الأسرى الفلسطينيون.. دلالات الإضرابات والانتصارات

: الأسرى الفلسطينيون.. دلالات الإضرابات والانتصارات

undefined

انتصار الإرادة والوحدة
ملاحم وحكايات بطولية
 في الوعي الجمعي الفلسطيني
استخلاصات

هنيئا للحركة الفلسطينية الأسيرة انتصارها في معركة الإرادة في مواجهة السجان الصهيوني، وهنيئا للشعب الفلسطيني الذي أنجب هؤلاء الأبطال الذين يمثلونه خير تمثيل، فهكذا تتحقق الانتصارات التراكمية على الاحتلال، عبر الإرادة والصبر والتضحيات، وهكذا يعلمنا الشعب الفلسطيني أن المعارك مع الاحتلال تحتاج إلى إرادات فولاذية وإلى إجماع سياسي نضالي حقيقي، وأن الانتصار على العدو ممكن إذا ما اجتمعت الإرادة والقيادة والوحدة الوطنية والخطة والأهداف، فالعدو لا يعرف عمليا سوى هذه اللغة.

انتصار الإرادة والوحدة
لقد أرادها الأسرى الفلسطينيون معركة أمعاء مفتوحة حتى الموت أو تحقيق المطالب، فانتصروا في معركة الإرادة ورضخت إدارة سجون ومعتقلات الاحتلال واستجابت لمعظم مطالبهم، غير أن المعركة لم تنته، فطالما هم في المعتقلات، فإن المعركة ستبقى مفتوحة، فليس من حل جذري لقضية الأسرى سوى التحرير، والتحرير وحده هو الذي يغلق هذا الملف الإستراتيجي، الذي لن تكون هناك أي تسوية، كما لن تهدأ الأمور والأوضاع، إن لم يتم حله حلا جذريا، بل إنه في هذا الملف تكمن عوامل تفجير الانتفاضة الثالثة، مما عجل في استجابة قيادة العدو التي تحسبت وما تزال من احتمالية اندلاع انتفاضة فلسطينية تشعل الأوضاع كلها وتعود بها إلى عهد الانتفاضات والمواجهات من جديد، ففي حسابات المنظومة الأمنية السياسية الصهيونية أن "كل أسير فلسطيني مضرب عن الطعام عبارة عن قنبلة موقوتة من شأنها أن تشعل الأوضاع كلها".

لقد عكست ردود فعل بعض محافل الاحتلال على اتفاق إنهاء الإضراب، حقيقة الموقف في صراع الإرادات بين الأسرى والسجان، فنقلت صحيفة هآرتس 14/5/2012على لسان المخابرات الصهيونية "إن الإنجاز الحقيقي لهم كان –مجرد تفكيك القنبلة المتكتكة التي هي نحو 1.500 سجين مضرب عن الطعام", وأكدت أن المنتصرين الأساسيين في الاتفاق "هم السجناء أنفسهم وزعماؤهم في السجن" مشيرة إلى أن "وقف سياسة العزل تشكل إنجازا ليس فقط للسجناء بل وأيضا لزعمائهم، بمن فيهم مروان البرغوثي الذي كان مشاركا في حل الأزمة".

يحق للشعب الفلسطيني أن يفتخر بأسراه، ويحق للأسرى أن يفرحوا بهذا الانتصار، غير أنهم لا يغفلون في الوقت ذاته عن أن المعركة بينهم وبين الاحتلال جزء لا يتجزأ من معركة الاستقلال

ومن جهته انتقد رئيس قائمة الليكود في الكنيست "داني دانون" الصفقة التي وقعها جهاز الأمن العام الإسرائيلي (شاباك) مع ممثلي الأسرى المضربين عن الطعام في السجون الإسرائيلية، ووصف الاتفاق بالخطأ الفادح، وقال "إن الاتفاق الذي أنهى إضراب الأسرى الأمنيين عن الطعام كان بمثابة المكافأة للإرهاب وهو خطأ سندفع ثمنه غاليا"، موضحا أن "توقيع الأسرى على بند عدم ممارسة العمل العسكري من داخل السجون لا يساوي الورق الذي وقعه عليه، فهؤلاء الأسرى أجبروا دولة إسرائيل على التراجع من خلال إضرابهم عن الطعام"، كما أعرب عضو الكنيست عن الاتحاد الوطني "مخائيل بن آري" عن رفضه للصفقة قائلا "إن هذا اليوم هو يوم أسود على إسرائيل التي خضعت أمام الإرهاب".

