احتلال العراق واختلال ميزان القوة

احتلال العراق واختلال ميزان القوة

 undefined

وزن العراق في معادلة الصراع العربي الإسرائيلي
احتلال العراق وتبدل موازين القوى الإقليمية
النتائج المستقبلية لاستمرارية تعطيل الدور العراقي

يمكن وصف العراق وفق معايير القوة، بمعنى اكتساب عناصرها المادية الملموسة أو غير المادية،  بأنه قوة متوازنة ماديا وبشريا، ويمكن الاستدلال تاريخيا على مكامن وحقيقة هذه القوة من خلال توالد خمس حضارات متعاقبة في البقعة نفسها، وهذا أمر تفردت به أرض الرافدين حيث تميزت كل واحدة من هذه الحضارات عن التي سبقتها أو تلتها، فقد تعاقبت على التوالي الحضارة السومرية والأكدية والآشورية والبابلية وأخيرا الحضارة العربية الإسلامية.

على المستوى المعاصر وفي سياق معادلة توازن القوة في الصراع العربي الإسرائيلي، فإن العراق يكاد يكون الدولة العربية الوحيدة التي امتلكت قدرات بشرية وموارد مادية متوازنة وكانت على وشك تحقيق توازن إستراتيجي نووي مع إسرائيل، وما كان هذا ليحدث لولا وجود عوامل قوة ذاتية متكاملة وحقيقية.

من جانب آخر، فإن معطيات الجغرافيا السياسية للعراق تشير إلى أنه كان يؤدي باستمرار عبر تاريخه وظيفة مزدوجة، فكان بمثابة سد وجدار صدّ على الدوام ضد الأطماع الإقليمية وحال دون اندفاعاتها باتجاه العمق العربي، في حين شكل لاحقا حجر التوازن والعمق الإستراتيجي في معادلة الصراع العربي الإسرائيلي.

وزن العراق في معادلة الصراع العربي الإسرائيلي
ويمكن الاستدلال على حجم التأثير والتأثر الذي يمثله ثقل العراق في معادلة الصراع العربي الإسرائيلي من خلال التعرف على حجم الاستهداف المبكر الذي تعرض له العراق من قبل إسرائيل، والمكاسب التي حققتها إسرائيل فيما بعد ولا تزال تجنيها جراء احتلال العراق.

الاستهداف الحقيقي للعراق دخل حيز التنفيذ في الواقع في تلك اللحظة التي تم الإعلان فيها من قبل اليونسكو عام 1977 أن العراق قضى نهائيا على الأمية, وأن ملامح قاعدة علمية متينة وواعدة بدأت تتشكل

من المعروف أن هذا الاستهداف الإسرائيلي جاء منسجما مع ثوابت السياسة الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط والقائمة على ثابتي النفط وأمن إسرائيل، وكان العراق قد عبر الخط الأحمر الأول بتأميمه النفط عام 1972 الذي يمثل ثاني أكبر احتياطي في العالم، ولم يكتف بذلك بل طالب في حرب 1973 بأن يكون الثابت الأول (النفط) في خدمة الثابت الثاني (أمن إسرائيل) عندما طالب العراق الدول العربية المنتجة للنفط بأن يكون هذا النفط سلاحا في المعركة، وبذلك يكون العراق قد عبر كافة الخطوط الحمر الأميركية والإسرائيلية على حد سواء.

ولكن الاستهداف الحقيقي والجدي دخل حيز التنفيذ في الواقع في تلك اللحظة التي تم الإعلان فيها على سبيل المثال من قبل اليونسكو عام 1977 أن العراق قضى نهائيا على الأمية في البلاد، وأن ملامح قاعدة علمية متينة وواعدة بدأت تتشكل في جامعاته التي بلغ عددها لاحقا 23 جامعة، وأنه قد تحول -طبقا للتقرير الدولي- إلى ما يشبه ورشة عمل كبيرة، بتعبير آخر، كان العراق على وشك الخروج والإفلات من دائرة دول وطوق العالم الثالث، فإذا تم ربط كل تلك الطفرات بنمط الإرادة السياسية والعقيدة العسكرية للعراق، فإن ذلك يمثل من الناحية الإستراتيجية خطرا حقيقيا يهدد مستقبل ووجود إسرائيل، يستدعي مواجهته واستهدافه وإجهاضه قبل فوات الأوان.

