الحرب في مالي.. السياق والتداعيات

الكاتب: محمد الحافظ الغابد - العنوان: الحرب في مالي: السياق والتداعيات

undefined

إستراتيجية فرنسا
إستراتيجية القاعدة
بصمة الحرب
الآفاق المستقبلية

تستعر الحرب في مالي وتستمر خارج سياق المنطق السياسي الجديد في المنطقة، وكأنها تراهن في ذهنية لاعبيها على تمزيق إيهاب الوهم الذي صنعته عقود من الأمل الخادع باستقلال دول الساحل، وخروجها من العباءة الفرنسية، ولكن يومين فقط من زحف حركة أنصار الدين باتجاه المفاتيح الإستراتيجية للجنوب المالي، الأشبه بالمستوطنة الفرنسية التي تحتضن في الوقت الراهن ثلاثين ألف فرنسي، كلها عوامل كانت كافية لافتضاح حقيقة الوصاية الفرنسية على الجنوب المالي، حيث رأس المال والاستثمار الفرنسي أهم من مصير شعب ومستقبل دولة، فالمنطق بالنسبة لفرنسا تجاري، وهو بالنسبة للقاعدة وأنصار الدين ديني يستظل بـ"المقدس" والأيديولوجيا الجهادية.

لم تكلف فرنسا نفسها عناء إنتاج خطاب مقنع بجدوى الحرب، واكتفت بالقول: نريد أن نمنع قيام إمارة دينية في الساحل انطلاقا من الطبق الصحراوي "أزواد"، ونسيت فرنسا ما ردده روجي جارودي أبرز المنظرين لاندماج الشمال والجنوب حينما انتقد "الديمقراطية الليبرالية التي لا تسمح لها هيمنة رأس المال بأي مشاركة ديمقراطية حقيقية.. فالديمقراطية أكثر وهما عندما لا يسمح لها بالدخول في المؤسسات والمنشآت الاقتصادية والثقافية". ويبقى تشخيص أجندات الطرفين الفاعلين في الصراع أمرا ضروريا لفهم سياق الحرب وتداعياتها، وتأثيراتها المختلفة على الطرفين وعلى شعوب المنطقة بشكل عام.

إستراتيجية فرنسا
تهدف الحرب الفرنسية على الشمال المالي إلى جملة من الأهداف الإستراتيجية الهامة التي تسعى إلى ضمان استمرار النفوذ الفرنسي في منطقة الساحل الحيوية لفرنسا التي تشكل منذ أكثر من قرن، أهم قوة دولية مهيمنة على هذه المنطقة تستنزف مقدراتها البشرية، ومواردها الاقتصادية لصالح الاستقرار والازدهار، والتطور الإيجابي بكل أشكاله داخل فرنسا ذاتها.

لم تكلف فرنسا نفسها عناء إنتاج خطاب مقنع بجدوى الحرب، واكتفت بالقول: نريد أن نمنع قيام إمارة دينية في الساحل انطلاقا من الطبق الصحراوي "أزواد" ونسيت ما ردده جارودي حينما انتقد الديمقراطية الليبرالية التي لا تسمح لها هيمنة رأس المال بأي مشاركة ديمقراطية حقيقية

وعلى وجه الخصوص تسعى فرنسا إلى تحقيق الأهداف التالية:

