إصرار زرداري استشهاد أم انتحار؟

إصرار زرداري استشهاد أم انتحار؟ - الكاتب: عبد الغفار عزيز

undefined

خلفية القضية
حجج الفريقين
تبعات القرار

بضع ثوان حولت رئيس الوزراء الباكستاني من متهم إلى مدان. هي إحدى أقصر مدد الحبس في تاريخ القضاء المعاصر، لكنها ستغير مجرى التطورات السياسية في باكستان. توقع الكثيرون حكم الإدانة، بل إن رئيس الوزراء نفسه بدا من تصريحاته وكأنه يدفع الأمور إلى استصدار مثل هذا القرار.

اتفق العديد من المحللين السياسيين على أن حزب زرداري أراد أن يقدم على عملية "استشهاد" سياسية، ليخلق بذلك موجة تعاطف شعبي معه قبل موعد الانتخابات القادمة. فما هي خلفية هذا الحكم وما أسبابه وما تبعاته؟، وما هي التطورات الإقليمية التي تتأثر وتؤثر في مجريات الأمور في باكستان؟

بعد جلسات استماع متتالية نطق القاضي بالحكم قائلاً: "… في ضوء ما أوردناه من البنود الدستورية تثبت إدانة رئيس الوزراء بازدراء القضاء متعمداً، وتحكم المحكمة بجبسه مدة انتهاء هذه الجلسة". ساد قاعة المحكمة صمت مهيب، وبعد ثوان معدودة جلجل صوت القاضي مرة أخرى: "ترفع الجلسة". وغادر القضاة السبعة القاعة واحداً تلو الآخر. لم يدرك كثير ممن حضر الجلسة أبعاد وتبعات ما جرى، حتى رئيس الوزراء المدان نفسه سأل محاميه: ماذا حدث؟ فأجابه كبير المحامين بصوت حزين: إنك قد أدنت وعوقبت وأكملت مدة عقوبتك.

خلفية القضية
ترجع خلفية هذه القضية إلى يوليو/تموز عام 1998 عندما قدمت الحكومة السويسرية وثائق رسمية تؤكد أن آصف زرداري قام بعملية غسل أموال بعد أن حصل على عشرات الملايين من الدولارات من بعض الشركات الدولية مقابل عقود رسمية، وذلك أثناء فترة حكم زوجته بينظير بوتو ما بين 1993 و1996.

كان بإمكان برويز مشرف أن يدخل التاريخ من أوسع أبوابه بتسهيل عملية محاكمة زرداري, لكن إخلاله بسلم الأولويات وانصياعه التام للإدارة الأميركية حال دون ذلك

طالبت الحكومة الباكستانية آنذاك بفتح التحقيق في المحاكم السويسرية وبدأت المحكمة إجراءاتها. لكن انقلاباً عسكرياً حدث في باكستان بتاريخ 18 أكتوبر/تشرين الأول 1999 وتولى الجنرال برويز مشرف مقاليد السلطة وأصبح نواز شريف وبينظير بوتو خارج السلطة، بل خارج البلاد كذلك. وكثيراً ما كرر الجنرال تهديداته للاثنين، وقال إنهما لن يعودا إلى الساحة ولا إلى السياسة. فيما ظل الحبل على الجرار في المحاكم الوطنية والسويسرية.

كان بإمكان برويز مشرف أن يدخل التاريخ من أوسع أبوابه بتسهيل عملية المحاكمة وإنزال العقوبة على جميع رموز الفساد في الدولة. لكن إخلاله بسلم الأولويات وانصياعه التام للإدارة الأميركية حال دون ذلك. لقد فتح الأراضي والأجواء الباكستانية أمام القوات الغازية في أفغانستان، الأمر الذي ولد موجة غضب شعبي عارم ضده. وصل الجنرال إلى قاع التأييد الشعبي إلى درجة أنه أصبح عالة على حلفائه الأميركان.

وحتى ترد له الاعتبار أو تستبدله بزعامة سياسية مدنية، أقنعته الإدارة الأميركية بالجلوس وبالتحالف مع بينظير بوتو. وجرت محادثات سرية مطولة بينهما في أبو ظبي انتهت إلى توقيع وثيقة تسمى اتفاقية الوفاق الوطني National Reconciliation Order (أن.آر.أو). أصبحت الاتفاقية سارية المفعول من تاريخ 5 أكتوبر/تشرين الأول 2007، ونصت على إسقاط جميع القضايا ضد آلاف الشخصيات السياسية والعسكرية والبيروقراطية، سواء أكانت تلك القضايا مدنية أو سياسية، بل حتى وإن كانت جنائية شريطة أن تكون سجلت ما بين عاميْ 86 و99.

