المعضلة اللغوية في النزاعات السودانية!

المعضلة اللغوية في النزاعات السودانية! الكاتب: كمال الجزولي

undefined

بين كل مشكلات بناء دولة الجنوب الوليدة بعد انفصالها عقب حرب ضروس لم تتوقف منذ 1955م سوى لسنوات معدودات، ما تنفك المشكلة اللغوية تطل برأسها في كل مناسبة، حتى لو كانت ورشة تدريبية حول حقوق النساء كالتي أقيمت مؤخراً بجوبا، حيث انطرح مطلب كتابة الدستور باللغات المحلية، وفق النائبة البرلمانية فويبي فونا، لتيسير فهم النصوص (المصير الإليكترونية 18 يناير/كانون الثاني 2013م).

ومن بين كل هموم الحركة الشعبية/شمال في مناطق سيطرتها بجبال النوبا بجنوب كردفان -حيث ستكمل الحرب الأهلية الجديدة عامها الثاني بعد ثلاثة أشهر- ما تنفك نفس المشكلة تطل برأسها في أية مناسبة، حتى لو كانت الامتحانات النهائية لتلاميذ يدرسون بالإنجليزية، وفق المنهج الكيني تحت إشراف إدارة التعليم بالحركة، في ظروف الحرب وتشرُّد عشرات الآلاف بين معسكرات اللجوء والنزوح (مركز جنوب كردفان الإعلامي 22 فبراير/شباط 2013م).

(1)

تركيزنا على هذين النموذجين ليس -فقط- بجامع الأيديولوجية والقيادة لدى "الحركة الشعبية" في كليهما، رغم أن ذلك قد يكفي في حدِّ ذاته، بل وبجامع التناقض فيهما بين فدائية الإثنيات غير المستعربة/غير المسلمة، في قتالها ضد ما تعتبره استضعافاً لها -من جهة- وبين افتقارها -من جهة أخرى- إلى عنصر الوعي بمكونها الثقافي! وتأكيداً لذلك ما من أحد -بالغاً ما بلغت عداوته للحركة الشعبية في الجنوب سابقاً وفي جنوب كردفان وغيرها حالياً- يستطيع أن ينكر روح الفداء التي ظلت تتحلى بها في حربها مع المركز.

لم تعمل الحركة الشعبية عند بلوغها الاستقلال في الجنوب على تطوير إحدى اللغات المحلية كلغة رسمية للدولة الوليدة، ولجأت لاعتماد الإنجليزية، مواصلة لمكابرة سياسية قديمة

مع ذلك، بدلاً من أن تعمل عند بلوغها الاستقلال في الجنوب على تطوير إحدى اللغات المحلية كلغة رسمية للدولة الوليدة لجأت لاعتماد الإنجليزية، مواصلة لمكابرة سياسية قديمة تتمثل في دفع أقسام من الإنتلجينسيا الجنوبية نحو إقصاء العربية التي هي لغة أفريقية، والإصرار على تضمين الإنجليزية في الدستور كلغة رسمية للجنوب، رغم أنها ليست لغة أفريقية، دَعْ انحصار استخدامها بين أقليات النخب. كذلك اقترحت السواحيلية في بعض سياقات هذا التخبط (Nile Mirror, Feb. 1974).

ولم يشذ عن تلك المكابرة سوى البرنامج الذي اختطه جوزيف قرنق إبان توليه وزارة شؤون الجنوب قبيل إعدامه (1969م ـ 1971م)، حيث شرعت إدارته -بتأثير برنامج الحزب الشيوعي الذي كان ضمن قيادته- في دراسة تبني إحدى لغات الجنوب لتكون لغة الإقليم. ولعل اللافت هنا أن جوزيف جعل من تلك المهمة أولوية تسبق حتى التنقيب عن النفط، حيث اعتبر استخراجه في ظروف استمرار الحرب الأهلية سبباً إضافياً للتباعد بين الشمال والجنوب!

