مسيرات العودة نقطة تحول إستراتيجي

العنوان: مسيرات العودة نقطة تحول إستراتيجي

undefined 

زحف الملايين باتجاه فلسطين
إحياء الذاكرة والعودة إلى البدايات
ثقافة العودة والتحرير

ربما لم تقلق الدولة والمؤسسة الصهيونية في تاريخها على وجودها ومستقبلها، بقدر ما قلقت وما تزال من مسيرات العودة الفلسطينية عبر الحدود العربية مع فلسطين. فهي نقطة تحول إستراتيجي مرعب في تاريخ الصراع من وجهة نظر صهيونية، بل إنها من شأنها أن تشكل تهديدا وجوديا حقيقيا للدولة الصهيونية، إذا ما تواصلت وتكرست في الفكر والنهج والعمل، ومن شأنها أيضا من وجهة نظر فلسطينية عربية إستراتيجية أن تقود إلى تحرير فلسطين من بحرها إلى نهرها إذا ما اجتمعت الأمة والقوى المجاهدة المناضلة وراءها.

ففي المشهد المتبلور في ظل الثورات العربية، تجمع المؤسسة الصهيونية الاستخبارية الأمنية السياسية الإعلامية في إطار تقديراتها الإستراتيجية، على أن ما كان سائدا قبل هذه الثورات في خريطة الصراع لن يكون ما بعدها، وفي المشهد الفلسطيني تحديدا، كانت مسيرات العودة التي انطلقت من الجبهات العربية باتجاه حدود فلسطين المحتلة، هي الأبرز والأخطر، وتتوقع التقديرات الصهيونية أن تتواصل هذه المسيرات في المناسبات والسنوات الفلسطينية القادمة، من النكبة إلى النكسة إلى يوم التضامن مع الشعب الفلسطيني وغيرها.

زحف الملايين باتجاه فلسطين
هم -في الكيان الصهيوني- لم يتوقعوا كل هذه التطورات والتداعيات الإستراتيجية المترتبة على الثورات العربية أبدا، لذلك نجدهم في حالة متفاقمة من إعادة الحسابات والتقديرات والإستراتيجيات، ونجدهم على نحو خاص، يتحدثون عن أبحاث ودراسات إستراتيجية عاجلة تبحث في قضية واحدة: كيف ستواجه إسرائيل مستقبلا زحفا شعبيا عربيا ملايينيا؟

والمسألة هنا ليست إعلامية استهلاكية عابرة، وإنما هي بمنتهى الجدية والأهمية، وإن كانت مسيرات العودة التي انطلقت في الثلاثين من مارس/آذار الماضي بمناسبة يوم الأرض لم ترتق إلى المستوى المخطط والمنشود، بل إنها كانت تحت خط التوقعات الصهيونية، فإن ذلك لا يعني شطبها من جدول الأعمال الصهيوني، فالمؤسسة الصهيونية تتعامل مع هذه الظاهرة بقلق متفاقم، فعلى قدر تصاعدها مع الأيام والسنوات القادمة، على قدر ما يتزايد القلق الصهيوني منها ومن تداعياتها.

الرعب الصهيوني من الزحف الملاييني الفلسطيني العربي، الذي أطلقه حاخام يهودي، يمتد إلى كل المؤسسات الصهيونية، التي تبث قلقا حقيقيا من احتمالية تطور وتواصل مسيرات العودة المليونية عبر الحدود