اتخذت آليات الاستهداف سلسة متكاملة من الحلقات بهدف إجهاض قدراته وتعطيل دوره، كان في مقدمتها توظيف المليشيات الانفصالية في شمال العراق لخوض حرب استنزاف ضد الجيش العراقي وتثبيت قواته في شمال العراق لمنعها من المشاركة في أية حرب عربية إسرائيلية، عبر عن تلك الإستراتيجية بوضوح عزرا وايزمن نائب رئيس العمليات عام 1966 ورئيس إسرائيل فيما بعد عندما قال "إن مصلحة إسرائيل تقتضي أن يكون لدينا صديق في مؤخرة العراقيين يقض مضاجعهم ويثبت قواتهم بعيدا عن إسرائيل".

استكملت حلقات الاستهداف على التوالي من خلال الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988) التي امتدت لثمان سنين والتي عبر عنها هنري كيسنجر "هذه أول حرب في التاريخ أتمنى أن لا يخرج فيها طرف منتصرا، وإنما يخرج كلا طرفيْها مهزوما"، ثم قصف المفاعلات النووية، واغتيال العلماء العراقيين، وكذلك استدراج القيادة العراقية إلى فخ وكارثة احتلال الكويت التي أعقبها حصار قاس لتدمير الشعب العراقي لينتهي هذا الاستهداف باحتلال العراق عسكريا وإخراجه بصورة نهائية من معادلة الصراع العربي الإسرائيلي.

احتلال العراق وتبدل موازين القوى الإقليمية
أدى تدمير العراق إلى أن تعيش المنطقة في أجواء معادلة جديدة لتوازن القوة، كما أدى ذلك إلى تخلخل الضغط في المنطقة واختلاله واندفاع الضغوط الإقليمية العالية إلى العمق العربي بغية ملء الفراغ، حيث تتحكم حاليا في المنطقة ثلاث قوى إقليمية رئيسية، وهي: تركيا بمشروعها القومي الديني، وإيران بمشروعها القومي الديني، وإسرائيل بمشروعها الديني العنصري. الغائب الوحيد عن هذه الساحة هو المشروع العربي حيث تتفق جميع هذه القوى الإقليمية على ضرورة تغييبه واستمرار التلاعب به تحت مختلف الذرائع والمسميات وتشظيته وفق شروط واستحقاقات الجغرافيا السياسية الجديدة.

ومن المتوقع في حال استمرار تغييب العراق عن أداء وظيفته "كموازن إستراتيجي" عربي إزاء القوى الإقليمية الثلاث، استمرار التدهور العربي وانحداره إلى مزيد من التشرذم والتفتيت، وقد يعتقد البعض أن الفوضى التي تحدث بالمنطقة تمثل جميعها استحقاقات داخلية ولا يوجد ربط ما بينها، ولكن في الحقيقة إن المنطقة برمتها تخضع لعملية تفكيك وإعادة تركيب وفق نظرية متكاملة الثابت فيها مصالح الولايات المتحدة الأميركية المتمثلة بالهيمنة على ثروات النفط في المنطقة والتحكم بعصب الطاقة في القرن الحادي والعشرين من جهة، وضمان أمن إسرائيل من جهة أخرى. 

كل ما تعرض ويتعرض إليه العراق يستهدف تدمير بنيته التحتية العلمية والاقتصادية واجتثاث مقومات قدرته الكامنة وتعطيل وإلغاء دوره في الصراع العربي الإسرائيلي

النتائج المستقبلية لاستمرارية تعطيل الدور العراقي
بات من الواضح أن كلّ ما تعرض ويتعرض إليه العراق يستهدف تدمير بنيته التحتية العلمية والاقتصادية واجتثاث مقومات قدرته الكامنة وتعطيل وإلغاء دوره في الصراع العربي الإسرائيلي وسعيه الدؤوب لإقامة توازن إستراتيجي مع إسرائيل، إضافة إلى عزله عن محيطه العربي وإلغاء دوره التاريخي كجدار صدّ ضد الأطماع الإقليمية، من ذلك يمكن استنتاج الحقائق الجوهرية التالية:

أولا: كشف غزو العراق واحتلاله عن هشاشة ووهن منظومة الأمن القومي العربي، وفضح أكذوبة التضامن في النظام الرسمي العربي، ونسف شرعية جامعة الدول العربية ومعاهدة الدفاع العربي المشترك.

