الأمن الإسرائيلي وتجريد العرب من عناصر القوة

أمن إسرائيل وتجريد العرب من عناصر القوة - نواف الزرو

undefined 

منع الوحدة العربية وإثارة الفتن الطائفية
السيطرة الإستراتيجية على الشرق الأوسط
التعليم والعلم والتقنية والاقتصاد
يقظة الأمة العربية

كأن ما يجري في الدول العربية في المشهد الراهن، من حروب أهلية داخلية، ومن فوضى وتخريب، وتفكيك وانهيار للأمن القطري والقومي العربي على حد سواء، إنما يلبي مخططات ورغبات صهيونية قديمة كامنة. وكأن ما يجري للأمة العربية في هذا الزمن، وبعد 65 عاما من النكبة المفتوحة واغتصاب فلسطين، من غياب وتغييب وفقدان للبوصلة والدور والوزن على المستوى الإقليمي والدولي، إنما يخدم تلك الأجندة الصهيونية، فما الذي بحثت عنه وأرادته الصهيونية منذ نشأتها، سوى هذا المشهد العربي المتفكك والضعيف والمجرد من عناصر القوة الإستراتيجية، لصالح الأمن القومي الإسرائيلي؟!

منع الوحدة العربية وإثارة الفتن الطائفية
منذ أن كان مشروع "الوطن القومي لليهود في فلسطين" فكرة في رؤوس أقطاب الحركة الصهيونية والغرب الاستعماري، خططوا وأعدوا العدة لتهيئة المناخات المحلية والإقليمية والدولية لولادة غير طبيعية لذلك المولود الصهيوني، وكان ذلك يستلزم منهم في مقدمة ما يستلزم، العمل من أجل حياة وبقاء ذلك المولود، وهو ما عبر عنه جنرالهم الأسبق موشيه دايان في لقاء مع مجلة "بمحنيه" الناطقة بلسان الجيش الإسرائيلي، قائلا "إننا (أي إسرائيل) قلب مزروع في هذه المنطقة، غير أن الأعضاء الأخرى (العرب) هناك ترفض قبول هذا القلب المزروع، ولذلك لا خيار أمامنا سوى حقن هذا القلب بالمزيد والمزيد من الحقن المنشطة، من أجل التغلب على هذا الرفض"، مؤكدا أن " الأمر بالنسبة لنا حتمية حياتية".

وكي يعيش هذا القلب المزروع لأطول فترة من الزمن في هذا المحيط الرافض، طوّر قادتهم ومنظروهم ما يمكن أن نطلق عليه نظريات ومرتكزات الأمن القومي الإسرائيلي، التي تقوم بالأساس ليس فقط على تطوير القدرات العسكرية الإسرائيلية، وإنما أيضا على تنظيف المنطقة من عناصر القوة العربية المهددة للوجود الصهيوني.

إذا تحققت الوحدة العربية بين عرب آسيا وعرب شمال أفريقيا، فإن ذلك يعني نهاية دولة إسرائيل

أما عناصر القوة العربية التي تشكل تهديدات محتملة لوجود ومستقبل ذلك المولود المزروع في الجسم العربي، ففي مقدمتها من وجهة نظرهم الوحدة العربية التي إن تحققت بين عرب آسيا من جهة، وعرب شمال أفريقيا من جهة أخرى، فإن ذلك يعني نهاية دولتهم، وقد أدركوا ذلك مبكرا جدا بعقلية الغرب الاستعماري.

