حلايب.. قبل أبو كرشولا!

حلايب.. قبل أبو كرشولا! .الكاتب: كمال الجزولي

undefined

رغم الأسى المستحق بأثر ضياع أرواح المدنيين، وتدمير الممتلكات العامة والخاصة، في جنوب كردفان، وأيضا في أم روابة وأبو كرشولا وغيرها من مناطق شمال كردفان التي زحف إليها الاقتتال الأهلي، مؤخراً، مما أثار قلق الدولة السودانية، واستنفر قواتها المسلحة وأجهزتها الأمنية ومؤسساتها السياسية والإعلامية كافة، فإن الأجدر كان بالحزن والأسى، طوال العقدين الماضيين، والأوجب، بكل المعايير، للقلق والاستنفار، هو الوضعية القانونية الشاذة التي ظلت تفرضها مصر "الشقيقة"، منذ عهد مبارك، على مثلث حلايب وشلاتين وأبو رماد المتاخم لحدودنا الشمالية الشرقية مع البحر الأحمر، تماماً كما هي الوضعية الأخرى التي ظلت إثيوبيا "الشقيقة"، أيضاً، تفرضها على منطقة الفشقة المتاخمة لحدودنا الشرقية، بتمكين مزارعيها من الاستيلاء عليها، بالقوة، بعد طرد المزارعين السودانيين منها!

(1)

يتسم هذا الهوان بالمفارقة الصارخة حين نذكر أن أحد أهم مبررات انقلاب الإسلامويين، في يونيو/حزيران 1989م، الادعاء بأن احتلال قوات قرنق "السودانية"، أوان ذاك، لبعض المواقع، هو بمثابة "إنقاص الأرض من أطرافها"، استلافاً شكلانياً فجٍّاً للغة القرآن! ولكي نكون أكثر وضوحاً فإن الأحداث في جنوب كردفان وشمالها، وفي شتى مناطق دارفور والنيل الأزرق وغيرها، هي، في النهاية، وبصرف النظر عن أي جدل آخر، محض ملمح لصراع اجتماعي بين قوى مختلفة داخل الوطن الواحد، أما الوضعية التي فرضتها مصر وإثيوبيا على حلايب والفشقة فهي احتلال أجنبي، على المكشوف، لجزء عزيز من الوطن، بالمخالفة للقوانين والأعراف الدولية.

ما كان لمصر مبارك أن تقدم على الإذلال الجهير للوطنية السودانية إلا استغلالاً لتضعضع النظام الإسلاموي الحاكم في السودان، المتهم بمحاولة اغتيال مبارك في حادثة أديس أبابا 

ولأن مقالتنا هذه تركز، فحسب، على نموذج حلايب، فيلزمنا أن نقرر، ابتداءً، أن مصر مبارك ما كان لها أن تقدم على هذا الإذلال الجهير للوطنية السودانية إلا استغلالاً لتضعضع النظام الإسلاموي الحاكم في السودان، والذي فاقمت من وهنه واقعة القبض عليه، أواسط تسعينيات القرن المنصرم، متلبساً بمحاولة اغتيال الرئيس المصري السابق في حادثة أديس أبابا المعروفة، دَعْ تضعضع جبهته الداخلية بسبب شقاقه المتفاقم مع أقسام واسعة من شعوب البلاد التي بات أكثرها يرفع السلاح في وجهه، تعبيراً عن اتفاقها، رغم اختلاف لغاتها وأديانها وثقافاتها وتكويناتها الإثنية، على رفض مجمل مناهجه وسياساته.

ولا نمل تكرار القول بأن المثلث السليب ظل يتبع، تاريخياً، وعلى الأقل منذ الاستقلال عام 1956م، للسيادة السودانية. ومعلوم أن القاعدة الدولية التي اتفق على إخضاع ترسيم حدود المستعمرات السابقة لها، أوان تصفية النظام الاستعماري القديم، عقب هزيمة النازية والفاشية في الحرب الثانية، ورفرفة رايات الديمقراطية على العالم، ونشوء الأمم المتحدة، هي الإقرار بالحدود التي كانت قائمة لحظة خروج المستعمر.

