مصر.. زوبعة دستورية أم هيمنة عسكرية؟

مصر.. زوبعة دستورية أم هيمنة عسكرية؟ - الكاتب: محمود المبارك

undefined

مقدمة تاريخية
معضلة دستورية أم أزمة سياسية؟
خاتمة

في الوقت الذي تشرئب فيه الأعناق إلى قبلة العالم العربي السياسية، لمعرفة ما تؤول إليه نتائج الانتخابات الرئاسية، بعد مضي حقبة طويلة من الدكتاتورية العسكرية، لا تلوح في الأفق بوادر تنبئ عن تخلي المؤسسة العسكرية عن قبضتها الحديدية للسلطة في مصر.

ذلك أن ما قام به المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية قبل الانتهاء من الانتخابات الرئاسية بساعات، من تكريس السلطات بيده عبر "الإعلان الدستوري المكمل"، واستئثاره بالسلطة التشريعية في البلاد بعد حل مجلس الشعب، الذي جاء عبر انتخابات حرة ونزيهة لأول مرة في تاريخ مصر، هذان الأمران يشيران مجتمعين إشارةً لا لبس فيها إلى أن المجلس العسكري يريد أن يحتفظ لنفسه بهيمنته السياسية، عبر هذه الإجراءات التعسفية، بطريقة تعكس استهتار المؤسسة العسكرية بأسس الديمقراطية ودستور البلاد.

مقدمة تاريخية
قبل الخوض في المسألة الدستورية المصرية، لعله من المفيد بدايةً الإشارة إلى أن الدساتير في عالم الغرب تحاط بهالة من التقديس، تجعل من الصعب جدًّا التلاعب بها لأجل المصالح الخاصة للسياسيين المتنفذين.

وإذا كان من سمة بارزة تفرق بين عقلية العالم العربي وعقلية العالم الغربي من الناحية السياسية القانونية، فهي مسألة احترام القوانين عموما والقانون الدستوري على وجه الخصوص. ففي الولايات المتحدة، على سبيل المثال، يتطلب تعديل الدستور موافقة ثلثي أعضاء مجلسي الشيوخ والنواب، إضافة إلى تصديق الرئيس، وذلك أمر غير يسير في الحياة السياسية في الولايات المتحدة.

الدستور الأميركي لم يشهد سوى سبعة وعشرين تعديلاً خلال ما يزيد على قرنين وربع قرن من الزمان، لم يمس أي منها الأسس التي يقوم عليها الدستور

ومع ذلك، فلا يتوقع لأي تعديل دستوري في الولايات المتحدة أن ينقض الأسس أو المبادئ التي قامت عليها الدولة الأميركية. وليس أدل على ذلك من أن الدستور الأميركي، لم يشهد سوى سبعة وعشرين تعديلاً خلال ما يزيد على قرنين وربع قرن من الزمان، لم يمس أي منها الأسس التي يقوم عليها الدستور.

في المقابل، نجد أن الدستور المصري الذي أقر لأول مرة عام 1882، في عهد الخديوي توفيق، قد ألغي برمته بعد ذلك بفترة وجيزة، ثم صدر دستور جديد عام 1923 حمل اسم العام الذي صدر فيه، ولكنه ما لبث أن ألغي أيضا عام 1930. وفي فبراير 1953 صدر الإعلان الدستوري المتضمن أحكام الدستور المؤقت للحكم خلال فترة الانتقال، والذي ما لبث بدوره أن ألغي في يونيو/حزيران من نفس العام، حين ألغيت الملكية وأعلن النظام الجمهوري. وفي عام 1956 صدر الدستور المصري الجديد الذي استبدل به دستور الوحدة عام 1958، إثر قيام الجمهورية العربية المتحدة، وبعد ذلك بثلاث سنين صدر دستور مؤقت جديد، ثم في عام 1971 تم الإعلان عن الدستور الأخير.

ولكن حتى هذا الدستور لم يخل من تعديلات جوهرية، حيث تم تعديله عام 1980، حين قام الرئيس السادات بطرح عدة تعديلات دستورية على مجلس الشعب تمت الموافقة عليها جميعا، كان أبرز ما فيها تعديل المادة 77 التي كانت تحدد مدة الرئيس بفترتين رئاسيتين.

وفي عام 2006، تم تعديل المادة 76 من الدستور، ليلغَى نظام الاستفتاء ويتم التحول إلى الاقتراع السري المباشر بين عدة مرشحين لانتخابات الرئاسة، وأفضى هذا التعديل في نهاية الأمر إلى فوز الرئيس المخلوع حسني مبارك بفترة رئاسية جديدة. وفي عام 2007، شهدت مصر تعديلاً دستوريًّا تم بموجبه تعديل 34 مادةً من مواد الدستور، في يوم واحد!

