الصراع على الفلول في تونس

الصراع على الفلول في تونس . الكاتب :رياض الشعيبي

undefined

وقع المشهد السياسي التونسي خلال هذه الصائفة تحت تأثير ثلاثة متغيرات مهمة: انقلاب الجيش في مصر على التجربة الديمقراطية الناشئة، واتساع الخرق الأمني في الجبهة الداخلية متمثلا خاصة في اغتيال محمد البراهمي وقتل العسكريين بجبل الشعانبي، ثم المتغير الثالث متمثلا في التدخل الإقليمي والدولي في رسم خارطة المشهد السياسي المستقبلي.

وبتأثير من هذه المتغيرات تحول الصراع الحزبي الأيديولوجي من تنافس على تحديد معالم المستقبل وهويته إلى صراع على الماضي وقواه الراكدة في الواقع.

رافق هذا التحول تغير في المفردات السياسية المتداولة بين الفرقاء في قفز واضح على مطالب المحاسبة والتحصين السياسي والعدالة الانتقالية والقطع مع ذهنيات الاستبداد في العهد السابق.

وبتنا نرى الأطراف السياسية الرئيسية في الحكم وفي المعارضة تتسابق لمد يدها مكرهة لبقايا النظام السابق تستقوي بما يمتلك من إمكانيات سياسية ومادية لحسم الصراع لصالحها ضدّ الطرف الآخر.

وعلى الرغم مما قد يبدو من تبدد أرصدة بقايا النظام السابق وتشتت صفوفه إلاّ أن عوامل متراكمة هي التي منحت هذه القوى فرصة التموقع السياسي المفصلي في معركة حزبية يعي الجميع أنها ذات أبعاد إستراتيجية تتجاوز ارتدادات المرحلة الانتقالية:

مع تحولات الصراع بتونس، بتنا نرى الأطراف السياسية الرئيسية في الحكم وفي المعارضة تتسابق لمد يدها مكرهة لبقايا النظام السابق تستقوي بما يمتلك من إمكانيات سياسية ومادية لحسم الصراع لصالحها ضدّ الطرف الآخر

– العامل الأول: يتمثل في هشاشة البنية الهيكلية للمشهد الحزبي وضعف الإرادة السياسية ووقوع مختلف الأحزاب فريسة الصراعات المزدوجة: داخليا صراع الأجنحة وخارجيا صراع الأحزاب فيما بينها.

-العامل الثاني: تعامل هذه الأحزاب بانتهازية مع حادثة سقوط رموز النظام السابق، وعوض أن تأخذ هذه الأحزاب على عاتقها مطالب الثورة وأن تؤجل تناقضاتها البينية، فإنها قرأت المرحلة الانتقالية على أنها فرصة ويجب استغلالها لفرض قناعاتها على الآخرين.

-العامل الثالث: فرض النظام السابق على المعارضة موقع الهامش والأطراف في علاقتها بالمجتمع وبالدولة.

ولم تستطع هذه القوى بعد الثورة أن تغادر هذا الموقع وهذا الدور، فاتسعت منطقة الفراغ في الوعي الجمعي للتونسيين، الأمر الذي دفعهم لاتخاذ موقف سلبي من مجمل المشهد الحزبي الراهن.

-العامل الرابع: امتدادات الدولة العميقة حيث يتماهى الحزب الحاكم السابق مع بنية مؤسسات الدولة ومع مكامن القوة المالية والإعلامية والخارجية.

فترابط المصالح وشيوع عقلية النظام السابق بين بيروقراطية إدارية واسعة وفي مواقع حيوية في الدولة كل ذلك حافظ على أرصدة راكدة للقوى المضادة للثورة تستطيع الاستفادة منها متى شاءت.

وأمام عجز الحكومة عن تفكيك هذه الشبكات وتغيير نمط التسيير الإداري لمؤسسات الدولة وعدم تصفية ملفات النظام السابق فقد استطاعت هذه الأطراف التجمع من جديد والتعبير عن نفسها سياسيا من خلال عدد من الأحزاب.

وبالنظر إلى هذه العوامل فإن فلول النظام السابق كانت المستفيد الأبرز من التجاذب السياسي الحاد الذي شهدته تونس في المدة الأخيرة استفادة من المتغيرات الهامة التي عصفت بالمسار الانتقالي.

فما حدث في مصر من تحالف واضح بين بعض القوى العلمانية واليسارية من جهة وبقايا نظام مبارك من جهة ثانية، ونجاح هذا التحالف في الإطاحة بالحكومة المنتخبة تحت مسمى الثورة المصرية الثانية، شجع هذا الحدث يساريي تونس وفلولها على الالتقاء علهم ينسجون على نفس المنوال.

