انتفاضات كامنة في الأفق الفلسطيني

العنوان: انتفاضات كامنة في الأفق الفلسطيني - الكاتب: نواف الزرو

undefined

عوامل التفجير قائمة
فلسطين تستفيق من سباتها العابر
حاجة وطنية عاجلة

الفلسطينيون ينتظرونها، فهي حسب تقديراتهم الإستراتيجية آتية لا محالة, فالانتفاضة الثالثة تدق على الأبواب، ولا ينقصها سوى الشرارة، وما الهدوء البادي للناظر سوى وهم، فالبركان تحت الرماد، وعوامل التفجير القديمة ما تزال قائمة، تعتمل في المرجل الفلسطيني، يضاف إليها جملة أخرى من  صواعق التفجير.

والإسرائيليون يتوقعونها وباتوا يتحدثون عن العنوان المكتوب على الجدار، وبدؤوا يستعدون للمواجهات، وهم يتحدثون عن انتفاضة فلسطينية ثالثة في الأفق، متأثرة بالمناخات العربية المتنقلة من قطر إلى آخر. بينما يجمع الفلسطينيون من جهتهم على أن الانتفاضة الشاملة ضد الاحتلال باتت حاجة وطنية عاجلة، وأن المسألة مسألة وقت.

عوامل التفجير قائمة
الحديث عن انتفاضة فلسطينية ثالثة كامنة في الأفق، ليس حديثا إعلاميا أو استهلاكيا أو تعبيرا عن أمنيات تتفاعل، بل هو حديث مدجج بالأحداث والوقائع وبعوامل التفجير المتراكمة التي تنتظر اللحظة التاريخية المناسبة.

إن كان هناك بضعة عوامل وراء تفجير الانتفاضة الفلسطينية الكبرى الأولى 1987-1993، وإن كان هناك ضعفها وراء تفجير انتفاضة الأقصى 2000، فإن العوامل المحتملة اليوم لتفجير انتفاضة فلسطينية ثالثة أوسع وأكبر وأقوى

فالفلسطينيون المحبطون من كافة ملفات المفاوضات والاستيطان والفساد، يجمعون اليوم على أن عوامل التفجير للانتفاضة الثالثة  قائمة قوية متفاعلة متراكمة يوما عن يوم، ولم تكن انتفاضة الأسرى الفلسطينيين في معتقلات الاحتلال الصهيوني مؤخرا، سوى واحدة من انتفاضات عديدة تلوح في الأفق، بل إنها هيئت المناخات الفلسطينية والعربية لانتفاضة جديدة، إذ تحركت فلسطين واشتعلت غضبا، وبات المرجل الفلسطيني في أعلى درجات غليانه، والعدو المتربص تخوف من اندلاع انتفاضة فلسطينية شاملة عارمة، تشعل الأرض كلها تحت أقدامهم، بينما ما تزال انتفاضة الأسرى تتفاعل في أعقاب عدم التزام العدو بنصوص الاتفاق المعقود، مما ينذر بإضراب مفتوح مكمل عن الطعام من شأنه أن يفجر الشارع الفلسطيني على امتداد مساحة فلسطين.

إلى ذلك، فمنذ أن آلت عملية المفاوضات العقيمة إلى ما آلت إليه من دخول الوضع الفلسطيني في الأزمة الشاملة، وفقدان المفاوض الفلسطيني قدرته على ممارسة سياسة الإجبار المتبادل مع الاحتلال، ونجاح الحكومة الصهيونية في العودة بالأوضاع إلى المربع الأول، وكذلك بعد أن انتهت عملياً اتفاقية أوسلو دون أن تنفذ سلطات الاحتلال الاستحقاقات المترتبة عليها، بعد ذلك كله، أصبحت عناوين المشهد الفلسطيني:

-استحقاقات متأخرة معطلة بصورة منهجية على يد الاحتلال.
– مفاوضات عقيمة استمرت سنوات طويلة بلا نتائج حقيقية.
– استباحات احتلالية سافرة لكافة المعايير التفاوضية واستخفاف يصل إلى درجة الاحتقار للمفاوض الفلسطيني الذي بدا أنه بلا وزن أو حضور أو تأثير.
– حروب الاستيطان والتهويد المتحركة في كل المدن والأماكن الفلسطينية.
– أوضاع عربية مفككة ومهترئة وضعيفة لا تشكل غطاء حقيقياً للفلسطينيين، لا في السلم ولا في الحرب.
– كما أن ثنائية الانقسام والفساد في المشهد الفلسطيني، مضافة إلى العوامل التفجيرية أعلاه، إنما تتفاعل بدورها وربما بقياسات أشد من العوامل السابقة، مما ينتج لدى الفلسطينيين مناخا من السخط والغضب والثورة.