(2)

وفي تقرير نُشر مؤخراً (موقع "نيلان" على الشبكة 14 فبراير/شباط 2013م)، طرح أبراهام داليانق ماكر ثلاث مفارقات حول تجليات هذه المعضلة اللغوية: الأولى أن الإنجليزية ما تزال بعيدة عن أن تكون اللغة الرسمية، لأسباب عملية ليس أقلها أن أغلبية الرسميين تلقوا دراساتهم بالعربية في الخرطوم. أما الثانية فهي أن نفس الدستور الانتقالي لسنة 2011م الذي فرض الإنجليزية "لغة رسمية عاملة" أوجب أيضاً احترام وتطوير وتعزيز اللغات القومية "الأصلية/المحلية" التي تتكلمها نحو 64 قبيلة. وأما الثالثة فهي أن العربية ما زالت تمثل أداة التواصل اليومية lingua franca بين مختلف المجموعات، رغم أن الشكل السائد منها -والذي يُعرف بـ "عربي جوبا"- يمزج بين العربية وبين ألفاظ وتصاريف غير عربية، لكن قدرة الجنوبيين على استخدامه تتفاوت من منطقة لأخرى.

فعلى حين يستطيع الجميع -مثلاً- فهمها والتحدث بها في الولاية الاستوائية الكبرى، لا تستطيع ذلك سوى القلة في ولاية البحيرات، مما يجعل الاستعانة باللغات المحلية عن طريق الإعلام المسموع عبر محطات الـ FM المتعددة ضرورة ملجئة.

هكذا يمثل الافتقار إلى لغة جامعة موحِّدة -فضلاً عن تفشي الأمية بمعدل عال- واحداً من أكبر التحديات للإعلام المقروء بالذات، خصوصاً مع سكان الريف. 

كذلك تتخذ المعضلة اللغوية في دولة الجنوب أحد أبرز وجوه تجلياتها في مستوى التعليم الجامعي. فمَن تلقوا تعليمهم العام بالعربية في دولة الشمال ثم التحقوا بعد الانفصال بجامعات الجنوب يستصعبون التعلم بالإنجليزية. وفسَّر أحد هؤلاء سبب رسوبهم في الامتحانات بأنهم -ببساطة- لا يستطيعون فهم الأسئلة! ووفقاً لراديو "مرايا أف أم" فإن صراعات الطلاب أضحت تشمل حتى الاختلاف على لغة التدريس، حيث تم خلال عشرة أيام فقط تنظيم احتجاجين كبيرين في جامعتين مختلفتين على تلقي المحاضرات بالإنجليزية! وذلك بالقطع أثر من الإضعاف الممنهج الذي تعرضت وتتعرض له الإنجليزية -كلغة للعلم الحديث- ضمن تخبط سياسات الدولة السودانية منذ انقلاب 1989م، مما يلقي على عاتق دولة الجنوب بمهمة رفع تأهيل الطلاب -على الأقل في مستوى التعليم الجامعي- لاستخدام الإنجليزية كلغة للأكاديميا، باعتبار ذلك من ضرورات العصر.

على أنه لا ينهض -على الإطلاق- مبرراً لإهدار قضية تطوير اللغة المحلية، سواء في مستوى التواصل، أو الاستخدام الرسمي. وهنا تبرز أهمية العربية، فعلى حين تثور حالياً المشكلة الخاصة بلغة التعليم الجامعي، ﻻ تكاد تنتطح عنزان على كون العربية ما تزال تؤدي دورها في كلا الاتجاهين: لغة للتخاطب بين المختلفين الاثنيين في الشارع، وفي الجيش الشعبي بصفة خاصة، منذ عهد قيادة جون قرنق وحتى قيادة سلفا كير حالياً، ولغة كذلك للتفاعل الاجتماعي للطلاب أنفسهم، بل حتى لنشاطهم السياسي في الحرم الجامعي خارج قاعات المحاضرات.

وهكذا، في حين يبدو على هذه الخلفية المعقدة أن الطريق ما يزال طويلاً أمام دولة الجنوب لتطوير لغة واحدة جامعة إزاء ضرورات التنوُّع الإثني ومهام إدماج العائدين من الشمال، فإن المرء ليدهش من المنهج العدمي الذي تهدر به نخبة الحركة الشعبية الحاكمة في الجنوب اللغة العربية، مع كونها الوحيدة المؤهلة -رغم الكثير من التعقيدات، ورغم عهود الصراعات المريرة- كي تكون ليس فقط لغة للتواصل الاجتماعي اليومي، بل ولغة للمعاملات الرسمية، لينقلبوا يبحثون بشق الأنفس عن لغة "أخرى" تجمع وتوحد أشتات التكوينات القومية شديدة التنوع!