ثانيا: باحتلال العراق فقد زال تهديد رئيسي وجديّ لأمن إسرائيل، وتحقق اختلال إستراتيجي واضح في ميزان القوة لصالحها، كما أجهض هذا الاحتلال أية احتمالات في المدى القريب والمتوسط لاستعادة العرب للمبادأة في الصراع ضد إسرائيل.

ثالثا: إن على دول الجوار المحيطة بالعراق أن تعي خطورة وانعكاسات ما يجري فيه على أمنها الوطني، وتدرك أن استمرار تداعيات الاحتلال الأميركي والإسرائيلي المعد للمنطقة برمتها يبدأ من العراق وأن الأيام السيئة للمنطقة لم تبدأ بعد. وإن على هذه الدول أن لا تعبث بوحدة العراق وعروبته لأن ذلك أشبه بالتعاطي مع برميل بارود لن يسلم منه أحد.

رابعا: يمكن وصف القوى الإقليمية الصاعدة في المنطقة بأنها قوى قومية ذات طبيعة توسعية       بامتياز تتخذ من الدين والطائفية غطاءً وذراعا لها، وهو أمر ينسجم من حيث النتائج مع خريطة الصراع الجديدة المعدة سلفا للمنطقة، في حين تكمن طبيعة الخطورة على إسرائيل في أن تكون المعركة ذات طبيعة عربية تقترن ببعدها الإسلامي وليس العكس، وربما هذا يفسر استهداف العروبة، وبالتالي فإن أية مشاريع مقاومة أو حراك شعبي ثوري لا يتخذ من العروبة إطارا وهدفا ومحركا ومولدا حقيقيا لن يكون له تأثير فاعل في ميزان الصراع العربي الإسرائيلي.

خامسا: قد تكون الولايات المتحدة الأميركية لم تنتصر في العراق ولكنها أيضا لم تهزم بعد،
وربما حققت جزءا من أهدافها وخاصة تلك المتعلقة بتدمير الجيش العراقي لصالح إسرائيل وتدمير البنية التحتية وإثارة الفتنة والمحاصّة الطائفية والعنصرية وتقنينها من خلال الدستور النافذ بعد الاحتلال كنظام حكم سياسي في العراق.

من المؤكد أن المقاومة العراقية قد هزمت مشروع الاحتلال الأميركي في صفحته العسكرية، إلا أن الصفحة السياسية وكذلك الاقتصادية تتطلب مرحلة جديدة
من النضال والكفاح

سادسا: إذا كانت تركيا كأمة وقومية تعرف ماذا تريد ولديها مشروع في المنطقة وتعمل حثيثا وفق مصالحها، وإيران لديها مشروع قومي وتعرف أيضا ماذا تريد وتعمل كأمة وفق مصالحها، وكذلك إسرائيل، هنا يطرح سؤال نفسه: ماذا نريد نحن العرب كأمة؟ وما هو مشروعنا في القرن الحادي والعشرين أسوة ببقية الأمم؟

سابعا: من المؤكد أن المقاومة العراقية قد هزمت مشروع الاحتلال الأميركي في صفحته العسكرية، وعطلت لغاية الآن مشروع الشرق الأوسط، وحافظ الشعب العراقي لغاية الآن على تماسكه، إلا أن الصفحة السياسية للاحتلال وكذلك الاقتصادية تتطلب مرحلة جديدة من النضال والكفاح لا تقل خطورة وصعوبة وتعقيدا عن المرحلة العسكرية.

صفوة ما سبق، إنه يمكن القول ووفقا لحال الأمة، ليس من المتوقع في المدى القريب أو المتوسط إمكانية تشكيل أي قوة عربية موازنة لإسرائيل لاسيما بعد أن تم فتح جبهات ناعمة خلف خطوط معظم الدول العربية. وعليه فمن يريد أن يستعيد التوازن الإستراتيجي في المنطقة أو مع الكيان الإسرائيلي وإيقاف الاندفاعات الإقليمية نحو العمق العربي، عليه أن يستعيد أولا العراق العربي الموحد المستقل بإرادته السياسية والعسكرية والاقتصادية الحرة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.