لذلك إن كان هناك بضعة عوامل وراء تفجير الانتفاضة الفلسطينية الكبرى الأولى 1987-1993، وإن كان هناك ضعفها وراء تفجير انتفاضة الأقصى 2000، فإن العوامل المحتملة اليوم لتفجير انتفاضة فلسطينية ثالثة أوسع وأكبر وأقوى، وهي أضعاف تلك العوامل مجتمعة، بل إن التصريحات والبيانات والخطابات والإجراءات وسياسات التطهير العرقي الصهيونية المنفذة على الأرض الفلسطينية، كلها  تشكل دعوة واضحة وصريحة للانتفاضات.

فلسطين تستفيق من سباتها العابر
وانتقالا إلى ما يجري على الأرض الفلسطينية، وفي ميادين المظاهرات والمسيرات والمواجهات مع قوات ومستعمري الاحتلال، فتراكم مؤشرات الانتفاضة يشي بأن فلسطين أخذت تستفيق من سباتها التاريخي العابر، فنحن نتابع هبات فلسطينية على امتداد مساحة الضفة الغربية ضد الجدران والاستيطان.

ونتابع كذلك هبات مقدسية متلاحقة في مواجهة التهويد، فالمدينة بكافة أحيائها وحاراتها وشوارعها وأزقتها، من بلدتها العتيقة إلى سلوان والبستان، إلى العيسوية، فرأس العامود وبطن الهوا، إلى مخيم شعفاط  فوادي الجوز، إلى رأس العامود وجبل المكبر، لتشمل كل الأمكنة المقدسية، تشهد مواجهات عنيفة مع قوات الاحتلال.

وحسب تطورات الأحداث الموثقة فقد وضعت قوات الاحتلال عناصرها من جنود وأفراد شرطة ووحدات خاصة ترتدي الزي المدني، في حالة تأهب قصوى في القدس التي حوّلها الاحتلال إلى ما يشبه السجن، في وقت تتصاعد جرائم الاحتلال ومستوطنيه بحق المقدسيين، التي قادت إلى ما يشبه انتفاضة شعبية لا سيما في حي سلوان المقدسي المستهدف تهويديا في إطار ما يطلق عليه الصهاينة "الحوض المقدس".

إلى ذلك، لعل مظاهر الانتفاضة المستمرة في الضفة الغربية، تتمثل بتلك التظاهرات والمسيرات والصدامات المفتوحة التي تجري على امتداد جدار الضم والتهويد في الضفة، والتي يطلق عليها "النضال الشعبي" أو "الكفاح الشعبي" أو "الاحتجاجات الشعبية"، والتي يطلق عليها أيضا "الانتفاضة الشعبية الثالثة"، فهذه الانتفاضة غير المسلحة لم تتوقف أبدا، بل تحولت إلى تقليد وروتين لدى الفلسطينيين، ويضرب عليها أمثلة حية ملموسة تجري في بلعين ونعلين و… إلخ، ودولة الاحتلال تشن حربا قاسية على هذه الانتفاضة التي تتوقع دوائر الاستخبارات الإسرائيلية أن تتحول إلى انتفاضة أوسع وأقوى وأشمل.

ففي الأشهر الأخيرة، بات العشرات من نشطاء لجان مقاومة الجدار والاستيطان في الضفة الغربية عرضة للملاحقات والاعتقالات والإقامة الجبرية والغرامات، في مساعٍ إسرائيلية معلنة لشل هذه اللجان التي انتشرت بصورة واسعة في القرى المتضررة من بناء الجدار والاستيطان، ومثل أمام المحكمة العسكرية الإسرائيلية عدد من قادة المقاومة الشعبية وعلى رأسهم منسق لجنة مقاومة الجدار في الأراضي الفلسطينية جمال جمعة ومنسق وأعضاء لجنة مقاومة الجدار في بلعين عبد الله أبو رحمة ومحمد الخطيب وأديب أبو رحمة.

