعقيد سيتسلم الرئيس الإيراني القادم مهامه كرئيس للجمهورية الإسلامية الإيرانية. ففي الخارج تبدو إيران مهددة بمزيد من العقوبات والعزلة الدولية نتيجة لملفها النووي، وهل هذا معناه أن الرئيس الجديد سيكون عليه خوض معركة خطيرة وصعبة مع "الخارج"؟ سؤال مهم سوف تحسم الإجابة عليه الكثير من الاستفسارات حول مستقبل الأزمة النووية بين إيران والمجتمع الدولي، وهل ستؤثر نتائج الانتخابات الرئاسية في تغيير إستراتيجية تعامل طهران مع الغرب فيما يتعلق بالملف النووي في ظل وجود مجموعة من الحقائق التي لا يمكن لرئيس الجمهورية الإيراني القادم تجاوزها؟

مع تولي الرئيس الجديد في إيران، ستبدو الأزمة النووية على أعتاب مرحلة جديدة من التصعيد، ولكن هذا الأمر ربما يكون مختلفا كثيرا عن جولات التصعيد السابقة، إذ لم يتبق أمام صانع القرار النووي الإيراني مساحة كبيرة للحركة والمناورة السياسية، وليس هناك أيضا الكثير من الوقت الذي يمكن لإيران تضيعه مجددا في مفاوضات تفضي إلى طريق مسدود، خصوصا في ظل تصاعد احتمالية المواجهة الأميركية مع إيران، على الرغم من أن الأزمة النووية الإيرانية بدت كما لو كانت في طريقها للحل من خلال المفاوضات الماراثونية بين إيران والغرب إلا أنها وصلت لأفق مسدود، وبدت إيران كما لو كانت تدير أزمة مع المجتمع الدولي من خلال مفاوضاتها، ولا تسعى لحل هذه الأزمة.

الرئيس القادم لإيران سيتولى دفة الرئاسة في ظل أزمة مستحكمة مع الوكالة الدولية ومن خلفها المجتمع الدولي

وهذا من شأنه إعادة الأزمة النووية الإيرانية إلى المربع الأول مع ما يمثله ذلك من تحد خطير أمام الرئيس القادم لإيران، إذا نهجت إيران نفس السلوك السياسي.

الرئيس القادم لإيران سيتولى دفة الرئاسة في ظل أزمة مستحكمة مع الوكالة الدولية ومن خلفها المجتمع الدولي، أخذا في الاعتبار أن الملف النووي الإيراني ينطوي في الأصل على أهمية خاصة من بين كل الملفات الداخلية والخارجية الشائكة للسياسة الإيرانية، ليس فقط بحكم أن هذه القضية تستحوذ على الأسبقية الرئيسية في الاهتمامات الدولية إزاء إيران، ولكن أيضا لما يترتب على هذا الملف من احتمالية نشوب بؤرة جديدة للصراع في المنطقة، قد تؤدي إلى تقويض دعائم الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط برمته، ولكن الأكثر أهمية من ذلك يتمثل في إمكانية إقدام الولايات المتحدة، سواء بصورة منفردة أو في إطار ائتلاف دولي، بتوجيه ضربة عسكرية إلى إيران للقضاء على ما تمثله من تهديد نووي.

من هنا ولاعتبارات عدة ربما لم تحظ أية قضية من قضايا السياسة الخارجية الإيرانية بنفس القدر من الاهتمام الداخلي مثلما حظي الملف النووي الإيراني، لأنه أولا لم يعد فقط يمس مصالح طبقة مهمة داخل المجتمع الإيراني، وهي طبقة البازار المتحالفة مع التيار المحافظ والتي مارست خلال فترات متعددة من عمر الجمهورية الإسلامية، جهودًا حثيثة من أجل إضفاء نوع من المرونة على السياسة الخارجية، على اعتبار أن ذلك يمثل آلية مهمة للانفتاح على الخارج، وإقامة شبكة من العلاقات الاقتصادية الدولية، إلا أن السياسة المتشددة التي انتهجتها حكومة الرئيس محمود أحمدي نجاد فيما يتعلق بالملف النووي أفرزت تداعيات سلبية عرضت إيران لعقوبات اقتصادية، أثرت على جميع مكونات الشعب الإيراني، وكادت تعصف بأمن إيران واستقرارها.

