من لا بر له لا بحر له

من لا بر له لا بحر له . الكاتب:رشيد الحاج صالح

undefined

إذا كانت حملة التدمير والتجويع والقتل التي يشنها النظام السوري على شعبه، هي التي تدفع بالسوريين إلى هجرة أوطانهم للبحث عن مستقبل آمن لهم ولعائلاتهم يضع حدا لمعاناتهم وخوفهم، ويؤمن لهم بيوتا بدلا من بيوتهم التي دمرت، ويعوضهم عن أرزاقهم التي ضاعت، فإن المسؤولية السياسية والأخلاقية عن هذه المأساة المستمرة لا يتحملها النظام وحده.

والواقع أن العالم الغربي الليبرالي يكاد يكون شريكا ومتضامنا مع هذا النظام، في تحويل البحر الأبيض المتوسط إلى مقبرة جماعية للمهاجرين السوريين والفلسطينيين إلى أوروبا.

إن استعراض القصص المأساوية التي يرويها الناجون من زوارق الموت التي تقل المهاجرين السوريين إلى أوروبا أمر يندى له الجبين، ويفضح مدى اللامبالاة التي يعاني منها هؤلاء الذين فضلوا الموت غرقا على الموت بآلة قتل النظام التي لم تتوقف منذ زهاء عامين ونصف.

قصص لا تكاد تصدق، فالرعب الموجود فيها يكاد يفوق رعب أفلام هوليوود، أما الابتزاز والاحتيال فحدث ولا حرج، حيث يتاجر بعواطف الناس، وخوفهم، ورعبهم، وحاجتهم إلى الأمان.

الروايات التي يتحدث بها أب ماتت ابنته بين يديه، أو رجل ينظر إلى زوجته وهي تغرق أمام عينيه، أو أطفال فقدوا أسرهم ولا يعرفون ماذا يفعلون سوى التحديق بمحيطهم، فليست بحاجة إلى أدب يتخيلها، لأنها أصبحت روايات من دم ولحم

أما الروايات التي يتحدث بها أب ماتت ابنته بين يديه، أو رجل ينظر إلى زوجته وهي تغرق أمام عينيه، أو أطفال فقدوا أسرهم ولا يعرفون ماذا يفعلون سوى التحديق بمحيطهم، وكأنهم أتوا إلى هذا العالم للتو، فليست بحاجة إلى أدب لكي يتخيلها، لأنها أصبحت روايات من دم ولحم، تعبر عن واقع حقيقي يعيشه السوريون والفلسطينيون، ونحن في القرن الواحد والعشرين.

وإذا ما بحث المرء عن المفتاح الذي يفسر لجوء السوريين إلى الهجرة، على الرغم من الخطر الذي ينجم عن تلك الرحلات البحرية الخاطفة، لا يجد سوى اليأس. فالسوريون فقدوا الأمل -بكل بساطة- من وجود أي ضوء في نهاية النفق، وفقدان الأمل بالخلاص هو أخطر ما يصيب الناس في ظل حرب يبدو أنها ستطول حتى تأكل كل شيء.

ففي سوريا اليوم يفتقد المرء لكل شيء، بدءا من أبسط مقومات الحياة، والحصول على حياة آمنة، وانتهاء بالموت والجوع والخطف والرعب والقصف الذي يحيط به من كل حدب وصوب.

ولم يبق سوى التفكير بمستقبل الأولاد والعائلة، والمستقبل في بلد مثل سوريا اليوم يكاد يكون معدوما، ولذلك لم يعد أمامهم إلا التفكير في الهجرة، عسى أن توصلهم إلى مكان يمكن أن يبدؤوا فيه حياتهم من جديد.

فأحلام السوريين المهاجرين، عندما تستمع لها تجدها بسيطة: ولد يريد أن يذهب إلى المدرسة، وأب يريد عملا بسيطا يضمن له ولعائلته قوته اليومي، وأم تريد أن يتوقف ابنها ذو الخمسة عشر ربيعا عن التبول اللاإرادي بسبب أصوات القصف، وطفلة تريد أن تلعب مع بنات جيرانها.

أما الغرب فقد اختصر مأساة المهاجرين السوريين والفلسطينيين في عرض البحر المتوسط، باجتماع لوزراء داخلية الاتحاد الأوروبي لم ينته إلى أي شيء سوى ترك الأزمة تسير في طريقها أولا، وإرسال "قوات هيئة حماية الحدود الأوروبية"، إلى مسافة أكثر عمقا داخل البحر المتوسط.

واكتفت الوزيرة الفرنسية لشؤون الفرنسيين في الخارج بالتأكيد على أن المهاجرين يُتاجر بهم من قبل "شبكات المافيا"، التي تستغل أوضاع الفقراء، وتدفعهم إلى ركوب البحر بزوارق غير آمنة، مقابل ألف دولار، وأن ليس في وسع الأوروبيين سوى التخفيف من معاناة المهاجرين عبر تنسيق الجهود الأوروبية، وإرسال السفن للمساعدة.

وإذا ما استمرت الأمور على حالها فإن الأزمة ستتفاقم، وعدد الضحايا سيزداد، وسيتحول البحر المتوسط إلى مصدر جديد للموت يضاف إلى عشرات المصادر التي تعمل بنشاط داخل سوريا.
ويبدو أن المهاجرين السوريين ليست أمامهم خيارات كثيرة، وسيسيرون في هذا الاتجاه أيا كانت المخاطر.

فاليوم أصبحت كلفة المهاجر الواحد من مدينة أبو قير المصرية أربعة آلاف دولار، وفي لبنان ضعف التكلفة، أما بعض المدن التركية على المتوسط فتبدو كأنها قرى سورية من كثرة المهاجرين الطامحين لخوض المخاطر في عباب البحر.

