تركيا.. نحو حل المشكلة الكردية

تركيا.. نحو حل المشكلة الكردية . الكاتب: إسماعيل ياشا

 

عوامل تدفع الطرفين لإنهاء النزاع
نحو حل شامل

المشكلة الكردية كلفت تركيا خسائر بشرية ومادية فادحة منذ اندلاع الصراع الدموي بين حزب العمال الكردستاني وقوات الأمن التركية تقدَّر بحوالي خمسين ألف قتيل ونحو أربعمائة مليار دولار، ولا تزال تقف هذه المشكلة أمام تركيا كمعضلة مستعصية رغم المبادرات التي طرحت في السابق، إلا أن الحكومة التركية برئاسة رجب طيب أردوغان تبدو اليوم عازمة على حلها هذه المرة مهما كان الثمن، كما أن الطرفين أقرب للحل من أي وقت مضى.

المفاوضات مع زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان المسجون في جزيرة "إيمرالي" ببحر مرمرة بدأت في نهاية العام الماضي للتوصل إلى إنهاء النزاع المسلَّح، وذهب وفود من نواب حزب السلام والديمقراطية إلى أوجلان ليحملوا رسائله إلى قادة الحزب المقيمين في المعسكرات بجبال قنديل في شمال العراق، وصدرت تصريحات إيجابية سواء كانت من الحكومة التركية أو القادة الأكراد تبشر بأن الخطوات تسير باتجاه حل المشكلة.

خطاب أوجلان في عيد النيروز جاء تتويجا لجهود السلام، حيث دعا الأتراك والأكراد إلى التعاون من أجل المستقبل، وطلب من عناصر حزبه إلقاء السلاح

وفي خطوة لبناء الثقة وإظهار حسن النية، أفرج حزب العمال الكردستاني في 13 مارس/ آذار الماضي عن ثمانية أتراك، ستة جنود وضابط شرطة بالإضافة إلى مسؤول محلي، كانوا محتجزين لديه منذ نحو عامين، وسلَّمهم إلى وفد من ممثلي منظمات المجتمع المدني التركية ونواب حزب السلام والديمقراطية.

ثم جاء خطاب أوجلان في عيد النيروز تتويجا لهذه الجهود، حيث دعا فيه الأتراك والأكراد إلى التعاون من أجل المستقبل، وطلب من عناصر حزبه إلقاء السلاح والانسحاب من الأراضي التركية، مؤكدا أن المرحلة الحالية هي مرحلة السياسة لا السلاح.

عوامل تدفع الطرفين لإنهاء النزاع
هناك عوامل عدة دفعت الطرفين باتجاه البحث عن الحل السلمي للمشكلة بدلا من الاستمرار في النزاع المسلَّح وإراقة الدماء لحسم المعركة عسكريا، ومهدت الطريق لهذه المبادرة الأخيرة، ومن أهم تلك العوامل:

1- الظروف الإقليمية: فالتحولات التي تشهدها المنطقة في ظل ثورات الربيع العربي قلّصت المساحة التي كان حزب العمال الكردستاني يتحرك فيها على طول الشريط الحدودي الممتد من الأراضي الإيرانية إلى الشمال السوري مرورا بشمال العراق، ومع اندلاع الثورة في سوريا اختار حزب العمال الكردستاني الوقوف بجانب النظام السوري ظنا منه أن التحالف مع دمشق سوف يفتح أمامه فرصا جديدة ومساحة أكبر للتحرك، ولكن صمود الثوار بمشاركة كردية خيَّب آماله وأدرك حتمية سقوط النظام السوري عاجلا أو آجلا وأنه لا مكان له في سوريا الجديدة المتحالفة مع تركيا.

2- تحسن العلاقات مع كردستان العراق: علاقات تركيا السياسية والاقتصادية والتجارية مع إقليم كردستان العراق تحسنت كثيرا في السنوات الأخيرة بعد أن قررت أنقرة تعزيز العلاقات مع أربيل وإنهاء سياسة التجاهل.

ووصل التبادل التجاري بين تركيا وكردستان العراق العام الماضي إلى 12 مليار دولار بعد أن كان أربعة مليارات قبل أربع سنوات. وتشكل الشركات التركية حاليا حوالي نصف الشركات المستثمرة في كردستان العراق. وهناك خطط مستقبلية للتعاون في مشاريع أخرى خاصة في مجال الطاقة ونقل النفط الكردي إلى أوروبا.