  • حماية مناطق نفوذها التقليدي في أفريقيا وتسييجها لضمان الانفراد بتقرير مصيرها على المستوى الدولي، وفي إطار حمايتها من مخاطر التنافس الفرنسي الأميركي تحديدا، حيث لا تريد فرنسا أن تكون الولايات المتحدة شريكا لها في شأن هذه المنطقة، خصوصا حينما يتعلق الأمر بتدويل مشاكل الساحل واستصدار قرارات ملزمة بشأنه، تأخذها المجموعة الدولية على عاتقها التزاما دوليا لما يشكله ذلك من تعددية الشركاء بالنسبة لفرنسا، التي تعودت دائما الانفراد بشأن الساحل كاملا منذ منتصف القرن التاسع عشر.
  • تسعى فرنسا من خلال تدخلها العسكري المباشر إلى وضع حد لنفوذ القاعدة في المنطقة وخصوصا في الشمال المالي، وتهدف على سبيل المثال إلى الحد من قدرات القاعدة في التوسع والانتشار جغرافيا وبشريا، وبناء قدرات عسكرية قتالية عالية، حيث تشير العديد من التقديرات إلى أن الجماعات الجهادية كانت تتطور بسرعة كبيرة، وحققت قطبا مهما لجذب الخبرات والتجارب على المستوى الجهادي العالمي، ومما لا شك فيه أن فرنسا انتبهت ولو في وقت متأخر إلى أن الشبل القاعدي الصحراوي، قد تحول خلال السنتين الأخيرتين إلى أسد قوى ذي أنياب ومخالب لا قبل للعديد من دول الإقليم بها.
  • تحاول فرنسا من خلال هذه الحرب أن تحد من قدرة التنظيمات الجهادية على الحشد والتعبئة، وتسعى خصوصا إلى الحد من حرية بناء العلاقات وممارسة الأنشطة المختلفة في مدن الإقليم، والتنقل بالأموال والسيارات بسهولة في المنطقة ودولها بشكل عام، ولا شك أن هذا الهدف سيتحقق فيما يتعلق على الأقل بالمستوى القيادي، بينما من الصعب على تنظيم مرن كالقاعدة تعود على ممارسة العديد من أنماط العمل وفي ظروف مختلفة، أن تحد أي ظروف استثنائية من نشاطه، فمجموع نشاطه وليد العمل الاستثنائي.
  • كما تهدف الحرب إلى الضغط على الأوعية التنظيمية والوسط البشري الحاضن من إحداث انشقاقات وتمزقات تفجر التحالفات القائمة، وتؤسس لنموذج شبيه بنموذج الصحوات الذي عرفته الجالية العراقية، وساهم بشكل بارز في تقويض الحضور والنشاط القوي للقاعدة في التجربة العراقية 2005/2007.

إن هذه العوامل مجتمعة -كلها أو بعضها- تشكل جوهر أهداف الحرب الفرنسية على الإقليم، والتي انطلقت تسابق الزمن بشكل مفاجئ، مما يؤكد أنها تسعى لاستباق ما يحصل من تطورات على الأرض حيث كانت حركة أنصار الدين تتجه هي الأخرى لمسابقة زحف السلحفاة الذي يمثله نشاط الجيش المالي وسنده الأفريقي، الساعي للحرب من أجل استعادة سيادة الدولة في الشمال.

 لقد استغل الفرنسيون بنجاح كبير تحرك أنصار الدين وحلفائهم لإحكام السيطرة على المدن وبلدات "موبتي وكونا وأديابلي"، من أجل جعلها قواعد متقدمة للصراع على مداخل الجنوب، بدل خوض الصراع في مدن أزواد الإستراتيجية "كاوة وتمبكتو"، وهي خطوة استغل الفرنسيون جانبها التوسعي المهدد للجنوب لكي يكون رافعة تسوغ التدخل الفرنسي لدى سكان الجنوب ونخبه المتصارعة على إدارة غنائم السلطة الإدارية والسياسية في العاصمة باماكو.

اتسمت إستراتيجية القاعدة بالنجاح في التأسيس لاستمرار السيطرة والتحكم، عبر بناء مليشيا قوية مدعومة بمسارات إستراتيجية وسياسية وأمنية، قادرة على الاستجابة للمتطلبات الإدارية السريعة، في ظل غياب أداء حكومي

إستراتيجية القاعدة
تؤكد تصريحات زعماء القاعدة وقادتها أنهم كانوا يعدون للحرب، ومع ذلك فقد حاولت آخر التسجيلات الواردة من القائد العام أبو مصعب الودود زعيم القاعدة بالمغرب الإسلامي أن تقدم خيار الحوار الهادئ الذي يتكئ على شروط سياسية شبه مستحيلة، بالنسبة للمنطق الغربي والفرنسي منه على وجه الخصوص، لكن فرنسا على ما يبدو كانت قد أخذت قرارها بالحرب والنزال، لذلك فقد فشل الحوار في واغادوغو مع أنصار الدين، رغم قبولها بقصر فكرة تطبيق الشريعة على مناطقها فقط دون باقي الأراضي المالية الجنوبية.