الأمر الذي حذر منه حاخام يهودي قائلا "أيها اليهود.. أنتم تعلمون أن المنطقة حولنا تهتز بقوة، وإذا كان بفكركم أن الثورات بعيدة عنا، وسنبقى نتفرج من بعيد، فأنتم مخطئون، وليكن لكم في العلم أنه إذا تغير الحكم وكان إسلامياً في العديد من الدول العربية فستكون مشكلة كبيرة للغاية"، مضيفا خلال لقاء مع عدد من طلاب المدارس الدينية في تل أبيب والقدس: "من منكم يذكر عندما قلت لكم ماذا سنفعل إذا قررت الملايين أن تزحف إلى إسرائيل.. طبعا من المعروف أن حوالي نصف مليار مسلم يعيشون حولنا في المنطقة العربية، ورأيتم أن الجيش الإسرائيلي يعجز عن كبح أقل من نصف مليون.. فماذا سنفعل إذا!!"، محذرا: "إن مظاهرة مليونية واحدة في مصر بلغ عددها الملايين، وقالوا خلالها إنهم يريدون الزحف إلى القدس مشيا على الأقدام حتى يحرروها"، مختتما بقلق واضح: "ماذا إذا زحفت الملايين من الضفة الغربية وباقي الحدود وهم يرددون: الموت لإسرائيل.. الموت لليهود.. وللقدس رايحين شهداء بالملايين".

وهذا الرعب الصهيوني من الزحف الملاييني الفلسطيني العربي، الذي أطلقه هذا الحاخام اليهودي، يمتد إلى كل المؤسسات الصهيونية، التي تبث قلقا حقيقيا من احتمالية  تطور وتواصل مسيرات العودة المليونية عبر الحدود المتاخمة لفلسطين المحتلة.

ويعود هذا القلق والرعب الصهيوني من مسيرات العودة، حسب وثيقة صهيونية هامة جدا كشف المؤرخ الإسرائيلي توم سيغف النقاب عنها في صحيفة هآرتس، إلى عام 1965، فكتب تحت عنوان: "ماذا لو تحرك مئات آلاف اللاجئين دون سلاح باتجاه الحدود؟"، مضيفا: "في أعقاب إطلاق الصواريخ من قطاع غزة إلى سديروت، ترتفع الأصوات التي تطالب بمعاقبة سكان القطاع، وحتى إبعاد عدة آلاف منهم من المناطق الحدودية، إلا أن هناك بالطبع إمكانية مقلوبة، لم يقم أحد بفحصها، وتتمثل في تحرك مئات آلاف الفلسطينيين سيراً على الأقدام باتجاه الحدود، ويقومون بـ"تحطيم السياج والمعابر والأسوار ويدخلون إلى إسرائيل في مظاهرة ضخمة لمواطنين غير مسلحين"، ويبدو أن هذا الاحتمال لم يأت من فراغ، فقد سبق أن ناقش احتمالا مماثلا رئيس الحكومة الإسرائيلية في حينه، ليفي أشكول، قبل حرب 1967".

ويوضح سيغف "إنه قبل حرب 1967، بسنتين بالضبط، أبدى رئيس الحكومة ووزير الأمن في حينه، ليفي أشكول، تخوفاً من إمكانية حصول أمر كهذا، وقد جرى النقاش في جلسة الحكومة الأسبوعية مع قادة الأجهزة الأمنية، في الرابع من يونيو/حزيران 1965″، ويردف: "افتتح أشكول الجلسة في حينه بالسؤال: "كم هو عدد اللاجئين؟ ماذا يأكلون؟ وما هو وضع الهجرة؟"، وقال أشكول "إنه يعتقد طوال الوقت بأن قضية اللاجئين هي "عقب أخيل" بالنسبة لإسرائيل"، وتساءل: "ماذا نفعل لو قاموا ذات يوم بدفع النساء والأطفال إلى الأمام؟"، وعندها رد عليه رئيس هيئة أركان الجيش في حينه، يتسحاك رابين: "إذا لم يقوموا بذلك حتى الآن، فهم لن يفعلوا ذلك.. وبعد قتل مائة منهم، فإنهم سيتراجعون"، ويبين سيغف أن أشكول لم يقتنع، وقال: "إنهم يتكاثرون بسرعة".

ولم يكذب الزمن تنبؤات أشكول، فالفلسطينيون يتكاثرون بسرعة، فقد أصبح عددهم اليوم نحو اثني عشر مليونا، بعد أن كانوا آنذاك عشية النكبة الفلسطينية نحو مليون ونصف المليون، وأصبح عدد اللاجئين اليوم نحو ستة ملايين لاجئ، بعد أن كانوا غداة النكبة نحو ثمانمائة ألف لاجئ.