وكان مسعود البارزاني قد صرح في مقابلة تلفزيونية مع إحدى القنوات العربية بأن أكبر حلمه ربط أربيل إلى أوروبا بالسكك الحديدية. ولا يمكن أن يتحقق هذا الحلم إلا بالتعاون الوثيق مع تركيا.

وكان من نتائج هذه السياسة الجديدة تعزيز التعاون الأمني لمكافحة الإرهاب، بالإضافة إلى الشعور لدى الأكراد بأنهم ليسوا مستهدفين من قبل الحكومة التركية، بل المستهدف هو ما يمارسه حزب العمال الكردستاني من الأعمال الإرهابية. ودعمت هذا الشعورَ تصريحاتُ قادة الإقليم المؤيدة للخطوات التي تتخذها حكومة أردوغان في سبيل حل المشكلة مع حزب العمال الكردستاني بالطرق السلمية.

سياسة الانفتاح التي تبناها أردوغان تجاه الأكراد أثبتت أن الأبواب مفتوحة على مصراعيها أمام الأكراد للنضال الديمقراطي والحصول على الحقوق دون سفك الدماء 

3- سياسة الانفتاح: حزب العمال الكردستاني منذ تأسيسه يرفع راية الدفاع عن حقوق الشعب الكردي المهضومة، وسياسة الانفتاح التي تبنتها حكومة أردوغان تجاه الأكراد بالإضافة إلى الإصلاحات الديمقراطية وتعزيز الحريات العامة أثبتت أن الأبواب مفتوحة على مصراعيها للنضال الديمقراطي والحصول على الحقوق دون الحاجة للجوء إلى الأعمال المسلحة وسفك الدماء، وسحبت هذه السياسة البساط من تحت أقدام حزب العمال الكردستاني الذي دأب على استغلال عدم الاعتراف بحقوق الشعب الكردي تبريرا لهجماته الدموية.

4- الضغوط الشعبية: الصراع الدموي بين حزب العمال الكردستاني وقوات الأمن التركية خلف حتى الآن عشرات الآلاف من بين قتيل وجريح من كلا الطرفين بالإضافة إلى الخسائر المادية الكبيرة التي تكبدتها تركيا في حربها ضد الانفصاليين.

وبكت الأمهات التركيات والكرديات على رحيل فلذات أكبادهن في ريعان شبابهم. وبعد سنوات من القتل المتبادل، سئم الأتراك والأكراد من استمرار إراقة الدماء، في ظل تنامي القناعة لديهم بأن حزب العمال الكردستاني لا يمكن أن يصل إلى أهدافه بالهجمات التي تحصد أرواح المدنيين من الأتراك والأكراد، كما أن الحكومة التركية لن تستطيع أن تحل المشكلة الكردية بالتدابير الأمنية وحدها. وارتفعت الأصوات سواء في الأوساط التركية أو الكردية ترفض القتل وتدعو إلى الحل السلمي للمشكلة.

5- تأييد المجتمع المدني للحل السلمي: كانت منظمات المجتمع المدني والجماعات الإسلامية من ضمن الأوساط الضاغطة على الطرفين لإنهاء النزاع المسلح والوصول إلى المصالحة لتنعم تركيا عموما ومحافظات جنوبي الشرق على وجه الخصوص بالأمن والاستقرار وتزدهر بالمشاريع الاقتصادية والتنموية التي حرمتها الأعمال الإرهابية منذ سنين. ومن أكبر الجماعات الإسلامية التي دعمت مبادرة الحل السلمي جماعة فتح الله كولن، ذات النفوذ الواسع داخل تركيا وخارجها، حيث أعرب زعيمها الأستاذ فتح الله كولن المقيم بالولايات المتحدة عن تأييده للمبادرة قائلا "الصلح خير".

6- التنافس الإقليمي والربيع العربي: في عهد حكومات حزب العدالة والتنمية تصاعد الدور التركي واشتد التنافس بين القوى الإقليمية، وكشفت الثورة السورية عن أن تركيا لا يمكن أن تصل إلى أهدافها دون أن تحل المشكلة الكردية التي تعطي القوى الإقليمية الأخرى فرصة استغلال هذه الورقة ضدها لاستنزاف قوتها وإشغالها بالمشاكل الداخلية.