ولأن هذا الملف ثانيًا، مثَّل أحد أهم محاور السجال والتطاحن بين التيارات والأجنحة السياسية الإيرانية.

ولأنه ثالثًا ارتبط بقضية أخرى تشغل الرأي العام الإيراني منذ نجاح الثورة الإسلامية ولغاية الآن، وهى قضية العلاقات مع الولايات المتحدة الأميركية، التي كان الخوض فيها سابقا يعتبر من محرمات السياسة الخارجية الإيرانية.  

هذه الاعتبارات بمجملها أكسبت الملف النووي الإيراني أهمية كبرى على صعيد البيئة الداخلية والخارجية لإيران، لدرجة بات معه هذا الملف أحد أهم محاور الاصطفاف بين مؤسسات صنع القرار والأجنحة السياسية في طهران.

من خلال معايشتنا للواقع الإيراني، على الرئيس القادم لإيران التوفيق فيما بين هذه الحقائق المتعارضة التي يؤمن بها صانع القرار النووي الإيراني، وهي تمثل مرجعيته ودستوره للتعامل مع هذا الملف، والتي هي بالتأكيد سيؤثر بعضها سلبا على تحقيق حل لأزمة الملف النووي الإيراني.

على الرئيس الجديد أن يدرك أن التغيير في شخص رئيس الجمهورية لن يؤدي إلى حدوث تغيير في توجهات السياسة الخارجية

الحقيقة الأولى، تتمثل في أن المسألة النووية تعتبر في الواقع مسألة إجماع وطني في إيران، ويندر أن نجد تباينات في المواقف بشأنها، سواء في مؤسسات صنع القرار، أو الأجنحة السياسية بمختلف أطيافها، واعتقاداتها، فهناك حالة إجماع في كافة هذه الأوساط على التشدد في التمسك بحق إيران الكامل في الاستخدامات السلمية للطاقة النووية، وكذلك بحقها في عمليات تخصيب اليورانيوم، والاختلاف الوحيد القائم بشأن هذه المسألة سيكون مستقبلا هو بين فئات متشددة وفئات أكثر تشددا.

من هنا لا عجب أن نجد حالة من التطابق بين موقف الرئيس السابق خاتمي "الإصلاحي" ومواقف الساسة "المحافظين" في مؤسسات صنع القرار الأخرى بشأن الملف النووي في إدارة الرئيس نجاد.

هذا الأمر يعطي بالمقابل ذريعة إضافية للتيار الأكثر تشددا في الإدارة الأميركية الذي يفضل تبني سلوك أكثر تصعيدا ضد إيران، لا سيما أن الأزمة النووية الإيرانية تعتبر الذريعة الرئيسية التي توظفها الإدارة الأميركية في الضغط على إيران، فعلى الرغم من أن الإدارة الأميركية تشعر بالفعل بقلق شديد من احتمال امتلاك إيران لسلاح نووي، فإن ما يزيد من حدة الأزمة النووية الإيرانية أنها تتداخل أيضا مع رغبة أميركية جارفة في استغلال الأزمة النووية والعقوبات من أجل الضغط على نظام الحكم الإيراني سعيا إلى إحداث تحولات داخلية في إيران، بل يبدو أن هذه الرغبة الأميركية ازدادت مع وصول الجناح المتشدد في إيران.

الحقيقة الثانية، أن على الرئيس الجديد في إيران أن يدرك أن التغيير في شخص رئيس الجمهورية لن يؤدي بالضرورة إلى حدوث تغيير طفيف في توجهات السياسة الخارجية الإيرانية تجاه البرنامج النووي الإيراني.

وذلك لاعتبارات عديدة، لعل أبرزها يتمثل في أن الموقف الإيراني تجاه الأزمة النووية يتسم بالفعل بقدر كبير من التشدد، بحيث لا يبدو من المتصور أن هناك ما يمكن أن يضيفه الرئيس الجديد إلى الموقف الإيراني، فعلى الرغم من أن الموقف الإيراني يقوم على أن البرنامج النووي يندرج بالكامل في إطار الاستخدامات السلمية للطاقة النووية، وأن إيران تتمسك بحقها الكامل في مواصلة تخصيب اليورانيوم، وهو ما يعتبر السبب الرئيسي وراء اشتعال الأزمة بين إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية، ومن ورائها أميركا والغرب.

