الدرونز.. القتل حين يتذاكى

العنوان: الدرونز.. القتل حين يتذاكى - الكاتب: عبد العزيز الحيص

 undefined

على الدوام، ظلت منطقتنا عرضة للتجريب والدراسة، وربما "الإثارة". بعد الحرب العالمية الثانية، يجادل بعض الأميركان أن ظروف الحرب دفعتهم للتدخل، وهذا ما أنتج قيادتهم للعالم، التي لم تكن مقصودة في البداية. منذ الستينات سيطروا على منطقة الشرق الأوسط. وثقوا علاقتهم بالدكتاتوريات المنتشرة في المنطقة، وأصبحت هذه الدكتاتوريات أداتهم للمنطقة وثرواتها.

علمياً وثقافياً، سبّبت الستينات، عبر انتشار الحركات الطلابية المتأثرة عادة باليسار ومثيلاتها في أوروبا، صداعا لصانع القرار الأميركي. ومن هنا تم تنويع المناهج الجامعية، التي أصبحت تهتم بالعلوم الإنسانية "المهتمة بدورها" بهذا العالم الجديد "المُسيطر عليه"، فيتم بذلك "توجيه" الاهتمام الطلابي الأميركي إلى الخارج.

استمر التجريب الأميركي في المنطقة عبر عقود، حتى وصلنا اليوم إلى مرحلة جديدة من عبر الحروب الذكية، أو حروب الطائرات دون طيار (الدرونز)

من هنا انتشرت صفوف واسعة من المواضيع الإنسانية والاستشراقية في جامعات أميركا، من الأنثروبولوجيا وحتى "الموسيقى الشعبية السواحلية". وتم إنتاج كتيبة من علماء الاستشراق الذين أخضعوا ثقافتنا وقيمنا وطرق حياتنا لمناهجهم. على رأس هؤلاء كان برنارد لويس، الذي على ما يبدو تغير مزاجه "ذات مرة" في حياته، فارتد "مقاتلا" على ثقافتنا التي تخصص فيها، ووصل به الأمر للقول إن أرقامنا "العربية"، ليست عربية بل "هندية". وبذا أصبحت كل الأرقام المتداولة لدينا هندية وهندية، فما للـ"بدو" ولإنتاج الأرقام والمعرفة!.

ومن الاهتمام الزائد بالعالم لدى أميركا، ما قاله ويليام بلوم صاحب كتاب "الدولة المارقة" حين ذكر أن أميركا تدخلت في العالم عسكرياً وبشكل سافر أكثر من سبعين مرة منذ العام 1945. وقد استمر تصاعد "نشوة" التدخل هذه حتى بلغت الذروة وقت "ريغان" بعد انهيار الخصم السوفياتي. استمر "التجريب" الأميركي في المنطقة عبر عقود، ووصلنا إلى مرحلة بوش الابن في العقد الماضي، ومرحلة الحرب على الإرهاب، أو "الحرب الصليبية"، عبر غزو أكثر من بلد مسلم وتدخلات بالسلاح والضربات الجوية والخطف وغيرها. واليوم، وصلنا إلى مرحلة جديدة من "التجريب الأميركي" في المنطقة عبر الحروب الذكية، أو حروب الطائرات دون طيار "الدرونز".

حين أتى أوباما إلى السلطة أواخر العام 2008، كان حريصا على اجتراح مسار جديد من العلاقات الدولية لأميركا. تكلم مع شعوب العالم وأخبرهم أن أميركا "ليست قطباً أوحد" وأنها تحتاج التكامل مع بقية العالم. عمل أوباما بحرص على نقض النسيج الذي صنعه بوش وأساء لسمعة أميركا، فقرر تجريم التعذيب، وقرر إلغاء السجون السرية لأميركا في العالم، وأمر بإغلاق "غوانتانامو" والانسحاب من العراق وأفغانستان. لكن هذا كله لم يكن كافيا لخداع أحد، فعلى سبيل المثال، موقف أوباما من "غزة" والاعتداء عليها، هو نفس موقف بوش، كما وصف "تشومسكي". 

المشكلة أن أوباما، الذي هو بالفعل أضعف من أن يقود تغييراً حقيقيا في مسار أميركا السياسي، قد مارس التذاكي علينا حين حاول أن يقود حروبا "ذكية" بصمت وسرية لا توقظ النائمين!. لقد آذانا أوباما منذ مقدمه مرتين. الأولى أنه حُسب علينا أمام ثقافة المحافظة الأميركية، فارتفعت العنصرية وهجمات "الإسلاموفوبيا" منذ مقدمه عام 2008 كما دلت التقارير، والأمر الثاني ادعاؤه أن أياديه نظيفة، وأنه مع السلم وتعزيز العلاقات الدولية، بينما أياديه تعمل بحيوية وحماس على إفلات هجمات الطائرات دون طيار التي تصيب الأبرياء وترعب المجتمعات.