كان من أبرز المستفيدين من هذا السخاء البرويزي والأميركي المشترك، بينظير بوتو وزوجها زرداري، وزعيم طائفة المهاجرين ألطاف حسين المتورط في مئات قضايا القتل المتعمد. وهكذا وبجرة قلم واحدة سقطت آلاف القضايا، وأصبح الجناة أبرياء وتحول الأعداء إلى أصدقاء. وبعث المدعي العام القاضي (م) عبد القيوم رسالة إلى المحاكم السويسرية ليخبرها بعدم رغبة الحكومة الباكستانية في متابعة قضايا الفساد ضد بينظير وزرداري.

وهنا تجدر الإشارة إلى أن الاتفاقية السرية بين برويز مشرف وبينظير بوتو كانت تنص أيضاً على أن بوتو لن تعود إلى باكستان إلا بعد أن تكتمل العملية الانتخابية. فالجنرال كان يخطط لإجراء انتخابات وفق هواه. كان يريد أن يوزع المقاعد على الأحزاب السياسية المختلفة بصورة يبقى بها هو رمانة الميزان ويكمل دورة بل دورات رئاسية أخرى.

لم تلتزم بينظير بهذا البند من الاتفاقية، وعادت إلى البلاد وسط الأجواء الانتخابية. الأمر الذي أعطى نواز شريف أيضا ذريعة للعودة وتغيرت موازين اللعبة برمتها. ثم حدث اختلال سياسي آخر واغتيلت بينظير بعيد اجتماع انتخابي لها في راولبندي وسادت البلاد موجة كبيرة من التعاطف معها، أدت إلى فوز حزبها ومن ثم قفز زوجها زرداري إلى كرسي الرئاسة. بمعنى آخر أصبح زرداري أكبر المستفيدين من اغتيال بوتو.

لنعد إلى وثيقة إسقاط القضايا (أن.آر.أو)، بعد سقوط حكم الجنرال وكذلك عودة رئيس المحكمة العليا تشودري افتخار أحمد إلى منصبه، تقدمت شخصيات سياسية ومدنية عديدة إلى المحكمة بطلب إلغاء الوثيقة لأنها غير شرعية، وليس لها أي سند قانوني أو مبرر أخلاقي. وفعلا حكمت المحكمة بتاريخ 16 ديسمبر/كانون الأول 2009 بإلغاء الوثيقة واعتبرتها وصمة عار على جبين باكستان لابد من أن تزول.

حاول رئيس الوزراء أن يماطل ويكسب أطول فترة زمنية ممكنة لصالحه، ولكن عندما لم يجد بداً من مواجهة الحقيقة رفض الانصياع لقرار المحكمة رفضا صريحاً

كما أمرت المحكمة رئيس الحكومة بأن يكتب رسالة خطية إلى المحكمة السويسرية تثبت إلغاء رسالة المدعي العام آنفة الذكر، وتطالب بفتح ملف حسابات المدعو آصف علي زرداري الذي ثبت أنه يحتفظ في إحدى حساباته فقط بـ65 مليون دولار حصل عليها نتيجة عملية غسل أموال. إن فتح هذا الملف كان سيؤدي في النهاية بمطالبة باكستان باسترداد هذه المبالغ حتى وإن كان ذلك بعد حين.

منذ ذلك الوقت، أي منذ أكثر من عامين ونيف، تنتظر المحكمة تنفيذ قراراها وتطالب رئيس الوزراء بكتابة الرسالة ولكن دون جدوى. قبل أكثر من شهرين وجهت المحكمة تحذيراً شديد اللهجة إلى رئيس الوزراء، وأشارت إلى أنه برفضه أمر المحكمة يرتكب جريمة ازدراء القضاء، وأنه لو أدين بذلك بالفعل فسوف يواجه عواقب وخيمة.

حاول رئيس الوزراء أن يماطل ويكسب أطول فترة زمنية ممكنة لصالحه، ولكن عندما لم يجد بداً من مواجهة الحقيقة رفض الانصياع لقرار المحكمة رفضا صريحاً. وكانت حجته في ذلك أنه يتمتع بحصانة رئاسية، ولا يمكن لرئيس الوزراء أن يكتب رسالة ضد رئيس الدولة ورئيس حزبه. واعتبرت المحكمة حجج الحكومة داحضة وحكمت قبل أيام بما بدأنا به هذا المقال.