إحياء الذاكرة والعودة إلى البدايات
وما بين عهد أشكول في ذلك العام قبل سبعة وأربعين عاما، وعهد نتنياهو اليوم، نتابع كيف يتحول هذا الكابوس -الزحف الملاييني- في ظل الثورات والانتفاضات الشعبية العربية إلى حقيقة على الأرض.

غازيت:
بدأت حرب التحرير الفلسطينية، حيث تشكل المسيرات من أجل تحقيق حق العودة مرحلة جديدة في الصراع الفلسطيني ضد إسرائيل

والذي كان تخوف أشكول منه آنذاك يعود ليحتل المشهد السياسي الإستراتيجي الإسرائيلي اليوم. والذي حذر منه أشكول آنذاك، أخذوا يحذرون منه اليوم صراحة أمام وسائل الإعلام، وأخذ الاحتلال الصهيوني يخشى أن تتحول مسيرات العودة واجتياز الحدود إلى عمل مبرمج ومنهجي ومستمر.

والذي راهنوا عليه آنذاك -يموت الكبار وينسى الصغار- لم يتحقق لهم، فأخذ عشرات الآلاف -وربما مئات الآلاف والملايين مستقبلا- من الشباب يزحفون… وقرروا أن يواصلوا الزحف مستقبلا، ليفتحوا بذلك ملفات الصراع كلها على مصراعيها وليعيدوا القضية إلى بداياتها.

فقد فتحت مسيرات العودة الفلسطينية التي انطلقت عبر الحدود، ملفات النكبة والصراع لتعيدنا إلى الوراء، إلى ما قبل أربعة وستين عاما، وإلى ما قبل أربعة وأربعين عاما! فأخذوا يتحدثون عن العودة إلى بدايات الصراع، وعن أن القضية المتفجرة دائما هي قضية اللاجئين، وأن لا حل سياسيا أبدا طالما لم يتنازل الفلسطينيون عن: حق العودة..!

بل إن الجنرال في الاحتياط، شلومو غازيت، رئيس سابق للاستخبارات العسكرية وللوكالة اليهودية، قال: "لقد بدأت حرب التحرير الفلسطينية، وتشكل المسيرات من أجل تحقيق حق العودة مرحلة جديدة في الصراع الفلسطيني ضد إسرائيل"، بينما رأى المحلل البارز إيتان هابر، في يديعوت أحرونوت "أنّ يوم الأحد، الخامس عشر من مايو/أيار دخل إلى التاريخ"، وعبّر هابر عن قلقه البالغ من "قيام الفلسطينيين والدول العربيّة باللجوء لأوّل مرّة في تاريخ الصراع بين الصهيونيّة والحركة الوطنيّة الفلسطينيّة لسلاح الكم، الذي سيتحول عاجلا أم أجلا إلى سلاح نوعيّ، ستستصعب الدولة العبريّة مجابهته"، مؤكدا "أنّ مسيرات العودة تعتبر وبحق بداية عهد جديد في الصراع بين إسرائيل والعرب".

أما المحلل جدعون ليفي فكان الأعمق في التعبير عن التداعيات الإستراتيجية لمسيرات العودة، فكتب في هآرتس تحت عنوان: "عودة إلى 1948″، يقول: "لقد أُثيرت سنة 1948 في برنامج العمل اليومي، كان اختراق السور في الجولان كافيا لاختراق سور معقد أقدم كثيرا، فأعاد اختراقه عام 1948 إلى مركز النقاش السياسي، كنا ما نزال نثرثر ونتكلم حول 1967، لكن من لم يُرد 1967 يتلقى الآن 1947، ومن لم يُرد إخلاء إريئيل، سيضطر إلى الحديث الآن عن كرمئيل، ومن لم يُرد مصالحة تاريخية يتلقى الآن ملف 1948 على بابه".