وبعد نجاح الثورة المصرية في العام الماضي، صدر الإعلان الدستوري في شهر مارس/ آذار 2011، الذي تمت إضافة زائدة دودية له من المجلس الأعلى للقوات المسلحة قبل أيام.

يأتي هذا التعديل الإضافي الأخير ليطلق يد المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية، في اتخاذ ما يراه من قرارات مصيرية، ويقيد سلطات الرئيس المنتخب، ويستأثر لنفسه بالسلطة التشريعية، إضافةً إلى إقرار "قانون طوارئ جديد" بعد تغيير لونه وشكله، مع بقاء رائحته النتنة، كل ذلك ليؤكد من جديد أن صناع القرار في عالمنا العربي، هم الذين ليسوا جاهزين لتقبل الديمقراطية، وليست شعوبهم كما يزعمون.

المثير للسخرية، أنه رغم أن كل رئيس يتولى السلطة في مصر، يجري من التعديلات الدستورية ما شاء الله وما شاء لنفسه أن يفعل، فإنه مع ذلك لا تخلو فترة رئيس من انتهاكات جسيمة للدستور، الذي أقسم على الحفاظ عليه يوم توليه الرئاسة.

معضلة دستورية أم أزمة سياسية؟
اليوم، وبعد أن قام المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية بإقحام ما سماه "الإعلان الدستوري المكمل"، بطريقة لا تتناسب مع أبسط مبادئ الديمقراطية، لعل السؤال المطروح هو: هل الأزمة في حقيقتها دستورية أم سياسية؟

والواقع الذي لا خلاف حوله هو أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة تولى السلطة من غير سند دستوري، وأن الشرعية التي حظي بها المجلس العسكري إنما جاءت من قبل الشعب نفسه، الذي لم يعترض على توليه سلطات الدولة بعد الثورة، من أجل تمهيد الأمور لانتخابات تشريعية ورئاسية حرة ونزيهة، لا أكثر. خصوصًا أن المجلس العسكري تعهد علنًا بتسليم السلطة إلى حكومة مدنية منتخبة.

وتبعًا لذلك فإن السلطة التشريعية التي اكتسبها المجلس العسكري، انتهت بعد انعقاد مجلس الشعب، وإن سلطاته التنفيذية تنتهي بعد انتخاب الرئيس الجديد، وليس لأحد أن يزعم أن للمجلس العسكري سيادة فوق سيادة الرئيس أو البرلمان المنتخبين.

وأما حكم المحكمة الدستورية بحل مجلس الشعب، فواضح أنه حكم سياسي، ولم يكن حكمًا قانونيًّا. ذلك أنه رغم نفاذ أحكام المحكمة الدستورية، فإن اختصاصها القضائي مقصور على النظر في دستورية نص بعينه. ولا يتعدى ذلك إلى آثار أخرى متعلقة.

ومعلوم أن حكم المحكمة الدستورية ذهب إلى إبطال النصوص المتعلقة بالثلث الفردي للنواب الفائزين، ولكن تم الاعتماد على حيثيات الحكم في إبطال الثلثين الباقيين، من غير أساس دستوري، وهو الأمر الذي يحتاج إلى إعادة دراسته من الناحية القانونية عبر قنوات الدولة المختصة بتنفيذ الحكم، لتفادي أي مصادرة لحق الشعب في اختيار ممثليه.

الوصف القانوني لما جرى في مصر من قبل المؤسسة العسكرية في حل البرلمان والاستئثار بصلاحياته، وتقييد سلطات الرئيس الجديد، وإقحام المؤسسة العسكرية في مؤسسة الرئاسة، هو أنه "استيلاء غير قانوني على السلطة

إضافةً إلى ذلك، فإن قرار حل مجلس الشعب، أمر لا يملكه الرئيس، فضلاً عن المجلس العسكري، حيث نصت المادة 136 من دستور 1971 على أنه "لا يجوز لرئيس الدولة حل مجلس الشعب إلا عند الضرورة وبعد استفتاء الشعب".

في الوقت ذاته، فإن ما قام به المجلس الأعلى للقوات المسلحة بالاستئثار بحق السلطة التشريعية بزعم أن مجلس الشعب قد تم حله، يأتي مناقضًا للمادة 108 من دستور عام 1971، التي تفوض رئيس الدولة في حالات الضرورة والأحوال الاستثنائية القيام بدوره التشريعي مؤقتًا.

أمر آخر مثير للسخرية قام به المجلس العسكري في الإعلان المكمل، وهو إبقاؤه لنفسه حق إعلان الحرب، وهو أمر أحسب أنه لا يقبله أي عسكري فضلاً عن مدني، وهو أمر مخالف لجميع دساتير الدول، التي تنص على أن رئيس الدولة هو الرئيس الأعلى للقوات المسلحة، ويتحمل مسؤوليتها الكاملة.