حجج الفريقين
بعد أن أدين رئيس الوزراء يوسف رضا جيلاني وقضى مدة عقوبته (32 ثانية) تفجر نقاش آخر بين القانونيين. فريق أكبر يقول إن الإدانة والعقوبة جعلته غير مؤهل لتولي أي منصب رسمي، بل حتى عضويته في البرلمان قد انتهت، وعليه أن يترك الكرسي فوراً، وينتظر خمس سنوات للمشاركة في أي عملية انتخابية أو لتولي أي منصب رسمي. ولا يزاول نشاطه السياسي إلا إذا غيرت المحكمة قرارها السابق.

يشاركهم هذا الرأي معظم قادة المعارضة منهم نواز شريف (زعيم حزب الرابطة المسلمة) وعمران خان (نجم لعبة الكريكيت السابق وزعيم حركة "الإنصاف") وسيد منور حسن (أمير الجماعة الإسلامية). بل أعلن هؤلاء القادة أنهم سوف يقومون بالمسيرات الكبرى لإسقاط حكومة جيلاني حال إصراره على التشبث بالسلطة.

ويرى هذا الفريق أن إدانة رئيس الوزراء واكتمال عقوبة الحبس لم يترك له مجالاً للبقاء في السلطة، ولا يحتاج الأمر إلى أي إجراء قانوني آخر حتى يترك منصبه. وإذا كان لابد من إصدار قرار صريح في هذا الصدد، فليصدر رئيس اللجنة الانتخابية قرارا بإلغاء عضوية جيلاني في البرلمان لينتهي الموضوع.

أما الموقف الحكومي فيتلخص في أن الرئيس زرداري يتمتع بالحصانة، ورئيس الوزراء برفضه كتابة الرسالة إلى المحاكم السويسرية لم يرتكب خطأ بل قام بإجراء دستوري بحت. أعلن محامو جيلاني أنهم سوف يتقدمون بالمرافعة، وأن رئاسة جيلاني قانونية حتى وإن أصرت المحكمة العليا على قرارها ورفضت طلب الاستئناف.

ويقول هذا الفريق إنه حتى في حالة إصرار المحكمة، فإن على رئيسة المجلس الوطني فهميدة ميرزا (إحدى أكثر أعضاء حزب الشعب وفاءً للرئيس زرداري) أن تنظر إلى القضية وتقرر هل ينطبق على جيلاني بند 63 من الدستور أم لا. علماً بأن البند 63 ينص على موانع الترشيح، ومن بين هذه الموانع أن يكون الشخص مداناً. وكان الفريق الحكومي يعتمد كثيراً على صلاحيات رئيس الدولة في إعفاء المدانين وإسقاط عقوباتهم. إلا أن المحكمة لم تترك لهم فرصة لذلك، إذ لم تتجاوز مدة إعلان العقوبة واكتمالها 32 ثانية فقط لا غير.

لو كان هناك حزب يحترم فعلاً المبادئ الديمقراطية والأخلاقية، وأدين رئيس وزرائه كما أدين جيلانى، لما تأخر ثانية عن تقديم استقالته

تبعات القرار
لو كان هناك حزب يحترم فعلاً المبادئ الديمقراطية والأخلاقية، وأدين رئيس وزرائه كما أدين جيلاني، لما تأخر ثانية عن تقديم استقالته. وهناك أمثلة كثيرة في العالم وحتى في باكستان استقال فيها المحكوم عليهم فور صدور القرار ضدهم.

فهذا وكيل وزارة القانون الباكستاني السيد سونيل سن (وكان مسيحيا) عوقب بنفس العقوبة أي الحبس إلى أن ترفع الجلسة. خرج من قاعة المحكمة وقدم استقالته، وبذلك كسب احترام الشارع والتاريخ بعد أن فقد القضية في المحكمة.

تعرف حكومة زرداري أن القانون والمبادئ الأخلاقية لا تساندها، وتعرف أن القضية الأساسية ليست ضد رئيس الوزراء جيلاني بل ضد الرئيس زرداري، وضد أمواله غير القانونية في البنوك السويسرية. لذلك قرر زرداري أن يحول القضية برمتها إلى صراع سياسي وعرقي.