بينما اعتبر الباحث الصهيوني روبين باركو، "أن الفلسطينيين بدؤوا باعتماد إستراتيجية جديدة أثبتت نجاحها في الدول العربية، تكمن في تحويل "إسرائيل" كلها إلى "ميدان تحرير" من خلال فكرة "السلسلة البشرية"، في حين كتب أهارون برنيع في يديعوت أحرونوت "أن اللاجئين الفلسطينيين تحركوا باتجاه الحدود وهم يحملون أعلام فلسطين، ويطالبون بالعودة إلى بلداتهم التي هجّر منها آباؤهم عام 1948، لقد خرجوا واثقين من أن المشروع الصهيوني سوف ينهار، وأن دفعة صغيرة سوف ستجعل من "إسرائيل" كلها فلسطين".

ثقافة العودة والتحرير
الواضح إذن في ضوء هذا الكم من التحليلات والتقديرات الإستراتيجية الصهيونية، أن الدولة والمؤسسات الصهيونية المختلفة تبث قلقا حقيقيا من مسيرات العودة إذا ما تصاعدت وتعززت وانتشرت عبر كافة الجبهات العربية، فهذا الذي حصل على الجبهات الحدودية لم يرد في تقديرات استخباراتهم، كما لم يرد في حسابات محلليهم وساستهم، فهم فوجئوا من هذا الزحف الشبابي الفلسطيني العربي من كافة الجبهات باتجاه الوطن المحتل، كما كانوا فوجئوا قبل ذلك من الثورات العربية التي زلزلت الإستراتيجيات الصهيونية وموازين الشرق الأوسط على نحو اعتبروه نقطة تحول في الشرق الأوسط.

عمليات الترحيل الجماعي العربي القسري عبر سياسات التطهير العرقي من فلسطين إلى المحيط العربي، تتحول بعد أربعة وستين عاما إلى مسيرات عودة مليونية تبشر بالتحرير والعودة

وهم -أي في الكيان الصهيوني- إن كانوا أخذوا يعيدون حساباتهم للتعامل مع شرق أوسط جديد بأنظمة عربية جديدة من نتاج ثورات الشعوب العربية، فالمسيرات الجماهيرية باتجاه حدود فلسطين المحتلة قلبت حساباتهم التي بنوها على امتداد أربعة وستين عاما كاملة من عمر النكبة والدولة الصهيونية، إذ بنوا سياساتهم دائما على مقولتهم المشهورة "الكبار يموتون والصغار ينسون"، ليفاجؤوا بأن هؤلاء الصغار ليس فقط لم ينسوا، وإنما هم الذين يقودون مسيرات العودة، ليعيدوا القضية والنكبة إلى بداياتها، وإلى بدايات الصراع.

ففلسطين تعود إلى الذاكرة وإلى الوعي الجمعي العربي، وفلسطين تعود إلى مركزيتها التي كانت عليها إبان المد القومي العروبي، وفلسطين تعود اليوم وغدا وبعده لتغدوا قضية العرب الأولى والمركزية، وفلسطين تعود قريبا جدا في ظل الثورات العربية الشعبية لتحتل مجددا قمة الإستراتيجيات والأجندات السياسية العربية.

لقد غذت الثورات العربية ومسيرات العودة بزخمها وثقلها ثقافة العودة والتحرير، فبعد أن كنا على مدى العقود الماضية من الصراع، في ظل معادلة "تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة"، فقد بتنا في أعقاب الثورات والمسيرات في ثنائية متماسكة من الآن فصاعدا "تفاؤل العقل والإرادة معا".

فعمليات الترحيل الجماعي العربي القسري عبر سياسات التطهير العرقي من فلسطين إلى المحيط العربي، تتحول بعد أربعة وستين عاما إلى مسيرات عودة مليونية  تبشر بالتحرير والعودة الجماعية، لتعود البلاد التي قيل "إنها أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" إلى أصحابها وأهلها وشعبها، ولتستقيم المعادلة مرة أخرى بأن فلسطين أرض عامرة لشعب عريق في التاريخ والحضارة والتراث.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.