يحق للشعب الفلسطيني أن يفتخر بأسراه، ويحق للأسرى أن يفرحوا بهذا الانتصار، غير أنهم لا يغفلون في الوقت ذاته الحقيقة الكبرى أن المعركة  بينهم وبين الاحتلال جزء لا يتجزأ من معركة الشعب الفلسطيني من أجل الاستقلال، وأنهم في مواجهة المزيد والمزيد من المعارك في الأفق، طالما هم في معسكرات الاعتقال، إذ لم يجف بعد الحبر على ورق الاتفاق حتى اقتحمت قوة معززة من وحدات "النحشون"، فجر الأربعاء 16/5/2012 قسم 6 في سجن "النقب"الصحراوي، ونكلت بالمعتقلين بشكل وحشي في أول عملية انتهاك خطيرة عقب توقيع الاتفاق بين اللجنة العليا لقيادة الأسرى ومصلحة السجون الصهيونية.

ولم يكن هذا الانتصار الذي حققه الأسرى الفلسطينيون في إضرابهم الأسطوري عن الطعام وحيدا،  فقد جاء تتويجا لسلسلة إضرابات ملحمية متصلة مفتوحة عن الطعام خاضها الأسرى عبر تاريخ مسيرة الاعتقال والنضال الفلسطيني المتواصل هناك في باستيلات الاعتقال الصهيونية، وقد أطلق عليها الأسرى "إضرابات الملح والماء والجوع والصبر والتحدي" تعبيرا عن حدة وعمق ودلالات المواجهة القائمة ما بين الأسرى بأمعائهم الخاوية، وما بين السجان الصهيوني المدجج بكل أدوات القمع والتنكيل، فهناك في مسيرتهم الطويلة أكثر من ثلاثة وعشرين إضرابا مفتوحا عن الطعام خاضها الأسرى الفلسطينيون في سجون ومعتقلات الاحتلال منذ أن وقعت الضفة والقطاع في أسر الاحتلال الصهيوني عام 1967، يضاف إليها "مئات الإضرابات الامتناعية والعصيانية وأشكال الاحتجاج الإنساني المختلفة الأخرى"، وقد حصدت تلك الإضرابات عن الطعام انتصارات مرحلية في سياق المعركة المفتوحة مع إدارات وسلطات معتقلات الاحتلال من أجل الكرامة والحرية والهوية الوطنية.

ملاحم وحكايات بطولية
وفي جوهر هذه الإضرابات الملحمية، يبعث الأسرى تباعا برسائل موجهة للداخل والخارج على السواء، فهم يعلنون أن المعركة التي يخوضونها إنما هي صراع إرادات ومعركة كسر عظم، فإما الشهادة وإما النصر وتحقيق المطالب المتعلقة بالحصول على حقوقهم المشروعة في تحسين أحوالهم الاعتقالية، حتى يحين يوم تحريرهم، فها هو عميد الأسرى عبد لله البرغوثي كان أعلنها "إما أن أذهب من القبر إلى القبر أو يتم إنهاء عزلي والسماح بزيارة عائلتي"، وقد بدأ المجاهد البرغوثي إضرابه عن الطعام في 12/4/2012.

بل ويجمع الأسرى الفلسطينيون هناك دائما بمنتهى الإصرار على "نعم للجوع.. ولا .. ألف لا للركوع"، ويعتبرونها معركة يخوضونها ضد سجانيهم الذين أوغلوا في إجراءات القمع والتنكيل والإقصاء والإلغاء، وهي في الوقت ذاته صراع إرادات وبقاء، في سياق مسيرة طويلة مديدة طولها بطول عمر الاحتلال، مسيرة مدججة بالملاحم والحكايات البطولية.