ضف إلى ذلك أن سكان هذا المثلث، الذين يقطنونه بصفة مستمرة لا ينازعهم فيه منازع، وعددهم زهاء الـ200 ألف نسمة، هم من البشاريين والعبابدة السودانيين. وقد ظل علم السودان يخفق فوقه حتى أواسط تسعينيات القرن المنصرم، والمعاملات فيه تتم بالعملة السودانية، وتحرسه قوة من الجيش السوداني، ويمثل، تقليدياً، دائرة انتخابية تبعث بنائبها إلى برلمانات السودان المتعاقبة.

ولم يحدث، حتى انقلاب النخبة الإسلاموية عام 1989م، أن ادعت مصر حقوقاً عليه، إلا في فبراير/شباط 1958م، أيام عبد الناصر، حين دخلته قواته، فحشد عبد الله خليل رئيس الوزراء ووزير الدفاع السوداني آنذاك قواته بالمقابل، حتى إذا تكدرت علائق البلدين، واربدت سماواتها بغيوم العداوة، ولاحت في آفاقها نذر حرب شؤم، سارع عبد الناصر لسحب قواته، فانقشع الكرب، وانزاحت الغمة، وانخمدت الفتنة في مهدها.

ومن نافلة القول إن سودانياً واحداً لم يعترض على تلك الإجراءات، رغم اتخاذها في زمن صراعات سياسية شديدة الحدة!

(2)

بعد زهاء نصف القرن أعاد نظام مبارك تلك المحاولة الآثمة بنجاح، للأسف، فلم يعد ثمة سبيل لاستعادة المثلث سوى بإحدى طرق ثلاث: الدبلوماسية، أو العسكرية، أو التحكيم. غير أن النظام الإسلاموي لم يجرؤ، بسبب العوامل المشار إليها، على محاولة أي من الطرق المذكورة.

ظل الحال على ما هو عليه حتى أُسقط نظام مبارك بثورة شعبية، وحلَّ محله نظام ديمقراطي صعد بجماعة "الإخوان" إلى سدة الحكم، مما أوحى، ظاهرياً، بإمكان توصل النظامين المتقاربين، أيديولوجياً وسياسياً، إلى شكل من الاتفاق السلس على إعادة المثلث إلى وضعية ما قبل الاحتلال، وتحميل نظام مبارك، وحده كامل المسؤولية، دعائياً، عما جرى منذ 1995م، وإحالة الأمر لنهجه المذموم في الإساءة إلى "العلاقات الأزلية بين الشعبين الشقيقين"!

غير أن ما وقع، عملياً، كان بخلاف ذلك! فمن جهة مصر بقيت القضية في عتمة المسكوت عنه، ومن جهة السودان واصل النظام تضعضعه إزاءها، لا يجرؤ على الحديث عنها إلا همساً، ولا الإشارة إليها إلا من تحت المائدة!

ثم جاءت زيارة الـ48 ساعة التي قام بها الرئيس مرسي إلى الخرطوم في الرابع من أبريل/نيسان المنصرم، ففجرت الأزمة، ابتداءً من تصريح موسى محمد أحمد مساعد رئيس الجمهورية السوداني وزعيم "جبهة الشرق" المتحالفة مع النخبة الإسلاموية بموجب "اتفاق أسمرا لعام 2006م"، والذي رفع القضية إلى سطح المائدة، كاشفاً، في مؤتمر صحفي، أن الرئيس المصري وعد أثناء الزيارة بإعادة المثلث إلى السيادة السودانية (الصحافة، 10 أبريل 2013م).

بعد ثورة 25 يناير أبقت مصر قضية حلايب في عتمة المسكوت عنه، ومن جهة السودان واصل النظام تضعضعه إزاءها، لا يجرؤ على الحديث عنها إلا همساً، ولا الإشارة إليها إلا من تحت المائدة!