ولقد حاولوا الاستفادة من الزخم المعنوي خاصة الذي وفره لهم انقلاب مصر فرفعوا سقف مطالبهم وبدوا إعلاميا على الأقل وليس بالضرورة سياسيا، أقرب لمطالب المعارضة الشيوعية الراديكالية المنادية بحل المجلس التأسيسي وإلغاء كل المؤسسات المنبثقة عنه والاستعاضة عنها بمجالس منصبة تستمد شرعيتها مما تعتبره حراكا ثوريا ثانيا.

وفي الحقيقة فإن هذه المطالب لم تنتظر انقلاب مصر لتعبر عنها القوى الرافعة لها، فمنذ بداية شهر يونيو/حزيران 2013 تشكلت جبهة معارضة سمت نفسها جبهة الإنقاذ وضمت في صفوفها كل الأحزاب اليسارية وبعض القوى البعثية والناصرية في محاولة لتجميع قواها لمواجهة ترويكا الحكم وخاصة حركة النهضة.

أمام عجز الحكومة عن تفكيك هذه الشبكات وتغيير نمط التسيير الإداري لمؤسسات الدولة وعدم تصفية ملفات النظام السابق فقد استطاعت هذه الأطراف التجمع من جديد والتعبير عن نفسها سياسيا من خلال عدد من الأحزاب

لكن انضمام مجموعة أحزاب الاتحاد من أجل تونس وخاصة حزب نداء تونس (المحسوب على الفلول) عزز الدّعم اللوجستي والإعلامي الضروريين لتحركات المعارضة.

وكان الدعم الأهم في وضع شبكة العلاقات الخارجية التي استحوذ عليها رموز النظام السابق في خدمة أي تحرك معارض.

وبعد أن كانت هذه الأحزاب تعاني من عزلة دبلوماسية مكنها فلول النظام السابق من تحقيق اختراقات مهمة في العلاقة مع بعض دول الاتحاد الأوروبي ومع الأميركيين ومع بعض الدول الإقليمية.

ولعل حركة السفراء الأجانب في تونس النشطة في لقاءاتها مع المعارضة، وزيارات المساندة الكثيفة لها من شخصيات غربية تعبر بوضوح عن الدور الذي قام به حزب نداء تونس في هذا المضمار.

طبعا زادت العمليات الأمنية التي حصلت في تأجيج الصراع وتضييق الخناق على الحكومة والقوى المشاركة فيها.

وهنا تدخلت قوى تأثير جديدة في المشهد متمثلة في الأطراف الخارجية كما قوي تأثير أطراف داخلية لم تفارق المشهد السياسي منذ انتخابات 23 أكتوبر/تشرين الأول 2011 متمثلة في اتحاد الشغل.

في مقابل استمرار وقوف المؤسسة العسكرية على الحياد من العملية السياسية وتعزيز هذا الموقف بتغيير قيادة الجيش من طرف رئيس الجمهورية.

ورغم إصرار المعارضة ودعوتها الصريحة لتدخل الجيش لحسم الصراع لصالحها إلا أن المؤسسة العسكرية نأت بنفسها عن لعب هذا الدور وركزت عملها على توفير الأمن على الحدود ومحاربة الإرهاب والتحرك بالحد الأدنى في إطار قانون الطوارئ.

ولقد كان العديد من المحللين واعين بعدم امتلاك الجيش القدرة اللوجستية على تغيير الخارطة السياسية في البلاد، فضلا عن عدم رغبته في التدخل لصالح هذا الطرف أو ذاك.

لذلك انصبت كل التحاليل على ضرورة تفعيل المسألة الاقتصادية وآثار أية أزمة محتملة على الاستقرار الاجتماعي مما يعطي اتحاد الشغل الفرصة المواتية لقيادة الشارع والمعارضة وتتويج عملية التغيير المطلوبة.

طبعا اتحاد الشغل واقع تحت هيمنة أطراف سياسية تقف أغلبها في المعارضة، ولذلك فإن مواقفه تتشكل بحسب مواقف هياكلها ومسؤوليه المتسيسين بما في ذلك المسؤولين النقابيين المحسوبين على النظام السابق.

يخطئ من يعتقد أن النظام السابق كان يهيمن على المجتمع من خلال طبقة سياسية فوقية غير متوغلة في مفاصل المجتمع، فطبيعة الأنظمة "الكليانية" كالتي كانت تحكم تونس قبل الثورة تنخر نسيج المجتمع وتنتشر داخلها مثل السوس.