ولذلك بعدما نشر الكاتب والمفكر القومي العربي نجيب عازوري نهاية العام 1904 كتابه "بلاد العرب للعرب"، وكتابه "يقظة الأمة العربية" عام 1905، ودعا فيهما إلى الحذر من الاستعمار والمشروع الصهيوني، قال ماكس نوردو -وهو من كبار مؤسسي ومنظري الصهيونية- "إن أكبر أعدائنا هم القوميون دعاة  العروبة خارج أرض إسرائيل، وخصومنا في سوريا ومصر، الذين يقومون بكل ما في وسعهم لإثارة شعور الكراهية ضد الصهيونية والهجرة اليهودية إلى أرض إسرائيل". كما رفع نحوم سوكولوف من الآباء المنظرين للفكر الصهيوني مبكرا، مذكرة إلى الخارجية البريطانية يوم 12/4/1916 قال فيها إن "إنشاء كومنولث يهودي في فلسطين تحت حماية إنجلترا سيقيم جدارا فاصلا بين عرب آسيا وعرب الشمال الأفريقي، وهذا سيكون فيه خدمة كبرى لدولة تضم في حوزتها عربا من الجانبين".

لقد خشيت "إسرائيل" من الوحدة القومية العربية، كما تخشى من جهة أخرى أي وحدة إسلامية حقيقية، ودعت إلى مواجهة المد القومي العربي، إلى جانب تشكيلها فرقا استخبارية مهمتها الأساسية تحريض الأقليات الدينية والإثنية في الدول العربية ضد العرب. وفي هذا الصدد، وبعد قيام الوحدة بين مصر وسوريا عام 1958، أرسل بن غوريون رسالة إلى الرئيس الأميركي إيزنهاور، تناول فيها خطر قيام الوحدة على أمن إسرائيل، وقال فيها إن "إسرائيل بحاجة إلى مانع  قوي يصد عنها احتمالات الهجوم العربي، وإن هذا المانع لا يمكن أن يتمثل إلا في أن يكون لإسرائيل جيش قوي تستطيع أن تواجه به تيار الوحدة الذي يزداد قوة". 

وفي رسالة ثانية للرئيس الأميركي، قال بن غوريون "إن عوامل الوحدة العربية تعمل بنشاط، وإذا نجح مسعاها فإن حصار إسرائيل يصبح كاملا، وتصبح جيوش الدول العربية قادرة على أن توجه إليها ضربات خطيرة من جبهات متعددة، وسيعني ذلك تدهورا خطيرا في مقتضيات أمن إسرائيل، لأنه كما تعلم بخبرتك العسكرية الفذة، ليس لإسرائيل أي عمق من الناحية الجغرافية".

ولذلك، كان "لإسرائيل" والغرب -وفي مقدمته الولايات المتحدة- دور مركزي في العمل على الانفصال وضرب الوحدة العربية بأيد عربية، وتواصلت المؤامرة لإسقاط  ليس فقط نظام الرئيس عبد الناصر، وإنما فكرة ومشروع الوحدة -أيّ وحدة- عربية، وما تزال!

السيطرة الإستراتيجية على الشرق الأوسط
وتتكامل المهمات الصهيونية في هذا الإطار الإستراتيجي، فضرب الوحدة العربية، وإغراق  الأمة العربية بالنزاعات والحروب الداخلية، إنما تؤدي في الحاصل الإستراتيجي إلى السيطرة الإستراتيجية الإسرائيلية على منطقة الشرق الأوسط برمته، وهذا ما حرصت وتحرص عليه أيضا الإدارة الأميركية ومعها الدول الأوروبية، التي تجمع على "الحفاظ على التفوق العسكري الإستراتيجي الإسرائيلي في منطقة الشرق الأوسط"، إذ "الهدف الرئيسي للسياسات الإسرائيلية هو السيطرة الإقليمية على الشرق الأوسط بأكمله، والمخطط الإسرائيلي هو تحييد الفلسطينيين والسيطرة التامة عليهم، حتى تتفرغ إسرائيل لتحقيق أهدافها الحقيقية. والسيطرة على الشرق الأوسط أكثر أهمية في التفكير الإستراتيجي الإسرائيلي. ومن أهم وسائل إسرائيل في تنفيذ مخططاتها هو النفوذ الإسرائيلي على السياسات الأميركية", كما أكد البروفيسور الإسرائيلي إسرائيل شاحك.