سؤال أخير قد يبرز قريبًا: أمام من يؤدي الرئيس الجديد القسم الدستوري في غياب عمل مجلس الشعب؟

فعلى رغم أن المادة 79 تنص على أن يؤدي الرئيس اليمين الدستورية أمام مجلس الشعب، فإنه إلى أن يحسم أمر مجلس الشعب قضائيًّا، فإنه ليس هناك ما يمنع من تأدية الرئيس الجديد القسم أمام المحكمة الدستورية، دون أن يعني ذلك الموافقة على قراراها بحل البرلمان.

واقع الأمر إذًا، يؤكد أن الخلاف القائم حاليًّا ليس دستوريًّا وإنما هو سياسي لأجل الحفاظ على الهيمنة السياسية، التي ذاق حلاوتها المجلس العسكري. ولعل المتأمل في الوقت الذي اختاره المجلس العسكري لإجراء هذه التعديلات، يجد الإجابة عن التساؤل عن كون الأزمة دستورية صرفة أم أنها لعبة سياسية. إذ إن توقيت الإعلان الدستوري -الذي جاء قبل انقضاء الانتخابات الرئاسية بساعات فقط- وبعد أن تبين من النتائج الأولية من سيكون الفائز في الانتخابات الرئاسية، لم يعد يترك لذي اللب مقالاً ولا للحيران سؤالاً.

لذا، فإن الوصف القانوني لما جرى في مصر من قبل المؤسسة العسكرية في حل البرلمان والاستئثار بصلاحياته، وتقييد سلطات الرئيس الجديد، وإقحام المؤسسة العسكرية في مؤسسة الرئاسة، هو أنه "استيلاء غير قانوني على السلطة في مصر".

غني عن القول إن الشعب المصري بلغ درجة من الوعي بحيث لا يثنيه شيء عن المضي في طريق تحقيق كامل ديمقراطيته، كي يرى من انتخبهم يقومون بعملهم في البرلمان وفي رئاسة الدولة، مهما حاول المجلس العسكري الحيلولة دون تحقيق ذلك.

وتبعًا لذلك، فإن على الولايات المتحدة خصوصًا ودول العالم الغربي عمومًا، التي طالما وعظت حكوماتنا بإرساء الحريات وقواعد الديمقراطية، أن تنأى بنفسها عن الوقوف مع المجلس العسكري الذي بدأ خطوات وأد الديمقراطية الوليدة، وألا تكرر الخطأ الذي وقعت فيه في التجربتين الديمقراطيتين: الجزائر وفلسطين، وإن فعلت ذلك فسوف تدفع الثمن غاليًّا هذه المرة!

خاتمة
رغم أن "الإعلان الدستوري المكمل" متناقض مع الدستور المصري ذاته، فإنه يأتي متناسبًا مع تاريخ الأمة العربية غير الشريف في تعديل دساتيرها من القمة، وليس من القاعدة، ليؤكد من جديد عمق الأزمة الدستورية في الفهم القانوني العربي، الذي ليس مقصورًا على مصر وحدها، حيث قامت دول عربية عديدة بتعديل دساتيرها بطرق مشابهة.

"الإعلان الدستوري المكمل" متناقض مع الدستور المصري ذاته، إلا أنه يأتي متناسبًا مع تاريخ الأمة العربية غير الشريف في تعديل دساتيرها من القمة، وليس من القاعدة

ففي عام 2006، قام الرئيس الفلسطيني المنتهية ولايته محمود عباس بحل المجلس الوطني الفلسطيني وتجميد بعض مواد الدستور، وهو أمر أحسب أنه غير مسبوق في تاريخ انتهاكات الرؤساء لدساتير بلادهم، وسمح لنفسه بالبقاء رئيسًا من دون انتخابات إلى مدة لا يعلم مداها إلا الله!

وفي سوريا، تم تعديل الدستور السوري خلال ساعات قصيرة، من قبل مجلس الشعب السوري، ليتناسب مع عمر الرئيس الجديد، بدلاً من أن يتناسب عمر الرئيس مع الدستور، ليثبت العالم العربي أن لديه مرونة دستورية لم يصل إليها الغرب بعد!

وفي الجزائر، تمكن الرئيس الحالي من إجراء تعديل على الدستور الجزائري عام 2008، ليجيز لنفسه بقاءه لفترة ثالثة، رغم أنف الدستور.

خاتمة القول، أنه قد يكون من المقبول أن يستغفل الدكتاتور شعبه ويستأثر لنفسه بجميع الصلاحيات الدستورية وغير الدستورية في الماضي، ولكن من غير المقبول أو المعقول أن يبقى استغفال الشعوب في زمن الثورات العربية، التي إنما جاءت لتنتزع السلطة ممن اغتصبها، وتعيدها إلى مكانها الصحيح، حيث الشعب هو مصدر السلطات.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.