لذلك لا تكاد تمر بمفترق جغرافي أو سياسي أو اقتصادي ولا حتى ثقافي دون أن تتوقف عند امتداد لمنظومتي الاستبداد والفساد، إلا أن القاعدة المناضلة لاتحاد الشغل تعالت أصواتها رافضة مواقف الاتحاد وخاصة تورطه إلى جانب طرف سياسي مما أفقده حياديته ومصداقيته خاصة أمام منظوريه.

لذلك فإن الاتحاد العام التونسي للشغل يبدو اليوم غير قادر على الاستمرار في لعب نفس الدور، وقد بدأ الغضب يتبلور في عمليات انسلاخ واسعة في قواعده وانقسام واضح حول تقييم أدائه في هياكله المركزية وخاصة هيئته الإدارية، أحد أعلى المؤسسات المحددة لسياساته.

يبقى التدخل الخارجي وهو العامل الجديد المؤثر في المشهد السياسي التونسي منذ تعليق أعمال المجلس التأسيسي.

فالاتصالات الدبلوماسية غادرت أهدافها الاستكشافية والتحسسية لتطرح بدورها أفكارها وتضغط على الفاعلين السياسيين لتمريرها، تزامن ذلك مع أزمة مالية تعاني منها الحكومة متمثلة في عجز بلغ تقريبا ثلث الميزانية إلى حد الآن لم تستطع الحكومة تغطيته بالكامل مما أخل بالتوازنات المالية في الميزانية.

كما ارتبط أيضا بإفلاس شبه كلي للمعارضة متمثلا في عدم قدرتها على تعبئة الشارع وتوجيهه ضد الأطراف السياسية الحاكمة أثناء ما يطلقون عليه باعتصام الرحيل.

في نهاية المطاف لن تستفيد القوى الديمقراطية من إقصاء الإسلاميين ولا من تدجينهم، لأن استمرارهم في السلطة أو في المعارضة يمثل العلامة الوحيدة على نجاح الانتقال الديمقراطي

الخشية من أن تتحول تونس إلى مجال صراع إقليمي، أو أن تصبح بؤرة إرهاب، أو أن تنفلت من الوصاية الأوروبية وخاصة الفرنسية على امتداد أكثر من ست عقود، أو حتى أن تتهاوى الدولة وتترهل مؤسساتها بما يجعلها ليس فقط غير قادرة على تأمين الحدود الجنوبية لأوروبا ضد الإرهاب والهجرة السرية ولكن أيضا أن تكون رمزا لنجاح تجربة تحررية جديدة، كل ذلك قد يدفع الأوروبيين لتشجيع أي تقارب بين جلادي الأمس من بقايا النظام السابق وضحاياهم من الإسلاميين لإدارة هذه المرحلة والمرحلة القادمة حتى تستقر الأوضاع بشكل نهائي في البلاد.

لقد ظهر في عديد الدراسات الإستراتيجية والتحاليل السياسية ومن خلال التجربة المصرية أن السياسات الدولية تجاه تجارب حكم الإسلاميين في مراحل الانتقال الديمقراطي محكومة بأحد خيارين: الاحتواء أو الإقصاء.

أمام العجز عن احتواء التجربة المصرية لم يبق بد من إقصاء الإسلاميين وإبعادهم عن إدارة الشأن العام، وربما يكون التقاء الإسلاميين مع بقايا النظام السابق في تونس فرصتهم الأخيرة للقبول بالاحتواء لأن المثال المصري شاهد حي على الخيار الثاني.

في نهاية المطاف لن تستفيد القوى الديمقراطية من إقصاء الإسلاميين ولا من تدجينهم، لأن استمرارهم في السلطة أو في المعارضة يمثل العلامة الوحيدة على نجاح الانتقال الديمقراطي.

أما عودة المنظومة السابقة ولو على سبيل المشاركة في الحكم فإنها ستمثل التهديد الأخطر لنجاح الديمقراطية والحكم الرشيد.

عاد الجميع للبحث عن الاستقواء ببقايا النظام السابق وتحول الصراع السياسي إلى صراع على منظومة الحكم التي ثار عليها الشعب التونسي، وأصبح الطرف الذي ينجح في إغواء رموز النظام السابق هو الذي يمتلك مفاتيح الحل السياسي في البلاد.