تجدر، هنا، ملاحظة وقوع ذلك التصريح في سياق تململ سياسي بات يعتري "جبهة الشرق"، منذ حين، حيث سبق لموسى نفسه أن عبَّر عن احتجاجه على عجز الحكومة عن تقديم أكثر من مائة مليون دولار لصندوق إعمار الشرق كله (المصدر)، الأمر الذي وصفه، لاحقاً، بالتنصُّل من تنفيذ الاتفاقية، والتراخي إزاء احتياجات إنسان الشرق الذي ما زال يعاني من الجهل والمرض والتخلف (الرأي العام، 1 مايو 2013م). وبذات هذه الروح الاحتجاجية جاء كشفه عن "وعد مرسي"، مشدداً على سودانية حلايب، ومعتبراً "تسليم البلاد للأجيال القادمة من دون هذا المثلث وصمة عار في الجبين" (الصحافة، 10 أبريل 2013م). ثم ما لبثت صدقية تصريحه أن تعززت بتصريح حسن هلال وزير البيئة والغابات والتنمية السوداني، على هامش مشاركته في مؤتمر بالإسكندرية، حيث أكد أيضاً على صدور "وعد مرسي" أثناء زيارته للخرطوم (سودان تريبيون، 17 أبريل 2013م).

وثمة ملاحظة أخرى لا بُدَّ، أيضاً، من التنويه إليها، وهي أن كلا من موسى وهلال وافد إلى النظام، ليس من بين صفوف الإسلامويين، وإنما من باب التحالف معهم!

وإذن، لئن كان معلوماً، للقاصي والداني، خور النظام الإسلاموي السوداني إزاء احتلال مصر للمثلث منذ أيام مبارك، مما جعل مستبعداً إقدامه الآن على أية مبادأة لاسترداده، سواء بالدبلوماسية، أو العسكرية، أو التحكيم، ولئن كانت علاقة التقارب الأيديولوجي والسياسي بين النظامين ترجح، مع ذلك، وجود تفاهمات بينهما لتخليص حكومة مرسي من ورطتها في هذه القضية، بمعالجتها تحت المنضدة، لئلا تشكل لها ورطة إزاء جبهة داخلية أشبعها نظام مبارك شحناً بـ"مصرية" حلايب؛ لكل ذلك فإن كشف عناصر سودانية من خارج صفوف الإسلامويين عن "وعد مرسي" أربك حسابات النظامين، وفتح "صندوق بنادورا" ما كان أي منهما يريد فتحه!

(3)

ما أن فجر الإعلام تصريح مساعد الرئيس السوداني، حتى ووجه مرسي بهجوم عاصف من جانب خصومه لدرجة اتهامه بـ"الخيانة العظمى" (الوفد، 16 أبريل 2013م)، فسارعت مؤسسة الرئاسة للتراجع عن "الوعد"، بنفي إثارة الموضوع، أصلاً، خلال الزيارة (وكالة الأنباء الكويتية، 7 أبريل 2013م). كما عجلت حكومة مرسي بإعلان متهافت عن بناء مساكن مجانية، ومنح أراض بأسعار رمزية لأهالي المثلث، وتوفير الرعاية الصحية، وخدمات المياه والكهرباء فيه بلا مقابل‏ (الأهرام، 10 أبريل 2013م). ثم سرعان ما تناقل الإعلام نبأ زيارة 48 ساعة أخرى لوفد عسكري مصري رفيع، برئاسة الفريق صدقي صبحي، رئيس هيئة أركان القوات المسلحة، حاملاً رسالة مباشرة من وزير الدفاع السيسي إلى نظيره السوداني، فلكأن الجيش قصد أن يمحو أثر "وعد مرسي"! وفي ختام الزيارة صرح عضو في الوفد بأن الفريق قال للمسؤولين السودانيين بلهجة حاسمة: "إن عليهم أن يعلموا أن حلايب أرض مصرية خالصة! وإنها خط أحمر! وإن مصر لن تتنازل، مطلقاً، عنها! وإن هذا الأمر منتهٍ تماماً، ويجب عدم التطرق إليه في المستقبل حفاظاً على العلاقات التاريخية بين البلدين الشقيقين!" (الوطن، 1 مايو 2013م).