يرى نشطاء المقاومة الشعبية أن الأجواء اليوم تساعد أكثر من أي وقت مضى على اندلاع انتفاضة شعبية جديدة، خاصة مع تزايد الاستيطان وعنف الاحتلال وتردي الوضع الاقتصادي

وفي الآونة الأخيرة تحولت بيوت ناشطي الحركة الشعبية في قرى بلعين ونعلين والمعصرة وجيوس إلى أهداف شبه ليلية لاقتحامات جنود الاحتلال الذين ينفذون فيها مهمة متقنة من التخريب والتدمير.

مما يعود بنا إلى "درس البديهيات.. العسير!"، الذي يميز الثقافة والوعي الفلسطينيين، الذي تحدث عنه الشاعر الفلسطيني الكبير -الراحل- محمود درويش، مضيفا: "كلما خيّل لنا أن صورة فلسطين انتقلت من مكانتها المقدسة.. إلى سياق العادي، فاجأتنا بقدرتها الفذة على إيقاظ معناها الخالد، ببعديه الروحي والزمني، من نعاس تاريخي عابر.."، وفي سياق اليقظة الفلسطينية من هذا السبات العابر، يتحدث الفلسطينيون اليوم عن ربما عشر انتفاضات غضب في انتفاضة واحدة كبرى وشاملة، تعتمل فيها تراكمات غضب هائل مستمر منذ سنوات.

هكذا هو المشهد الفلسطيني الراهن الماثل في فضاء الثورات العربية، فـ"الضفة الغربية تستعيد أجواء الانتفاضة الأولى، فتشهد مدن وقرى الضفة الغربية حالة تشبه إلى حد كبير الأجواء التي سادت خلال الانتفاضة الفلسطينية الأولى (انتفاضة الحجارة) التي اندلعت أواخر عام 1987 وخبت جذوتها بتوقيع اتفاق أوسلو عام 1993، ويرى نشطاء المقاومة الشعبية أن الأجواء اليوم تساعد أكثر من أي وقت مضى على اندلاع انتفاضة شعبية جديدة سلاحها الحجارة، خاصة مع تزايد الاستيطان وعنف الاحتلال وتردي الوضع الاقتصادي وانسداد أفق التسوية السياسية (الجزيرة نت 15/02/2012)".

وتعزز التقديرات الاستخبارية والإستراتيجية الإسرائيلية من جهتها، ما يذهب إليه الفلسطينيون بشأن احتمالية اندلاع الانتفاضة الفلسطينية، ويكثف البروفيسور مناحيم كلاين، المحاضر في العلوم السياسية في جامعة بار إيلان التقديرات الإسرائيلية في مقالة له بعنوان "العنوان مكتوب على الجدار" فيقول: "في ظل الثورات في العالم العربي وانسداد الأفق أمام الفلسطينيين، وإدراكهم أن الخلاص لن يكون عن طريق الولايات المتحدة، فإن مسألة اندلاع انتفاضة لا ينقصها إلا شرارة لإشعالها"، مضيفا: "أنه إذا نال جنوب السودان وتيمور الشرقية استقلالهما قبل الفلسطينيين، فإن ذلك يعني أن خطبا ما قد حصل، فمن غير الممكن المقارنة بين مكانة هذه المناطق، وبين المكانية الدينية والدولية لفلسطين".

وحسب التقديرات والمعطيات العسكرية الأمنية الإسرائيلية الاحتلالية فإن "انتفاضة الحجارة الفلسطينية قد تعود مرة أخرى"، مشيرة إلى "تصاعد العمليات الفلسطينية خلال المسيرات والمظاهرات ورشق الحجارة وإلقاء الزجاجات الحارقة"، مما يعزز المعادلة الصراعية الطبيعية في ظل الاحتلال، فطالما تتواصل سياسة "البلدوزرات" والاستيطان في الضفة الغربية، فـ"إن الانتفاضة الفلسطينية الثالثة قادمة".

بل ربما نذهب أبعد من ذلك بالتأكيد على أن الاحتلال وإن كان في ذروة مشاريعه الاستيطانية، إلا أنه تجاوزها عمليا إلى ما هو أخطر، إلى مرحلة التزييف والتزوير الشامل للتاريخ والتراث والحقوق، بل إلى مرحلة النفي والإلغاء للآخر، مما يضع الفلسطينيين والعرب شاؤوا أم أبوا في صراع وجود وبقاء ومستقبل.