 كما لم تلق حكومة هولاند بالا لمناشدات الرهائن التي حركتها القاعدة وأفرجت عنها ورقة للضغط من أجل بدء حوار مع باريس حول رعاياها.

ويمكن أن نختصر معالم إستراتيجية القاعدة في الآتي:

  • حماية الوسط الحاضن للمقاتلين من خلال بناء حكم ذاتي مستقر، يتمتع باستقلال حقيقي تديره حركة أنصار الدين الأزوادية، وما تمثله في أبعادها الوطنية والتاريخية والاجتماعية، حيث قاد زعيمها إياد غالي نضالات الحركات الوطنية بالإقليم، وهو يتمتع بمصداقية كبيرة رغم ما عرفته الحالة السياسية خلال العقد الأخير من تمزق تنظيمي وسياسي.
  • سعت القاعدة والتنظيمات الجهادية المرتبطة بها لبناء نموذج للاستقرار ومحاربة الجريمة، وبسط الأمن في المدن التي سيطرت عليها، وإن استعجلت برأي البعض في تطبيق أحكام الشريعة دون ممهدات تنموية، تسمح بتآلف السكان وكسب المشاعر والقلوب، تمهيدا لبناء منهجية منسجمة لتأسيس النظام الإسلامي من الناحية الاجتماعية على أسس أكثر دينامية في تحقيق الانسجام الاجتماعي مع المشروع الجديد.

ويقول متتبعون إن ممارسات أنصار الدين كانت أكثر انسجاما وتدرجا وفهما للمداخل المناسبة من جماعة التوحيد والجهاد، التي كررت تجربة طالبان أواخر التسعينيات في هدم الأضرحة والمزارات.

  • اتسمت إستراتيجية القاعدة بالنجاح في التأسيس لاستمرار السيطرة والتحكم، عبر بناء مليشيا قوية مدعومة بمسارات إستراتيجية وسياسية وأمنية، قادرة على الاستجابة للمتطلبات الإدارية السريعة، في ظل غياب أداء حكومي يؤطر العديد من الجوانب الضرورية لاستمرار حياة سكان المدن، وهذا النجاح من طرف الحركات الجهادية ربما يكون قد عجل بقرار الحرب حتى يتم إجهاض التجربة ووأدها، حتى لا تشكل عبر الوقت نموذجا يفضله السكان على ما كان سائدا من قبل.
  • سعت القاعدة خلال العام 2012 إلى تطوير مجال نفوذها من مسارب الصحراء وأدغالها في الساحل، إلى مد جسورها نحو العديد من حالات اليقظة الدينية والصحوية في أفريقيا، وتطورت تصوراتها في الساحل من مجرد البقاء في النطاق الصحراوي، إلى التفكير في مد النشاط والنفوذ ليشمل عمليات نوعية في أعماق المحيط الأطلسي على السواحل الأفريقية في تكرار للتجربة الصومالية.
  • بدأت فرنسا تجني ثمار تفوقها التقني على المجموعات الإسلامية المسلحة في شمال مالي، من خلال عمليات تحرير المدن ودخولها خلال الأسبوع الثالث للحرب، ولكن المجموعات الإسلامية تقول إنها أخلت المدن تجنبا للخسائر الكبيرة جراء القصف، وتتوعد فرنسا بأيام صعبة

    عززت القاعدة في الساحل الأفريقي نشاطها الساعي لتقويض الهيمنة والوجود الغربي، من خلال عمليات الخطف والابتزاز للدول والحكومات الأوروبية، تصديا وسعيا لإرباك إستراتيجيتها في استغلال ونهب ثروات الفقراء الأفارقة المستعبدين، من قبل الرجل الأبيض منذ قرون حسب ما تؤكده أدبيات التنظيم وخطب قادته.