ويجمعون أيضا على أن "سنوات الأسر الطويلة لم ولن تكسر إرادتهم ولن تفت من عزائمهم، فبعد كل هذه السنوات الطوال يظل الأسرى عنوانا للصمود والتحدي وتنتصر إرادتهم على سجانيهم".
وقد وجه الأسرى في ملحمتهم الأخيرة رسائل متعددة المضامين والاتجاهات، منها للشعب الفلسطيني فحواها: أن المعركة مع الاحتلال مفتوحة، والمعركة في داخل المعتقلات مفتوحة أيضا، وأنها معركة  إرادات وبقاء، وأن الوحدة الوطنية الفلسطينية ما بين كافة القوى والفصائل هي السلاح الأقوى في مواجهة الاحتلال، وأن هذا الانقسام الفلسطيني الكارثي يجب أن ينتهي، وبدلا من الانشغال في ملهاته يجب العمل على استنهاض الحالة الشعبية المقاومة، ومن الرسائل الموجهة للرأي العام العالمي، أن الاحتلال الصهيوني يبقى احتلالا وليس دولة متنورة طبيعية في المنطقة، وأن على العالم والأمم المتحدة التحرك لإنصاف قضية فلسطين وإنهاء ملف آلاف الأسرى الفلسطينيين المرتهن للأجندات والمعايير الصهيونية.

سياسات الاعتقالات الجماعية التي نفذتها سلطات الاحتلال خلال الانتفاضة الفلسطينية الكبرى الأولى، كان لها الدور الكبير في بلورة الوعي الوطني الجمعي الفلسطيني تجاه الأسرى بوصفهم الطليعة المجاهدة 

في الوعي الجمعي الفلسطيني
إلى ذلك، وفي البعد الوطني الفلسطيني، فعلى قدر الأهمية والخطورة التي نظرت وما تزال فيها الدولة الصهيونية للأسرى الفلسطينيين، وعلى قدر الأهمية الإستراتيجية التي توليها لهم، بوصفهم  القيادة الطليعية للشعب الفلسطيني، وتستهدفتهم معنويا وسيكولوجيا بغية تحطيم صورتهم وإرادتهم ورمزيتهم للشعب والقضية، فتبنت في ذلك تلك السلطات على مدى عقود الاحتلال الماضية سياسة متشددة قمعية إقصائية سافرة إزاءهم، في الوقت الذي تبنت فيه معايير متشددة جدا في مساومات تبادل الأسرى والتحرير، على قدر ما احتلت قضية آلاف الأسرى الفلسطينيين في الوعي الجمعي الفلسطيني قمة الأجندة السياسية الوطنية الفلسطينية على الدوام، باعتبارهم نخبة وطليعة النضال الفلسطيني ضد الاحتلال.

ولعل سياسات الاعتقالات الجماعية التي نفذتها سلطات الاحتلال خلال الانتفاضة الفلسطينية الكبرى الأولى، وزج مئات آلاف الشباب والأطفال والنساء والشيوخ في معسكرات الاعتقال الصهيونية، كان لها الدور الكبير في بلورة الوعي الوطني الجمعي الفلسطيني تجاه الأسرى بوصفهم الطليعة المجاهدة المقاتلة المضحية من أجل تطلعات وأهداف الشعب الفلسطيني التحررية، ويجمع الفلسطينيون على امتداد الوطن المحتل على أن قضية أسراهم هي الأهم وهي التي تحظى بالأولوية العليا، وملفها هو الأخطر، فهم ليسوا مجرد أرقام يحملونها في المعتقلات، وكذلك ليسوا أشخاصا عاديين، وإنما هم جزء عضوي حيوي من الشعب الفلسطيني، وهم طليعته النضالية الجهادية، وأكثر من ذلك فهم في الحسابات الفلسطينية صناع النضال والتاريخ والتحرير والاستقلال العتيد!

ويوثق عيسى قراقع في هذا الصدد خلاصة التحامه بملف الأسرى قائلا "لقد أدرك قادة إسرائيل الإنجازات التي حققها الأسرى بتضحياتهم وعذاباتهم وملاحمهم خلال سنوات طويلة، ولذلك فالحرب من وجهة نظرهم هي حرب على الوطنية الفلسطينية، وعلى الوعي الوطني الفلسطيني الذي استفز الصحفي الإسرائيلي"ايال أراد" عندما وجد أن 70% من الفلسطينيين يعتقدون أنهم الأعلون، وأنهم المنتصرون، في حين أنه كان يرغب أن يكونوا الخائفين والمهزومين"، مما يفسر لنا في الوقت ذاته ما كانت مصادر إسرائيلية عديدة قد أشارت إليه قائلة "بدون مبالغة يمكن القول بأن الفئات الهامة من بين الطبقات الفاعلة في الانتفاضات الفلسطينية أو على الأقل الجزء الأكبر منها قد مرت عبر معسكر "أنصار 3″ في النقب الذي تحول إلى فرن صهر وطني فلسطيني يصهر ويبلور الكوادر الحية للانتفاضة".