الحقيقة الثالثة، أن على مرشحي الرئاسة أن يدركوا أن إيران الثورة قد اتخذت قرارها مبكرا بعدم المساومة أو المهادنة على برنامجها النووي، من خلال رفض مجلس صيانة الدستور ترشيح الرئيس رفسنجاني الذي لم يستند إلى دعم التيارات المتصارعة في الساحة السياسية الإيرانية، الذي يبدو أنه استشعر الخطر الذي بات يداهم إيران داخليا وخارجيا بفعل ما تواجهه إيران من عقوبات دولية غير مسبوقة نتيجة الموقف المتشدد لإيران إزاء يرنامجها النووي، لهذا طرح الشيخ رفسنجاني نفسه كمرشح "تهدئة" مستقل، منتقدا بشدة سياسة الرئيس نجاد تجاه البرنامج النووي، والتي أفضت -حسب قوله- إلى فرض عقوبات دولية غير مسبوقة على إيران، مما استدعى إقصاءه عن سباق الرئاسة.

واشنطن تدرك أن إيران تسعى لامتلاك برنامج نووي متطور من أجل تحقيق صفقة شاملة تضمن لطهران أن تلعب دورا إقليميا قائدا في المنطقة

الحقيقة الرابعة، لا بد من الإشارة كذلك إلى أهمية الفكر المسبق لدى الرئيس القادم لإيران التي يتداخل فيها الملف النووي الإيراني مع أبعاد مختلفة متعلقة بنظرية المؤامرة الخارجية من جانب أميركا وإسرائيل، ومن ضمنها القناعة الإيرانية حول البعد الإسرائيلي ونظرته للملف النووي، الذي يعتمد أساسا على تفرد امتلاك إسرائيل للسلاح النووي، وحيث الرفض الإسرائيلي المطلق لامتلاك أي دولة عربية أو إسلامية قدرات نووية عسكرية، خصوصا أن إسرائيل تعتبر تفردها بامتلاك هذا السلاح أحد أهم أسباب الحفاظ على وجودها.

أما البعد الثاني فهو الإستراتيجي، فالولايات المتحدة والغرب يدركان أن نجاح إيران في امتلاك قدرات نووية عسكرية سيؤدي بالتأكيد إلى تحويلها إلى قوة إقليمية عظمى في المنطقة، مما سيهدد معه بشكل لا يقبل الشك أو التأويل مصالح هذه الدول الحيوية في المنطقة والعالم.

الحقيقة الخامسة، حيث تجسدت رؤية لدى صانع القرار النووي الإيراني بعدم إمكانية الوصول إلى مخرج مقبول لمشكلة تخصيب اليورانيوم فيما بين إيران والوكالة الدولية، وحتمية توجيه ضربة عسكرية لإيران في النهاية، والموقف الأميركي من المسألة النووية الإيرانية، وطرح العديد من التساؤلات تتركز فيما إذا كانت الإدارة الأميركية سوف تقبل بسهولة أي اتفاق يتم الوصول إليه مستقبلا فيما بين إيران والوكالة الدولية، أم إنها سوف تستمر في إثارة الشكوك بشأن النوايا النووية الإيرانية.

وهذا يرتبط مباشرة بمدى ثقة الغرب عموما وواشنطن خصوصا، إضافة لإسرائيل بالسلوك النووي لإيران، مما قد يؤدي إلى استمرار الأزمة وتعقيدها. وهذا الأمر يطرح إشكالية حول إمكانية أو عدم إمكانية حصول إيران على ضمانات دولية أو عسكرية من جانب واشنطن أو تل أبيب أو كليهما معا.

الحقيقة السادسة، من الأمور التي لربما ستراهن عليها الرئاسة الجديدة في مفاوضات إيران مع الغرب حول برنامجها النووي هو العودة الروسية ومن خلفها الصين إلى المساهمة بفعالية في صنع القرار الدولي، وبالتالي إعادة النظر في سلوكها الخارجي تجاه البرنامج النووي الإيراني، خصوصا أن هناك مؤشرات سياسية، جيوإستراتيجية اقتصادية، وعسكرية باتت تؤكد عودة موسكو للمنافسة على القرار الدولي وبقوة في ظل معركة مكاسرة الإرادات السياسية بين روسيا والغرب، والتي ظهرت تجلياتها من خلال الأزمة السورية.