  • نجحت إستراتيجية القاعدة في استدراج الفرنسيين لبدء الحرب قبل أن تكون قرارا أمميا، يحرج العديدين ضعف التفاعل معه مما يسهل تحييد بعض الخصوم، وقد ظهر ذلك جليا في مواقف العديد من الدول الأفريقية، التي باتت تنآى بنفسها عن تبعات الحرب، رغم اتفاق دول غرب أفريقيا على وجاهتها، كما أن مواجهة الدولة الفرنسية عديمة المصداقية لدى الشعوب، أسهل من مجابهة الأمم المتحدة التي تتقدم للعالم بوصفها الوصية على الصالح العام، أما فرنسا فلا شعبية ولا مصداقية لحربها المنفردة في البلاد الأفريقية.

بصمة الحرب
من المؤكد أن الحرب الفرنسية سيكون عبئها الأكبر على شعوب المنطقة ودولها الهشة، التي لا تتحمل -اقتصاديا ولا أمنيا- فاتورة الحرب التي ستدور على أراضي هذه الدول، حيث ستجد نفسها مرغمة على تحمل ضربات عدو سادي يستلذ إلحاق الأذى بأنظمة استمرأت التبعية والإلحاق الاستعماري الغربي الذليل.

ومنذ اليوم الأول للحرب قدمت عملية "عين أميناس" نموذجا لما ستسير عليه الأمور في بقية البلدان وبمستوى أكثر رعبا وسادية، حينما يكتب القدر على العشرات الارتهان لذعر أزيز الطائرات في أزواد، أو الارتهان لنيران الاقتتال بين الخصمين في معركة لا ناقة فيها ولا جمل للمواطن البسيط.

عندما يسكت أزيز الطائرات وتخلد فوهات المدافع ولو إلى استراحة محارب، فإن أنات الضحايا من النساء والشيوخ والولدان ستصل عبر نشرات الأخبار، لتشكل إيقاعا جنائزيا ينغص كل لقمة أو رشفة شاي ساخن.            

الآفاق المستقبلية
بدأت فرنسا تجني ثمار تفوقها التقني على المجموعات الإسلامية المسلحة في شمال مالي، من خلال عمليات تحرير المدن ودخولها خلال الأسبوع الثالث للحرب، ولكن المجموعات الإسلامية تقول إنها أخلت المدن تجنبا للخسائر الكبيرة جراء القصف، وتتوعد فرنسا بأيام صعبة، فما كانت تريده القاعدة تحقق جزئيا، فهي بعد أيام أو أسابيع ستكون قادرة على اصطياد ضحاياها الفرنسيين على الأرض وجها لوجه بعدما يسترخي الفرنسي ويتخفف من ثيابه في شمس الصحراء الحارقة.

وطبقا للنصيحة الحربية "استخدم طعما تغري به العدو" فقد أخذت فرنسا أكثر من مدينة كاللقمة السائغة، لكن الاحتفاظ بهذه المدينة أو تلك سيكلف فرنسا لا محالة، كلما أرادت الاحتفاظ بالمنطقة، وبذلك تكون حرب الاستنزاف المكلفة اقتصاديا قد بدأت بما تحمله من تداعيات خطرة على فرنسا التي تقع في قلب عاصفة الأزمات الاقتصادية.

وستكون القاعدة في حرب الاستنزاف أكثر قابلية لكسب الرهان، فطبقا للقاعدة العسكرية القديمة فـ"إن أفضل الحروب هي تلك التي يتم فيها قلب الطاولة على خطط العدو بعد أن تكون قد أنجزت" وستخدم تضاريس المكان وطبيعة الأرض والسكان القاعدة أكثر من الفرنسيين، الذين لا يجهلون المكان اعتمادا على خبرة أبي رغال الماثل في الجيش المالي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.