(3)

تكذِّب معطيات الواقع ترويجات الأيديولوجية، فالعربية في جبال النوبا -كما في غيرها من المناطق- أوسع انتشاراً، وأعمق تأثيراً، من الدعاية الانفصالية

الوضع في جبال النوبا بجنوب كردفان لا يختلف كثيراً. وفي مبحثنا بعنوان "جبال النوبا الإنجليزية" المنشور قبل ما يربو على العقد قبل أن يعاد نشره كفصل ضمن كتابنا بعنوان "الآخر" الصادر عن "دار مدارك" عام 2004م، كنا قد نبهنا إلى خطورة نفس المنهج العدمي الذي تعاملت به الحركة الشعبية مع قضية اللغة في مناطق سيطرتها بالجبال عقب اتفاقها مع الحكومة في مطالع الألفية على وقف إطلاق النار واقتسام النفوذ في جنوب كردفان.

لقد كان المأمول وقتها أن تفتح ترتيبات السلام هناك طريقاً سالكا لبسطه في السودان كله، بما يحافظ على وحدة شعوبه وسلامة أراضيه، أي أن يشكل سلام جبال النوبا نموذجا يحتذى في مناطق النزاعات السودانية الأخرى، خصوصاً دارفور. غير أن الأيديولوجية التي تبنتها الحركة لم تكن لتساعد على ذلك، حيث سعت -في ما يتصل باللغة مثلاً- للترويج بين النوبا وعلى أوسع نطاق لكون الإنجليزية هي لغة "التحرير"، بينما العربية هي لغة "الطغيان"، أو القاطرة التي نقلت إليهم الشريعة الإسلامية وسلطة الخرطوم! ولم تصعب على مراسل إحدى المحطات الأجنبية ملاحظة أن تلك المشاعر العدائية تجاه اللغة العربية تخفي بين طياتها الكثير من العداوات الثقافية والدينية والعرقية والسياسية (موقع "بي بي سي"21 يوليو/تموز 2004م).

ولندرة المواطنين الذين تلقوا تعليماً نظامياً يمكنهم من تدريس الإنجليزية بسبب الحرب التي دارت رحاها هناك لعشرات السنين، فقد اضطرت الحركة لاستيراد مدرسين من كينيا ويوغندا. وروى المراسل في بعض تقاريره أن التلاميذ والمدرسين بمدرسة كاودا أبلغوه بأنهم في منطقتهم تلك يتحدثون الإنجليزية فقط، كما أن مرافقه جوما إبراهيم المفتش بمدارس الجيش الشعبي أكد له قائلاً: "نحن هنا نتحدث بالإنجليزية فقط. غير مسموح للأطفال التحدث بالعربية في المدرسة".

ويستطرد المراسل في ملاحظته قائلاً إن تلك السياسة لم تكن غير تمظهر معكوس لنظام آخر، حيث كان التحدث باللغات المحلية ممنوعاً داخل المدارس على أيام هيمنة حكومات الخرطوم على الجنوب، وكان المدرسون الشماليون يشجعون التلاميذ على التحدث بالعربية. لكنه ما يلبث أن يستدرك قائلاً إن ما يتمخض عن جهود تعميم الإنجليزية مختلف فعليا على أرض الواقع. فأثناء مغادرته المدرسة سمع فتيات يرددن أغنية وهن يلعبن في الباحة، ولما سأل مرافقه جوما عن لغة تلك الأغنية أجابه بشيء من التردد: "نعم، كما ترى .. إنهن ينشدن بالعربية!" (المصدر).