ويقيناً لو كان الوضع معكوساً، وكان المخاطب (بفتح الطاء) مسؤولاً مصرياً لاستشاط غضباً، وللعن "سنسفيل" "الإخاء" و"العلاقات التاريخية" إن كان ثمنهما مثل هذه الإهانة الفظة! لكن، للأسف، لم يصدر عن الجانب السوداني ما ينفي أو يرد على ذلك الإذلال بما يستحق، بل، إمعاناً في الإهانة، لفت عضو الوفد المصري، في نهاية تصريحه، إلى أن وزير الدفاع السوداني "ناقش مع الفريق صدقي إمكانية الاستفادة من الخبرات المصرية في مجالات التدريب والتسليح!" (المصدر).

هروب كثير من الرسميين السودانيين إلى الأمام إزاء واقعة احتلال مثلث حلايب، بحديث ماسخ عن ضرورة اعتباره "منطقة تكامل تنموي" لمصلحة البلدين, يعد شكلا آخر من تجرع الإذلال

زاد طين الإذلال بلة تهافت رموز النظام السوداني ما بين "التشكيك!" في صدقية تصريحات موسى وهلال وبين التقليل من أهميتها، حيث صرح، مثلاً، وزير الخارجية علي كرتي بأن التصريحات بشأن حلايب لا تخدم "المصالح المشتركة" للبلدين (شبكة الشروق، 22 أبريل 2013م). وأكد عبد الرحمن إبراهيم الملحق الإعلامي السوداني بالقاهرة أن حلايب لن تكون منطقة صدام مع مصر (!) متهماً بعض الأطراف المصرية بمحاولة تقزيم النتائج الإيجابية لزيارة مرسي للسودان، بإثارة تنازله عن حلايب وشلاتين (الرأي العام، 18 أبريل 2013م)، بل إن الفريق أول ركن آدم موسى رئيس مجلس الولايات ذهب إلى أبعد من ذلك بأن وصف القضية برمتها بأنها "مجرد فرقعة إعلامية!" (مجلة أكتوبر المصرية، 21  أبريل 2013م).

ضف إلى ذلك شكلاً آخر من تجرُّع المهانة يتمثل في هروب كثير من الرسميين السودانيين إلى الأمام إزاء واقعة احتلال المثلث، بحديث ماسخ عن ضرورة اعتباره "منطقة تكامل تنموي" لمصلحة البلدين (!) ومع أنه يكاد لا يوجد في مصر كلها فصيل سياسي واحد، يميناً أو يساراً، ينادي بإعادة المثلث إلى السودان، بما في ذلك، للمفارقة، حزب مرسي نفسه، فإن "أفضل" المعارضين الوطنيين الديمقراطيين تلقف حُجَّة "التكامل" الواهية هذه يتقي بها حرج القبول بمنطق الاحتلال، رغم أنها تضعه على سرج واحد مع الإسلامويين السودانيين! مهما يكن من أمر فإن أبلغ تعقيب على التنطع بمنطق "التكامل" هذا ورد ضمن تأكيدات موسى محمد أحمد الصائبة، تماماً، بأن حلايب سودانية، وستظل سودانية، وأن الحديث عنها يأتي من باب الحرص على السيادة الوطنية، أما التكامل فلا يمكن تحقيقه تحت الاحتلال (الصحافة، 10 أبريل 2013م). 

(4)

شهدت الأيام الماضية استنفاراً ساخناً لاستعادة منطقة أبو كرشولا من أيدي قوات الجبهة الثورية. وفي خطابه بمناسبة تخريج فوج من الدعاة، أعلن الرئيس البشير أن الجيش اقترب من تحقيق ذلك (صحف، 14 مايو 2013م). وبالحق تمنيت أن لو شهدتُّ، قبل ذلك، استنفاراً وطنياً آخر، لا يقل سخونة، لاستعادة حلايب، بالدبلوماسية الجادة، أو بالتحكيم العادل، من باب الاتفاق التام مع محمد حسنين هيكل في تمنياته بألا تبلغ المشكلة حدَّ اللجوء لاستخدام السلاح (المصري اليوم، 12 أبريل 2013م).

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.