فبعد ساعات من صدور القرار الأخير، شهدت المناطق الداخلية في ولاية السند مسقط رأس بوتو مظاهرات عنيفة أحرقت فيها الإطارات، وخرج فيها المسلحون يجبرون أصحاب المحال التجارية على إغلاق محلاتهم. وأصدر مسؤولو الحزب ووزراء زرداري تصريحات نارية ضد القضاء، وقالوا إن المؤسسة القضائية تحمل الضغائن ضد عائلة بوتو السندية وحزبها السياسي، وإن القضاء كان قد أصدر قرار الإعدام شنقا ضد ذو الفقار علي بوتو، ثم حاكم ابنته بينظير وزوجها، والآن يريد أن ينال من حكومة زرداري.

يريد الرئيس زرداري -بنداءات النجدة هذه- أن يثير في سكان ولاية السند العصبية العرقية، كما يريد أن يهدد مؤسسات الدولة بأنه يملك بطاقة السند في يده، ويمكن أن يستغلها في أي وقت يريد إشعال نار الاضطراب في الولاية.

إن رفض رئيس الوزراء ورئيس الدولة الانصياع لقرار المحكمة وتشبثهما بالسلطة سوف يثيران أحزاب المعارضة ويخرجانها إلى الشارع، كما أعلن نواز شريف وعمران خان وسيد منور حسن الخروج في المسيرات الشعبية ومحاصرة البرلمان إلى أن يستقيل جيلاني من منصبه.

من جانبهم أعلن قادة الحزب الحاكم أنهم سوف يردون الصاع صاعين، وسوف يلقنون المعارضة درساً لن تنساه. وهذا يعني أن البلد -الذي لا تنقصه الأزمات الأمنية والسياسية وكذلك الخارجية- يريد الحزب الحاكم أن يولد فيه تطاحناً سياسياً ينسى فيه الشعب القضاء والازدراء والحسابات السويسرية.

لكن الاحتمال الأقوى هو أن يضطر جيلاني في النهاية إلى الاستجابة لأمر القضاء ويخرج من السلطة، وينتخب رئيس وزراء جديدا، وتبدأ لعبة القطة والفأر من الصفر: المحكمة تطالب بكتابة الرسالة إلى سويسرا، ويرفض ذلك الحاكم الجديد أيضا، وتبرز إلى الساحة قضية ازدراء جديدة وإدانة جديدة وصراع وغموض جديد.

التحدي الأساسي والأبرز أمام زرداري هو تحدي الانتخابات الجديدة. هذه هي السنة الأخيرة من عمر البرلمان ولابد من إجراء الانتخابات نهاية العام الجاري أو بداية العام المقبل. استطاع زرداري إلى الآن أن يجمع أحزابا متعارضة ومتصارعة فيما بينها تحت عباءة حكومته بفضل توزيع الحقائب الوزارية.

الصراع المتزايد مع المحكمة، ووقوف أحزاب المعارضة مع قرارات المحكمة، يجعلان مهمة زرداري في الحفاظ على التحالف الحاكم مهمة صعبة. والوقوف إلى جانب القضاء يقرب بين الأحزاب المعارضة، ويجمعها حول هدف واحد وهو التخلص من زرداري. والأسابيع القليلة المقبلة حاسمة في هذا الصدد، فسوف تتكثف فيها الاتصالات السياسية، وقد تتبلور خريطة التحالفات السياسية في الانتخابات المقبلة.

تريد الإدارة الأميركية إعادة الأمور إلى نصابها، وبما أن سفينة حكم زرداري تغوص في الوحل فإن الأخير يمكنه تقديم تنازلات أكثر وأكثر

هناك عامل أساسي ومهم آخر في هذه القضية، وهو موقف الولايات المتحدة الأميركية والمجتمع الدولي. لم تأبه الإدارة الأميركية بقرار المحكمة، وأجرى كبار المسؤولين الأميركيين مباحثاتهم مع رئيس الوزراء ومع الرئيس زرداري. الجميع يعلم أن العلاقات الأميركية الباكستانية تشهد توتراً شديداً بعد اغتيال 24 ضابطا وجندياً باكستانياً على أيدي القوات الأميركية.

تريد الإدارة الأميركية إعادة الأمور إلى نصابها، وبما أن سفينة حكم زردارى تغوص في الوحل فإن الأخير يمكنه تقديم تنازلات أكثر وأكثر. لكن بيت القصيد هنا هو أن فاقد الشيء لا يعطيه.

حكومة زرداري نفسها قد لا تملك ما تطلبه الإدارة الأميركية منها، خاصة ما يتعلق بقضايا الدفاع والعلاقات مع دول الجوار. فهل هذا يعني أن عملية الاستشهاد السياسي من حكومة زرداري تتحول إلى عملية انتحارية بحتة. سؤال سيجيب عليه المستقبل القريب، وربما بنعم كبيرة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.