شاحك:
إسرائيل لا يمكن أن تسمح لأي دولة في الشرق الأوسط بتطوير إمكانيات نووية، وتعطي لنفسها الحق في استخدام ما تراه مناسباً لمنع مثل هذا الاحتمال

وعن الأسلحة الإستراتيجية أضاف شاحك أن "إسرائيل لا يمكن أن تسمح لأي دولة في الشرق الأوسط بتطوير إمكانيات نووية، وتعطي لنفسها الحق في استخدام ما تراه مناسباً من وسائل لمنع مثل هذا الاحتمال، حتى تظل في وضع احتكار السلاح النووي وامتلاك الرادع النووي دون منازع"، وهي النظرية التي عرفت باسم "نظرية بيغن"، ومفادها أنه "يتوجب على إسرائيل السعي بصورة فعلية إلى منع أي محاولة عربية لإنتاج سلاح نووي".

والتعبير العملي -التطبيقي- لهذه النظرية كان عبر تدمير المفاعل النووي العراقي "تموز" يوم 7 يونيو/حزيران 1981 على يد سلاح الطيران الإسرائيلي، وقال بيغن في أعقاب هذه العملية "لن نقبل بأي شكل من الأشكال، أو شرط من الشروط، أن يقوم عدونا بتطوير سلاح دمار شامل ضد شعبنا".

كما كان بعمليات القصف والتدمير التي نفذتها "إسرائيل" ضد ما زعم أنها "منشآت نووية وكيمياوية وصاروخية سورية"، مذكرة بسلسلة الاغتيالات التي نفذتها الأذرع الاستخبارية الإسرائيلية ضد نخب من علماء الذرة الألمان والمصريين والعراقيين.

فالحكومات الإسرائيلية المتعاقبة منذ قيام دولتهم، رأت أن امتلاك أي دولة عربية أو حتى شرق أوسطية للسلاح النووي أو لمفاعل نووي وحتى لأغراض مدنية سلمية، يشكل خطرا على مصالحها القائمة وعلى مستقبلها العسكري والإستراتيجي في منطقة الشرق الأوسط، وهذا ينسجم مع الخط السياسي الذي أكده بيغن من "أن إسرائيل يجب أن تبقى مالكة مفتاح التفوق العسكري".

التعليم والعلم والتقنية والاقتصاد
غير أن عناصر السيطرة الإستراتيجية الإسرائيلية على الشرق الأوسط لا تكتمل بالنسبة لهم، إلا بالسيطرة التعليمية والعلمية والتقنية والاقتصادية أيضا، لذلك اعتبر قادة الصهيونية و"إسرائيل" أن التعليم والعلم والتقنية والاقتصاد من أهم عناصر القوة للدولة الصهيونية، فحرصوا من جهة أولى على تطوير قدراتهم في هذه الحقول، ومن جهة أخرى عملوا على تعطيل تطور العرب العلمي.

وقد أشار إلى هذا الكاتب اليساري توم سيغف في كتابه "الإسرائيليون الأوائل"، مؤكدا الأهمية الإستراتيجية للتعليم في بداية "تأسيس إسرائيل" بالقول إن "التعليم مصنع لإنتاج روح الأمة، وهو السلاح السري لليهود". وإذا كان التعليم كذلك لدى سيغف، فإنه قضية وجودية بالنسبة لرئيس معهد التخنيون -معهد الهندسة والعلوم التطبيقية الإسرائيلي بمدينة حيفا- البروفيسور بيرتس لافي الذي قال إن "تدريس العلوم قضية وجودية لإسرائيل".

ونستحضر هنا أنه منذ بدايات الكيان الصهيوني، طلب بن غوريون من وزيري التعليم والعلوم الإسرائيليين "إعداد خطة إستراتيجية تضمن تطور وتفوق إسرائيل في العلم والتعليم والتقنية على العرب". وربما كان وزير الحرب ورئيس الوزراء الأسبق الجنرال إيهود باراك أفضل من صاغ الرؤية الإستراتيجية الإسرائيلية في هذه الأبعاد، حينما أعلن أكثر من مرة أن "إسرائيل أقوى دولة في محيط 1500 كلم.. وهي دولة قوية جدا.. وعندما أتحدث عن القوة لا أقصد فقط الجيش الإسرائيلي، وإنما القوة الشاملة، بدءا من معهد وايزمن وفرقة بات شيبع، والفرقة الفرهمونية، وصولا إلى المفاعل النووي في ديمونة".