كما أن موقف تركيا من الربيع العربي ورياح الثورات التي تهب في المنطقة يفرض على الحكومة التركية التعامل مع الملف الكردي أن تكون أكثر مرونة، بعيدا عن القمع والحلول الأمنية البحتة، إذ لا يمكن مبدئيا ولا أخلاقيا أن تؤيد مطالبة الشعوب الأخرى بالحرية والديمقراطية بينما تتجاهل مطالب الأكراد.

7- شعبية أردوغان: الجلوس على طاولة التفاوض مع حزب العمال الكردستاني ليس بأمر هين يستطيع أي زعيم سياسي أن يتحمل عواقبه، بل يحتاج إلى زعيم ذي شخصية قوية وشعبية واسعة يثق به الشارع التركي. ووجود زعيم مثل أردوغان لقيادة مراحل عملية السلام فرصة ذهبية لإقناع الأغلبية التركية بأن الخطوات التي تقدمها حكومته ليست استسلاما للإرهاب، ولن تؤدي إلى تقسيم البلاد.

8- تفكيك الشبكات الإجرامية: نجاح أي مبادرة للحل السلمي لم يكن ممكنا في ظل وجود شبكات إجرامية كشبكة "أرغينيكون" أو ما يعرف في تركيا بـ"الدولة العميقة" لأنها كانت قادرة على إفشالها وقتلها في مهدها، بهجمات مشبوهة تسفر عن مقتل عدد كبير من الجنود الأتراك، وتحريض المجتمع التركي ضد المبادرة عبر وسائل الإعلام الخاضعة لإملاءاتها، وغيرها من الأساليب التي من شأنها أن تدفع أصحاب المبادرة إلى التراجع تحت ضغوط الأحداث والرأي العام، لاستمرار نفوذ العسكر وتدخلاته في إدارة شؤون البلاد بحجة مكافحة الإرهاب.

ولكن الكشف عن محاولات الانقلاب العسكري على الحكومة وإلقاء القبض على قادة شبكة "أرغينيكون" في موجات اعتقالات طالت كبار الضباط في الجيش التركي وتفكيك "الدولة العميقة" وضع حدا لجرائم الشبكات الإجرامية وقلَّل من قدرة "الدولة العميقة" في التآمر على مبادرات الحل السلمي.

حل مشكلة حزب العمال الكردستاني سوف يغير ميزان القوة بالمنطقة لصالح تركيا، ويزعج دولا أخرى مثل إسرائيل وإيران وغيرهما

نحو حل شامل
مشكلة حزب العمال الكردستاني معقدة ولها أبعاد عدة تتداخل فيها مصالح القوى العالمية والإقليمية، ولا شك في أن حل هذه المشكلة سوف يغير ميزان القوة في المنطقة لصالح تركيا، ويزعج دولا أخرى مثل إسرائيل وإيران وغيرهما. ويجب على الحكومة التركية أخذ الحيطة والحذر وألا تتساهل حتى تنتهي خطوات عملية المصالحة كما خُطِّط لها.

مبادرة السلام التي أطلقتها حكومة أردوغان لم تواجه حتى هذه اللحظة عوائق كبيرة، وبينما تجوب لجان الحكماء التي تشكلت من الكتاب والمثقفين والفنانين وممثلي المجتمع المدني وقادة الرأي في مشارق تركيا ومغاربها للاستماع إلى آراء المواطنين حول المبادرة وإقناعهم بضرورة الحل السلمي لمشكلة الإرهاب الانفصالي، يواصل عناصر حزب العمال الكردستاني انسحابهم إلى خارج البلاد منذ الثامن من الشهر الجاري. ومن المتوقع أن تكتمل عملية الانسحاب في أشهر الخريف.

تركيا تسير هذه الأيام بخطى واثقة نحو حل المشكلة الكردية، وإلقاء حزب العمال الكردستاني السلاح لا يعني بالضرورة أن المشكلة الكردية قد انتهت، لأن المشكلة الكردية أعَمُّ من مشكلة حزب العمال الكردستاني، وحلها يتطلب خطوات سياسية واقتصادية وثقافية أخرى، إلا أن إنهاء النزاع المسلح مع حزب العمال الكردستاني ووقف نزف الدم في إطار الحل السلمي الشامل سيزيل أكبر عائق يقف أمام حل المشكلة الكردية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.