الحقيقة السابعة، مدى نجاح الرئيس القادم لإيران في تبني سياسة تخادم الملفات، طبعا خدمة للبرنامج النووي، فأزمة الملف النووي تكشف حاجة مشتركة للطرفين الأميركي الإيراني للحوار حول البرنامج النووي لطهران، لكن كل حسب طريقته، ووفق مصالحه وأهدافه.

الإيرانيون يدركون أكثر من غيرهم حقيقة نفوذهم في أزمات المنطقة، ويدركون أيضا أن واشنطن والغرب، وحتى الدول العربية خصوصا الخليجية يريدون الحوار مع إيران

فالأميركيون حاولوا حصر استجابتهم للحوار مع إيران في أضيق الحدود تحسبا لاستغلال محاولة طهران تحويل الحوار حول مداخل الأزمات الاقليمية في المنطقة بدءا بالعراق، مرورا بالبحرين، وسوريا، ولبنان… إلخ، إلى مكاسب في الملف النووي، ولذلك كان تأكيد الإدارات الأميركية المتعاقبة عن أن الحوار لن يتجاوز الملف النووي، على عكس إيران التي أرادت وضع كل الملفات على الطاولة انسجاما مع إستراتيجية تخادم الملفات التي تعتمدها طهران لتحقيق أكبر عائد من المكاسب فيما يتعلق بملفها النووي.

أما ثاني هذه الأمور -التي تريد واشنطن عبر تقليص هامش الحوار مع طهران- سببه حرص الإدارة الأميركية على عدم تمكين إيران من جني مكاسب إستراتيجية من خلال وضع جميع الملفات على الطاولة اعترافا منها بدور إيران ضمن صفقة شاملة مع واشنطن.

فالولايات المتحدة تدرك تماما أن إيران تسعى لامتلاك برنامج نووي متطور من أجل تحقيق صفقة شاملة تضمن لطهران أن تلعب دورا إقليميا قائدا في المنطقة، وإيران أعلنت صراحة أنها تسعى لتكون دولة إقليمية عظمى بحلول 2020 م، وعندها ستكون إيران قد تمكنت من تجيير الصفقة مع أميركا لمصلحتها المباشرة وفي غير مصالح الحلفاء الإقليمين في المنطقة سواء كانوا من العرب والإسرائيليين، أضف لهم الأتراك.

بالمقابل فإن الإيرانيين ليسوا مضطرين -حسب رؤيتهم- للتورط في مباحثات مباشرة حسب الشروط الأميركية، لكنهم حتما سيذهبون في حالة تحقيق مصالحهم القومية في كل الملفات العالقة مع واشنطن أولا.

الإيرانيون يدركون أكثر من غيرهم حقيقة نفوذهم في أزمات المنطقة، ويدركون أيضا أن واشنطن والغرب، وحتى الدول العربية خصوصا الخليجية يريدون الحوار مع إيران.

وهذا سيكون اضطرارا وليس اختيارا، وذلك لعدة أسباب -حسب الرؤية الإيرانية- أولها: الإقرار الغربي والعربي بحجم النفوذ القوي لإيران في مداخل الأزمات الإقليمية في المنطقة، ثانيها: أن هذا الاعتراف بالنفوذ يتضمن إقرارا بالمصالح الإيرانية المشروعة في المنطقة.

ثالثها: أن واشنطن وعواصم الدول الغربية ستأتي مضطرة لعقد صفقة مع طهران في النهاية حفاظا على مصالحها.

هذا الفهم الإيراني هو الذي دفع أغلب مؤسسات صنع القرار والأجنحة السياسية فيها لإعلان قبولها المتكرر الحوار مع واشنطن بمن فيهم مرشد الثورة علي خامنئي.

هذا الأمر يكشف لنا بما لا يدع مجالا للشك عدة حقائق مهمة ومحورية أن إيران على رأس المستفيدين من تفجر الأزمات الإقليمية حيث تسعى إلى تحويلها إلى أوراق مساومة ومقايضة حول الملف النووي الإيراني، وثانيها أن أي صفقة أميركية إيرانية ستدفع ثمنها دول المنطقة، خاصة العربية "الخليجية" التي وضعت كامل بيضها في السلة الأميركية، وعجزت عن تثبيت دور قوي لها لحل الأزمات الإقليمية، أو حتى طرح مشروع فاعل للوقوف ضد النفوذ الإيراني المتعاظم في المنطقة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.