حركة النهضة من جهة تراهن على إكمال المسار التأسيسي بصياغة دستور جديد والذهاب للانتخابات في أقرب وقت لتثبيت التجربة الديمقراطية حتى وإن أدى بها ذلك للجلوس في مقعد المعارضة والتفريط في الحكم قبل الانتخابات تحت ضغط التوافقات وبعدها، استجابة لنتائج تنازلاتها غير المتناهية لخصومها.

والمعارضة من جهتها تعتبر أن المسار التأسيسي قد فشل ولا بد من استبداله بمسار بديل يستمد شرعيته من طوباوية ثورية تحل لنفسها بناء ديمقراطية على المقاس تستثني خصومها الأيديولوجيين والسياسيين.

ويبقى نقاش موعد استقالة الحكومة وتشكيل الحكومة الجديدة الجملة التي تختزل كل هذه التناقضات والخلفيات الخطيرة من هذا الطرف أو ذاك.

وللأسف يعتقد الجميع أن من سيفوز بودّ بقايا النظام السابق هو الذي سينتصر في النهاية.
في الحقيقة هذا يجعلنا أمام واحد من السيناريوهات التالية:

1- السيناريو الأفضل أن تحصل تسوية داخل العائلة الديمقراطية بإسلامييها وعلمانييها ويسارييها تنبني على مراجعات عميقة وإعادة قراءة للتحديات والأولويات.

وتفضي القراءة الجديدة إلى الاتفاق على عدم مصادرة المرحلة الانتقالية لفرصة أي طرف في التموقع في المستقبل، فيقع الجمع بين الشرعية الانتخابية الشعبية والشرعية الثورية متمثلة في أهداف الثورة ومطالبها والشرعية التوافقية بين الأطراف السياسية. واعتبار مرحلة ما بعد الانتخابات القادمة أي الديمقراطية الناشئة جزءا من المرحلة الانتقالية مما يقتضي خضوعها لنفس الاعتبارات السابقة.

وبالتالي فإن المطلوب صياغة دليل سياسي إستراتيجي لتثبيت التجربة الديمقراطية من أركانها الاتفاق على مبدأ تشكيل حكومة وحدة وطنية على ضوء الشرعيات السابقة.

وتعكف من الآن مختلف القوى السياسية على صياغة هذا الدليل الموجه للعملية السياسية في المستقبل، على أن تكون معالجة بقايا النظام السابق في إطار عملية مصالحة وطنية شاملة من مفرداتها الاعتراف بالمسؤولية السياسية والاعتذار للضحايا والمساهمة في التعويض لهم والقيام بمراجعات فكرية وسياسية والاستعداد للوقوف أمام القضاء في عملية المحاسبة على الأفعال ذات الطبيعة الإجرامية والتمتع بعفو إنساني يعيد بناء الوحدة الوطنية بين كل التونسيين.

 

السيناريو الأسوأ على الإطلاق أن تتفق مختلف الأحزاب ضمنا أو تصريحا، عن وعي أو عن غير وعي، بالدفع إلى ذلك أو بالانزلاق، تتفق جميعها على تسليم البلاد لبقايا النظام السابق ورموزه ولم لا -حتى- عودة بن علي

2- السيناريو السيّئ أن تستمر عملية التآكل الحزبي والسياسي حتى تستوفي الأرصدة الاعتبارية لمختلف الفاعلين السياسيين ويظهر عجزهم الكامل عن القيام بدورهم العقلاني الترشيدي والتوجيهي والمؤسساتي متمثلا في إدارة الشأن العام.

عندها وأمام وصول وضع البلاد إلى حالة الانسداد الكامل، فمن غير المستبعد أن نشهد ظاهرة بونابرتية خارقة توقف عملية الانحدار والتفكك.

ومثلما كان نابليون المستبد المستنير أكثر وفاء لمبادئ الثورة الفرنسية من نخبة الثوار وأحزابهم فإن استمرار الاهتراء الحالي في المشهد السياسي قد يوفر الظروف لمثل هذه الظاهرة وقد يكون أكثر قبولا لدى الشعب من صراع الأحزاب.

3- السيناريو الأسوأ على الإطلاق أن تتفق مختلف الأحزاب ضمنا أو تصريحا، عن وعي أو عن غير وعي، بالدفع إلى ذلك أو بالانزلاق، تتفق جميعها على تسليم البلاد لبقايا النظام السابق ورموزه ولم لا -حتى- عودة بن علي كما تشير بعض الصحف بين الفينة والأخرى.

ولأن مسار الأحداث الحالي لا ينذر إلا بهذا السيناريو فإنه يبدو الأخطر على الإطلاق.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.