وكما كان جنرالات الاحتلال وفي مقدمتهم إسحق رابين يقولون خلال الانتفاضة الأولى "إنهم يدخلون أطفالا بتهمة إلقاء الحجارة، ويتخرجون كبارا جاهزين لحمل الرشاشات وإلقاء القنابل".

استخلاصات
ومن الدلالات والملاحم والحكايات إلى الاستخلاصات الرئيسية المترتبة على مسيرة الإضرابات الملحمية المتصلة، وردا ربما جزئيا على جملة من التساؤلات المتعلقة بقضيتهم واستمرار اعتقالهم، وحول تحريرهم المعلق والمؤجل، ولماذا يبقى هؤلاء الأسرى في معتقلات الاحتلال، ولماذا تعجز القيادات والفصائل الفلسطينية عن تحريرهم بالكامل حتى الآن، ففي القناعات الفلسطينية  المتبلورة الراسخة على امتداد الفصائل والجماهير الفلسطينية فإنه لن يتم تحرير آلاف الأسرى إلا بالقوة فقط!

ناهيكم عن أن هناك الكثير أيضا من الاعترافات والشهادات الإسرائيلية على مختلف المستويات التي تقول صراحة إن "إسرائيل لا تفهم سوى لغة القوة"، وكما يوثق الكاتب الإسرائيلي جاكي خوجي-في معاريف- قائلا "إن التجربة علمت إسرائيل أنه بخلاف مفهومها عن نفسها، فإنها لا تفهم سوى لغة القوة، وهذه الحقيقة ثبتت من قبل الفلسطينيين".

فبالقوة فقط يمكن تحرير الآلاف من الأسرى!
وبالقوة وحدها يمكن تحرير شعب كامل يرزح تحت الاعتقال في معسكرات الاعتقال الجماعي الصهيونية!

فلسطين تشتعل في قضية الأسرى غضبا انتفاضيا, وتعلن حاجتها الملحة والعاجلة جداً إلى مواقف وطنية وقومية عروبية وإسلامية حقيقية وجادة، وليس إلى بيانات واستعراضات مخادعة!

إلى ذلك، فإن التوجه الفلسطيني لعرض قضية الأسرى على الأمم المتحدة وتدويلها، خطوة مهمة ولا شك وإن كانت متأخرة، ولكن تحتاج قضية الأسرى قبل ذلك إلى توافق كافة القوى السياسية الفلسطينية، حتى لا يكون لحالة الانقسام  الفلسطيني تأثيرات سلبية إجهاضية على مجريات تدويل القضية، كما تحتاج إلى إستراتيجية ورؤية واضحة للتعامل مع القضية دوليا، بحيث لا يتوقف الجهد الفلسطيني عند عرض القضية على الجهات الدولية ذات الشأن، بل يجب أن تكون هناك قدرة فلسطينية على مواصلة النضال دوليا من أجل قضية الأسرى، ما يحتاج أيضا إلى آليات عمل فلسطينية عربية دولية متناسقة، وهناك أيضا، على مستوى جمعيات ولجان الأسرى وحقوق الإنسان، يجمعون على ضرورة تدويل القضية، ما يحتاج إلى تجنيد وإسناد كافة جمعيات ومنظمات حقوق الإنسان على المستوى الأممي.

ولا يجوز للفصائل والقيادات الفلسطينية أن تترهل وتستكين بعد هذا الانتصار المرحلي للأسرى، فالمعركة الحقيقية هي من أجل تحريرهم واستعادة حرياتهم وعودتهم إلى بيوتهم وأسرهم وأطفالهم مكللين بإكليل النصر الكبير.

إن فلسطين تشتعل في قضية الأسرى غضبا انتفاضيا بركانيا يمتد من أقصاها إلى أقصاها، وتعلن حاجتها الملحة والعاجلة جداً إلى مواقف وطنية وقومية عروبية وإسلامية حقيقية وجادة، وليس إلى بيانات واستعراضات مخادعة! 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.