هكذا تكذِّب معطيات الواقع ترويجات الأيديولوجية! فالعربية في جبال النوبا -كما في غيرها من المناطق- أوسع انتشاراً وأعمق تأثيراً من الدعاية الانفصالية، بالغة ما بلغت من النشاط. وربما تكفي -على هذا الصعيد- ملاحظة المراسلين الأجانب أن الأوامر يجري تناقلها بين صفوف جيش الحركة باللغة .. العربية! وأن عمال الإغاثة السودانيين الذين يديرون مشروعات للجمعية الخيرية التابعة للكنيسة النرويجية في كاودا يعقدون اجتماعاتهم المسائية اليومية بالإنجليزية، بينما يتبادلون أحاديثهم خارج الاجتماعات .. بالعربية! واعترف أحد ضباط جيش الحركة بأنه يتحدث العربية بطلاقة أكثر حتى من لغته الأصلية، وإن كان ذلك -كما قال- يشعره بالخزي (المصدر).

(4)

يجدر بالحركة الشعبية -من موقعها في ريادة حركة الهامش- أن تعيد النظر في سياستها اللغوية بوجه عام، وفي سياستها إزاء العربية على نحو خاص، فهي تتنكب الجادة بشأنها مرتين: مرة حين تتعاطى معها كجزء من مكونات البنية الفوقية superstructure، كالأعراف والتقاليد والمعتقدات والأمزجة، فتستهدفها بالكراهة والرفض، بينما هي ليست كذلك، ومرة أخرى حين تسعى -حتى وفق الافتراض جدلاً بأنها كذلك- إلى محوها وهدمها بالقرارات والتعليمات والأوامر!

العربية ظلت تتفاعل مع غيرها من اللغات الوطنية في بلادنا، برغم أدواء السياسات الرسمية، فما انفكت تتشقق شعبياً إلى لهجات عربيات كثر

العربية هي اللغة الأفريقية الوحيدة الأكثر تأهيلاً لأن تكون أداة تواصل بين مفردات أمة كأمتنا لم تعبر طور التكوين بعد، ولأن تضحى حامل ثقافة المشروع الديمقراطي للوحدة المتنوعة في بلادنا، إذا تم تخليصها مما شابها تاريخياً وعلق بها من عيوب الاستعلاء والتعصب البغيضين. ولعل من دلائل تمام هذا التأهل أن العربية ظلت تتفاعل مع غيرها من اللغات الوطنية في بلادنا، برغم أدواء السياسات الرسمية، فما انفكت تتشقق شعبياً إلى لهجات عربيات كثر، كعربي أم درمان، وعربي جوبا، وغيرهما شرقاً وغرباً. 

ولعل المفارقة تبدو جلية هنا حين نذكر كيف أن مانفستو الحركة الأول (1983م) حمَّل الاستعمار وحده وزر "التفريق" بين أبناء الوطن الواحد "ليسود"! وكان مقصده في ذلك ما سمى بـ (السياسة الجنوبية) التى استنتها الإدارة البريطانية مطلع القرن العشرين، وأقامت هيكلها الأساسي على ترسانة من القوانين والإجراءات الرامية لاستبعاد المؤثرات الشمالية، وإعاقة التقارب بين الشطرين، كقانون الجوازات والتراخيص لسنة 1922م، وقانون المناطق المقفولة لسنة 1929م، بغرض أن يصبح الجنوب -فضلاً عن جبال النوبا- أرضاً أجنبية بالنسبة للسوداني الشمالي، وإلى ذلك يضاف قانون محاكم زعماء القبائل لسنة 1931م ، وفرض الانجليزية لغة رسمية فى الجنوب، وتحديد عطلة نهاية الأسبوع فيه بيوم الأحد، وتحريم ارتداء الأزياء الشمالية على أهله، وابتعاث طلابه لإكمال تعليمهم بيوغندا.

ثم ما تلبث المفارقة أن تبدو أكثر جلاءً حين نذكر أيضا أن الأمر -برغم كل تلك الإجراءات- لم يحتج بعد قرابة نصف القرن من تطبيقات تلك السياسة إلى أكثر من إبداء حسن النية، والوعد بتلبية أشواق الجنوبيين للحكم الفيدرالي كي يصوِّت نوابهم في أول برلمان مع استقلال السودان .. الموحَّد!.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.