المخاطر التي يتعرض لها اللاجئون على ثلاثة أنواع: أولها احتمال التعرض للنصب والاحتيال من قبل السماسرة الذين يرتبون رحلات زوارق الموت، وثانيها الخلاف بين زعماء مافيا التهريب، الذين يتصارعون على المهاجرين، أما آخر تلك المخاطر فهو الموت غرقا

 

أما المخاطر فهي على ثلاثة أنواع: أولها احتمال التعرض للنصب والاحتيال من قبل السماسرة، الذين يرتبون رحلات زوارق الموت، وثانيها الخلاف بين زعماء مافيا التهريب، الذين يتصارعون على المهاجرين، وأما آخر تلك المخاطر فهو الموت غرقا.

وإذا ما تجاوز المهاجر كل هذه المخاطر ووصل إلى شواطئ أوروبا، فعندها تبدأ رحلة معاناة جديدة من نوع مختلف.

ولوضع مأساة المهاجرين السوريين في سياقها الذي يجب ألا ينسينا الوضع القاهر الذي أوصلهم إلى ما هم عليه لا بد من أن نؤكد على عدة أمور:

أولها: أن الأوضاع الحالية، والمآسي الدامية التي يعيشها السوريون، سواء في عرض البحر المتوسط، أو الحصار جوعا في ريف دمشق، أو قتل لطلاب المدارس في الرقة، أو الموت والخطف المنتشر في كل مكان، إنما هو في النهاية نتيجة أكيدة لترك العالم للسوريين يواجهون بمفردهم واحدا من أعتى النظم الطاغية في التاريخ الحديث، دون أن تتلقى الثورة السورية أي مساعدات تليق بواحدة من أهم ثورات الحرية والكرامة في القرن الواحد والعشرين.

بل إن المساعدات التي قدمت إلى النظام أكثر أهمية، وأكثر تأثيرا في مجريات الأحداث من المساعدات التي قدمت للثورة.

ويبدو أن العالم الغربي والأوروبي انقسم إلى قسمين: الأول يقدم المساعدات المباشرة، ولا سيما روسيا، وقسم يقدم مساعدات غير مباشرة عبر صفقات مشبوهة هدفها حماية الغرب وإسرائيل من أي أخطار يمكن أن يشكلها بقاء النظام السوري أو سقوطه عليهم.

فالاتفاق الأخير مع النظام السوري لا يعني أكثر من التخلص من الأسلحة الكيميائية المقلقة للغرب، مقابل إطلاق يد النظام ليفعل ما يشاء بالسوريين.

ثانيها: تفكير السوريين بالهجرة هو أمر جديد وقديم في آن واحد، ذلك أن ترك البلاد والهجرة إلى بلد آخر لبداية حياة جديدة أفضل، أمر كان يفكر به الكثير من السوريين قبل الثورة، وليس بسببها فقط.

والواقع أن أربعين عاما من الفساد السياسي، والقمع الأمني، والإفقار الممنهج، بالإضافة إلى فقدان العدالة الاجتماعية وانتشار الانتهازية الأخلاقية والبطالة والفقر، دفع بالكثير من الشباب السوري إلى الحلم بالسفر إلى أي مكان يمكن أن يهاجر إليه المرء.

 

يمكن القول إن الأفق المسدود في مرحلة ما قبل الثورة هو ما دفع الغالبية إلى الهجرة وكأنها حل كان يفكر به الناس من قبل، فأتى القمع والموت فسَّرع بالأمر، على الرغم من حجم المخاطرة الكبير الناجم عن السفر بزوارق وسفن غير آمنة

وليس غريبا أن تشير الإحصاءات قبل الثورة إلى أن نصف عدد سكان سوريا يعيش خارجها إما بدافع الهجرة النهائية، أو الهجرة الجزئية من أجل العمل أو الدراسة.

وهكذا يمكن القول بأن الأفق المسدود في مرحلة ما قبل الثورة هو ما دفع الغالبية إلى الهجرة، وكأنها حل كان يفكر فيه الناس من قبل، فأتى القمع والموت فسَّرع بالأمر، على الرغم من حجم المخاطرة الكبير الناجم عن السفر بزوارق وسفن غير آمنة.

ثالثها: أن الأوضاع المأساوية للاجئين السوريين والفلسطينيين في دول الجوار دفعت بالكثير إلى التفكير بالهجرة إلى أوروبا، ودول أخرى بعيدة يمكن أن تقدم فرصا لعيش أفضل.

وتشير التقارير إلى أن اللاجئين في لبنان يعانون من مشكلات لا تكاد تصدق في المدارس والصحة والتغذية، وقد وصل الأمر إلى أن عددا من أطفال مخيم الزعتري في الأردن فقدوا حياتهم بسبب برد الشتاء وسوء التغذية.

وأما أكثر ما بدأ يواجه اللاجئين السوريين في منفاهم القسري، فهو الاعتقال من قبل النظام المصري الجديد، وما أخذ يتوارد من سوء معاملة للسوريين هناك.

إن قبول المزيد من اللاجئين بشكل قانوني في أوروبا، ومراجعة سياسة الهجرة واللجوء، ومساعدة دول الجوار على تحسين ظروف اللاجئين، أمور قد تحل بعض مشاكل اللاجئين، وتخفف من بعض معاناتهم، غير أن الحل الذي تفرضه الأخلاق وقيم الديمقراطية هو مساعدة السوريين بشكل حقيقي في ثورتهم ضد الظلم والطغيان، ولا سيما أن السوريين قد أثبتوا -خلال أكثر من عامين- أنهم أهل لهذه الثورة، وأنها لن تكون إلا ثورة حرية وكرامة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.