وصل الأمر إلى أن وصفت القانونية الأميركية ماري أو كونيل، المحاربة ضد الدرونز، في تقرير لها، أن الاستهداف بالقتل لدى أوباما أشد سوءًا من "التعذيب" لدى جورج بوش الابن. وذلك لعدة اعتبارات أخلاقية وقانونية، منها أن عمليات التعذيب استهدفت أشخاصا بعينهم، بينما عمليات الدرونز تستهدفهم مع آخرين! 

كان الأمر كما ذكر صاحب كتاب "حروب أوباما السرية، 2012" أن قاد أوباما "حروباً إلكترونية" تعطل أنظمة دفاع جوي، وتهاجم أجهزة إلكترونية لأشخاص أو مؤسسات، وتدمر بنية تحتية لبلد معاد.. وكل هذا يتعاضد مع حروب المخابرات السرية المعتادة بما تتضمنه من تجنيد أو اختطاف. في سياق هذا كله، التمع نجم البطولة المتصاعد لدور الطائرات دون طيار "الدرونز"، حيث تضافر في أمر صعودها جانبان: رغبة أوباما في إدارة الحروب والقتل بسرية حيث ترغب أميركا في تعزيز حضورها الدبلوماسي "الناعم"، ورغبة أصحاب التجارة و"البزنس" ممن أصبحوا يبيعون هذه التقنية اليوم لمن يشتهي من "عصابات" دول العالم الثالث أو المتقدم.

تقتل الدرونز الكثير من الأبرياء, ووفقاً لإحصائيات باكستانية، فهناك خمسون مدنياً يسقطون مقابل سقوط مقاتل واحد!

خطط أوباما تعتمد على القتل أو الاغتيال، كما يتكرر كثيرا اليوم في باكستان أو اليمن، ومطلوب أن تكون هذه العمليات "هادئة"، لا يكتب عنها الإعلام العربي مثلا!. كما أن المقتول يفترض أن تبكيه أمه وبعض أخوته وأقاربه فقط، ولا يهم كثيرا من هو؟ فكما أوضحت تقارير صحافة الاستقصاء الأميركية فإن كل القتلى "الذكور" في مكان العملية يتم تصنيفهم: "مقاتل معاد" والقتلى "المدنيون" هم فقط النساء والأطفال في المكان.. لا يهم إذن من يقتل مع المقتول، سواء كان المكان تجمعاً "للعزاء" أو "محفلاً قبلياً"!

كما لا يهم كثيرا أن عملية القتل تستهدف مدنيين بالخطأ، فهذه سوف يتم تداركها باعتذار، أو تبريرها بالأخطاء التقنية. إن متعة التجريب والتلذذ بالأشياء الجديدة هنا تأتي من عدة أبواب، أحدها أن من يقود الضربات في حرب "الدرونز" هم  رجال  "سي آي إيه" القابعون في أميركا. وهؤلاء بعيدون حتى عن أبسط مستوى لأخلاقيات أرض المعارك التي تعرفها الجيوش. الأدهى أن أوباما والبيت الأبيض دعما مستشاره في شؤون الإرهاب "جون برينان"، كي يصبح رئيساً لجهاز الاستخبارات الأميركية (سي آي إيه). هذا الرجل يوصف بأنه الأب الشرعي للدرونز. وبعد اختياره سنشهد، على ما يبدو، "احتفالات بربرية" في هذا المسار!
 
تقتل الدرونز الكثير من الأبرياء. أشارت دراسة صدرت عن "معهد بروكنغز" للدراسات، أنه في مقابل كل شخص (مقاتل ومعاد) تقتله الدرونز، يسقط عشرة من المدنيين الأبرياء!. أما وفقاً لإحصائيات باكستانية، فهناك خمسون مدنياً يسقطون مقابل سقوط مقاتل واحد!. ويوجد في الإنترنت قوائم تحمل أسماء الأطفال الذين قتلوا عبر هجمات شنتها طائرات الدرونز في باكستان واليمن، أحدهم اسمه خالد عمره 12 سنة، والآخر اسمه علام 11 سنة، وهناك فتاة اسمها أفراح عمرها تسع سنوات، هل أكمل؟.. هنالك المئات منهم!