حاجة وطنية عاجلة
هكذا هو المشهد الفلسطيني المتبلور اليوم -ونحن ما زلنا في فضاءات الذكرى الرابعة والستين للنكبة واغتصاب فلسطين، والذكرى الخامسة والأربعين لهزيمة العرب الحزيرانية، التي شكلت بكل ما أفرزته من نتائج عسكرية وسياسية واقتصادية وسيكولوجية وجيوستراتيجية، تحولاً خطيراً في مجرى الصراع العربي الصهيوني، ما زلنا نعاني منه عربيا حتى اليوم- وهذه هي المؤشرات المتراكمة على الأرض هناك، إذ في الوقت الذي تؤكد فيه مصادر فلسطينية رسمية "أن لا عودة لانتفاضة جديدة"، و"أن السلطة لن تسمح بانتفاضة ثالثة"، فإن المعطيات على الأرض في الضفة الغربية تنبئ بغير ذلك.

فالشعب الفلسطيني الذي انطلقت مسيرته النضالية الكفاحية ضد الانتداب والمشروع الصهيوني معا، قبل نحو قرن من الزمن، والشعب الذي فجر تلك الانتفاضة الكبرى الأولى عام 1987، وألحقها بالانتفاضة الكبرى الثانية 2000، احتجاجا على الأوضاع المأساوية وعلى المفاوضات العقيمة، وعلى الاستيطان وجرائم الاحتلال، وعلى اختطاف وتهويد المدينة المقدسة، يبدو أنه في ذروة الغليان، وهذه المرة ليس فقط ضد الاحتلال، وإنما ضد الفساد المستشري حتى النخاع، وضد حالة الانقسام النكبوي الذي يدمر المشروع الوطني التحرري الفلسطيني يوما عن يوم.

والأهم من كل ذلك أن الشعب الفلسطيني قد ضاق صبرا من الأفق السياسي المغلق تماما، وضاق صبرا من قيادة المفاوضات الفلسطينية الفاشلة، وضاق صبرا من العقلية الفصائلية الكارثية التي تودي بالمشروع الوطني والاستقلال إلى الهاوية!

بات الفلسطينيون يجمعون إلى حد كبير، على أن الانتفاضة الفلسطينية الثالثة آتية، وهي البديل الملح، وهي الحاجة الوطنية العاجلة لحماية المشروع الوطني الفلسطيني  

إلى جانب كل ذلك، فإن الأراضي المحتلة حبلى بانفجار بركاني آخر أعتى وأشد وأوسع غضبا من كل ما سبقه من انفجارات، فتراكمات الغضب والقهر تصل إلى ذروة جديدة، على فوهة انفجار بركاني حقيقي، إذا لم تتغير المسارات والأمور التي يبدو أنها على خلاف المنشود تتكرس، وليس من شك أن ديناميكية الأحداث على الأرض الفلسطينية وفي قلب المشهد الفلسطيني، هي الأقوى والأشد وطأة وتأثيراً، فهي أقوى من مليون اتفاق أو تفاهم أو تهدئة على الورق!

لذلك بات الفلسطينيون يجمعون إلى حد كبير، على أن الانتفاضة الفلسطينية الثالثة آتية، وعلى أن "الوحدة الوطنية الفلسطينية"، و"وحدة الخنادق والبنادق" في مواجهة حروب الاستيطان والجدران على امتداد مساحة الضفة الغربية، وعلى أن "القيادة الجماعية من أقصى الإسلام مرورا بفتح الوسط وصولا إلى أقصى اليسار"، هي المخرج من المأزق وهي البديل الملح، وهي الحاجة الوطنية العاجلة لحماية المشروع الوطني الفلسطيني التحرري من جهة، ولقيادة الانتفاضات ومشروع المقاومة حتى رحيل الاحتلال  بكل جيوشه ومستعمريه وإداراته العسكرية والمدنية من جهة أخرى.

فالقيادات الصهيونية التي تعمل بلا توقف من أجل تخليد الاحتلال والتهويد، تعتبر أن الصراع مع الفلسطينيين هناك صراع وجود وبقاء، وهي تفتح كافة الجبهات العسكرية والسياسية والإعلامية والاقتصادية والثقافية والتعليمية في حرب شاملة إلغائية للشعب والقضية والحقوق، مما يستدعي من الفلسطينيين يقظة عاجلة جدا، تعيد ترتيب أوراقهم وأولوياتهم الوطنية في إطار إستراتيجية جديدة، تستحضر "درس البديهيات العسير!".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.