فلا شك أن أدق وأصوب مقاييس التقدم في عالمنا الراهن هي مقاييس العلم بكل حقوله وأشكاله، ولا شك أن السبيل الأول للنهضة والتنمية البشرية لدى أي مجتمع هو العلم، ولا شك أيضا أن التربية والتعليم قاعدة الانطلاق نحو النهضة العلمية، فبدون علم وتربية وتعليم لن تكون هناك نهضة أو تنمية لأي أمة. فمثل هذه المقاييس العلمية هي التي تميز عمليا بين أمة وأخرى، وبين شعب وآخر، وبين دولة وأخرى.

ونحن كأمة عربية على امتداد المساحة العربية، نفتقر -وفق الدراسات والتحقيقات الاستقصائية- إلى قدر كبير مفجع من المقاييس العلمية مقارنة بالدول والمجتمعات الأخرى، وربما نقول مقارنة على نحو خاص "بإسرائيل" التي تعتبر صراعها مع العرب صراع وجود وتفوق وسيطرة إستراتيجية، تستند بالأساس إلى التفوق العلمي والتقني والاقتصادي، وبالتالي العسكري، بل وأكثر من ذلك، فهي تحرص على شن حروب علنية وخفية كي تبقى أمة العرب بلا علم ولا تربية ولا تعليم، وبلا تقنية ترفع من شأنها إلى مصاف الدول المتطورة.

لا بد أن تستيقظ الأمة على نحو متجدد وحقيقي للخروج من أحوالها وحروبها الراهنة، وأن تعمل على إعادة ترتيب أوراقها وقدراتها، وتضع الصراع مع المشروع الصهيوني كأولوية عاجلة غير آجلة

يقظة الأمة العربية
نعتقد بأن المؤسسة الصهيونية بكافة عناوينها الأمنية والعسكرية والسياسية، وبكافة امتداداتها الداخلية والخارجية، وصولا إلى لوبياتها المتنفذة في الولايات المتحدة وأوروبا، لن تتوقف في يوم من الأيام عن مهماتها الإستراتيجية الرامية إلى تنظيف المنطقة العربية من عناصر القوة المتنوعة المشار إليها، مضافا إليها عشرات العناصر الأخرى المتفرعة عنها في كافة الحقول التعليمية، والعلمية والتقنية والاقتصادية، وذلك في إطار صراع يعتبرونه وجوديا وجذريا, إما نحن وإما هم.

وحتى لو تم التوصل إلى تسوية سياسية فالأوضاع والأحوال العربية الراهنة لا تعطي العرب موقفا نديا مع ذلك الكيان، يتيح لهم بناء عناصر القوة المتكاملة في العلم والتعليم والتقنية والاقتصاد، وبالتالي على المستوى العسكري الإستراتيجي.

وهذا ما يعيدنا ربما على نحو عاجل، إلى المربع الأول للصراع مع المشروع الصهيوني، بوصفه صراع وجود وبقاء، مما يستدعي أن تستيقظ الأمة على نحو متجدد وحقيقي للخروج من أحوالها وحروبها (داحس والغبراء) الراهنة نحو آفاق جديدة، وأن تعمل على إعادة ترتيب أوراقها وقدراتها وأجنداتها السياسية والإستراتيجية، وتعيد إلى قمتها فلسطين البوصلة، والصراع مع المشروع الصهيوني كأولوية عاجلة غير آجلة!

فأين العرب يا ترى من كل ذلك؟ ومتى نرى فجرا عربيا آخر مختلفا عن الراهن العربي القطري الطائفي الإثني المفكك والمهزوم؟! إنه الحلم العربي الممتد على نحو أكثر من قرن من الزمان.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.