هذا القتل الذكي هو نوع من القتل الرخيص، الذي يعتمد المبدأ النفعي والرأسمالي حين يتعامل مع البشر، عفواً، أقصد حين يقتلهم. تشير الدراسات إلى أن تكلفة طائرة واحدة من "إيغل إف 15" تعادل سعر ألف طائرة درونز. ومائتا رحلة لطائرات دون طيار تستهلك وقود رحلة واحدة لطائرة "فانتوم إف 4"!. ممن نطلب الحل إذن، من أميركا؟. إن النقاش حول الدرونز في إعلامها ليس حول الضحايا، بل عن مسألة وجود "أميركي" بينهم!.

ما الذي علينا أن فعله حيال ذلك؟. هناك نقاط متعددة حيال هذا الأمر، لكن هذه الثلاث أهمها:
أولاً، لابد أن نعرف من نستهدف في هذه القضية؟، ومن هو المسؤول عن هذه الجرائم، كي لا تتشتت المسؤولية وتضيع دماء الأبرياء.

والمسؤول بكل وضوح هو الرئيس الأميركي أوباما، فـ سي آي إيه التي تقود هذه العمليات ترجع إليه بشكل مباشر. لقد أوضح مقرر "الأمم المتحدة" الخاص في مؤتمر عقد في جنيف العام الماضي، أن الطائرات بلا طيار تهدد أسس القانون الدولي، وألمح إلى أن بعضها يرقى إلى "جرائم حرب". لقد شجبت أميركا قبل عقد عمليات التصفية والقتل السري التي تنفذها إسرائيل ضد الناشطين الفلسطينيين، أميركا اليوم تمارس نفس "الدور" في عهد أوباما "المسالم"!

ثانياً، لابد من حرب إعلامية مضادة تقودها وسائل الإعلام في العالم العربي والإسلامي، تكشف خطر هذه الجرائم على مجتمعاتها. في أميركا ثارت ثائرة الناس حين استخدمت الحكومة الدرونز في أمور (شبه عادية) كمراقبة الحدود ومراقبة الأراضي الزراعية وغيرها، بل الجامعات هناك تدرب الصحفيين والطلبة على اصطياد انتهاكات الدرونز وكتابة التقارير عنها.

وصحيفة غارديان البريطانية لعبت دورا مهماً عبر تقاريرها في كشف أخطار الدرونز. فكيف لوسائل إعلامنا أن تكون هادئة وقتل "الغاب" يجول بين أراضيها، ويفترس في مجتمعاتها. إن الخلاف بيننا وبين الغرب هو في "سرد الحكاية". هم يقولون إن الدرونز تقتل الإرهابيين وتجعلنا أكثر أماناً، ونحن هنا نقول إنها تحصد الأرواح، وتربك المجتمعات، وتعقب وراءها ألماً لا ينتهي.

كما حجّمت الاتفاقيات الدولية من وجود السلاح النووي، فإن المطلوب الآن اتفاقيات وتعهدات صريحة مع أميركا تحجم انتشار الدرونز

ثالثاً، حدث تصعيد في الموضوع مؤخرا، حين تحدثت صحيفة "نيويورك تايمز" وغيرها عن قواعد أميركية للدرونز موجودة في بلداننا. لا يعقل أن يحدث هذا!. فإن كان في سياسيي المنطقة "بقية خير" لبلدانهم وبلدان المنطقة لا بد أن يتم التوضيح الرسمي حيال هذا الأمر، وأن يتم توقيع اتفاقيات وتعهدات صريحة مع أميركا. بل يفترض بها أن تكون معاهدات على مستوى العالم. فكما حجّمت الاتفاقيات الدولية من وجود السلاح النووي، هي تحتاج أن تفعل ذلك مع انتشار الدرونز. اليوم إسرائيل هي رائدة هذه الصناعة، ويتحدث العالم اليوم عن طائرات بحجم الفراشات، قد تأتي لاغتيالك وأنت في غرفة نومك بتوجيه من شخص في دولة أخرى!

نحن هنا لا نطلب الكثير. نحن هنا متواضعون لأبعد درجة. نحن نطلب شيئا تستطيع السياسة حله ببساطة، لو تخلت عن غرورها، وتركت متعة "التجريب"، واحتفظت برأسماليها في شركاتها فقط. نحن هنا نردد ما قاله ألبير كامو ذات يوم: "نحن لا نبحث عن عالم يخلو من القتل.. بل عن عالم لا يكون القتل فيه مبرراً".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.