في لبنان الشعب يريد إسقاط النظام

في لبنان الشعب يريد إسقاط النظام



بينما تمور البلدان العربية كلها بثورات لإسقاط النظام، تبدو الطبقة السياسية والنخبة الثقافية في لبنان خارج التاريخ في بلد منسي أو مؤجل. والغريب أنه كلما انسدّت شرايين الحياة في النظام وتعطلت مجاري الهواء في سلطة الحكم، تمسّكت الطبقة السياسية والنُخب بمخيال نظام ما فتئ يتفسّخ يوما بعد يوم منذ ولادته عليلاً عام 1943.

فالدستور الناظم للنظام السياسي بات مهترئاً غير قابل للترقيع. ومؤسسات الدولة أصبحت عبارة عن أوكار مليشيات متحاربة، وهيئات الدولة وإداراتها مرتع للنهب والفساد.

"
باتت الطبقة السياسية في لبنان أعجز من أن تحكم، وإن نجحت أحياناً بمعجزة تأليف حكومة من الحكومات فهي أعجز من أن تحفظ ماء وجهها
"

وباتت الطبقة السياسية أعجز من أن تحكم، وإن نجحت أحياناً بمعجزة تأليف حكومة من الحكومات فهي أعجز من أن تحفظ ماء وجهها. والناس على وجوههم هائمون يتوقون إلى هدنة يلتقطون فيها أنفاسهم دون أمل ما بقيت السلطة محل الدولة والشأن العام.

وعلى الرغم من هذا الخراب، تكاد تُجمع الطبقة السياسية ونُخبها الثقافية على أن المسّ بالنظام السياسي تخريب لـ"تعايش أخوي" أسطوري إلى حد الخرافة. والأدهى أن معظم هذه الطبقة والنُخب يرى نفسه مرآة لبعض الثورات العربية في إسقاط أنظمتها، أو يتبجّح، دون وجل، بسبقه الشعوب العربية الثورة على الاستبداد من أجل الحرية والديمقراطية.

والحقيقة أن هذا البلد ظلّ ميزان حرارة المنطقة العربية وقلبها النابض، حتى هزيمة الحركة الوطنية اللبنانية الفلسطينية في الحرب الأهلية. وقد كانت الهزيمة القاسية هزيمة سياسية قبل أن تفضي إلى هزيمة عسكرية في الوصاية السورية ثم في الاحتلال الإسرائيلي عام 82.

فالبرنامج المرحلي الذي وضعته الحركة الوطنية في واجهة الحرب الأهلية لإصلاح النظام، هو في عمقه مشروع إصلاح للسلطة تحت سقف النظام، يتيح للطبقة السياسية أن تهزمه بحرب أهلية طائفية.

وقد هزمت الحرب الأهلية مشروع إصلاح السلطة، قبل التدخل السوري ثم الاحتلال الإسرائيلي لإعادة تركيب سلطة جديدة بين الجماعات الطائفية. وكان من مآثر "البرنامج المرحلي" أن أصبح إلى اليوم كل حديث في إصلاح النظام هو حديث في إصلاح السلطة تحت سقف النظام يحمل في طياته مشروع حرب أهلية طائفية.

وتحت جناح الوصاية السورية قضت السلطة الجديدة التي شاركت فيها بعض أحزاب الحركة الوطنية المهزومة، على بقايا هيكل مؤسسات الدولة وإداراتها. فبين عامي اتفاقية الطائف التي أعادت تركيب السلطة وانسحاب القوات السورية من لبنان عام 2005، أعادت السلطة الجديدة تجديد نظام سياسي على أبشع صوره في تبعيته إلى إستراتيجيات دول "المجتمع الدولي"، وأعادت تجديد سلطة على أبشع صورها في التقسيم المناطقي والتفتيت الطائفي كي يتسنّى لها التسلّط على الجماعات الطائفية وعلى الثروة الوطنية والشأن العام.

والنظام الذي تأسس عام 43 على أساس "انفتاح" بوابة الترانزيت وساحة العبور بين المنطقة العربية و"المجتمع الدولي"، قفز في هذه الفترة قفزة غير مسبوقة في "الانفتاح" على دول "المجتمع الدولي" والتبعية إلى إستراتيجياتها ومصالحها.

وقد استندت هذه الدول في توطيد تبعيتها "الفكرية" ثم السياسية إلى سياسة "إعادة الإعمار" والاستثمار بالديون، وهي العصا السحرية التي استندت إليها في كل مكان قبل ولادة البنك الدولي ونادي باريس وبعدها.

ورافق الاستثمار بالديون وخدمات الديون في لبنان، مثلما رافقها في كل مكان، منظومة "قيَم" في استهلاك أفكار التبعية ومنظومة "إصلاحات هيكلية" لتحرير الطبقة السياسية ورجال الأعمال من قيود مؤسسات الدولة والإدارات العامة في النهب وتعميم الفساد.

وقد توزعت السلطة والوصاية السورية حسب مغانم التبعية ومنافع "الإصلاحات الهيكلية" بأن تحولت إدارات الدولة والثروة العامة إلى ملكيات خاصة. وبات لكل من أطراف السلطة جماعة عصبية وطائفية تنشد التعايش تحت سقف النظام في احتراب دائم على توزيع مغانم التبعية من الثروة الخام. وباتت كل جماعة في مواجهة الأخرى في مدارسها ووسائل إعلامها ومستشفياتها وتجّارها ومصارفها، ومندوبيها في مجلس النواب والوزارات وفي القضاء والإدارات العامة.

وبات لكل منها أيضا "صندوق" من الميزانية العامة…. وإقطاعيات أرض و"شعب" ومليشيات وجمعيات خيرية ورجال دين. وقد تموّنت سلطة المغانم وتغذّت من نظام "الانفتاح" في الديون وتوزيع الثروة الخام، وفي "الإصلاحات الهيكلية" التي أتاحت لها تحطيم بقايا هيكل الدولة الجامعة للمصالح والطموحات المشتركة.

والمفارقة أنه طيلة هذه الفترة وبموازاة تحطيم بقايا هيكل الدولة في "الانفتاح" على التبعية، كانت المقاومة تحقق الإنجاز تلو الإنجاز في تحرير الأرض من الاحتلال الإسرائيلي. ونجحت المقاومة منذ عام 2000 في بناء توازن الرعب وهو أساس سياسة دفاعية وسياسة خارجية لدولة مستقلة عن التبعية إلى إستراتيجيات دول "المجتمع الدولي".

لكن المقاومة لم تولِ أهمية إلى ثقافة "الانفتاح" وإلى التبعية الاقتصادية و"الإصلاحات الهيكلية" في إستراتيجية دول "المجتمع الدولي" لجرّ السلطة في مصالحها الخاصة نحو التبعية السياسية. فهي تعتبر كما يعتبر كثيرون أنه يمكن تجاوز آثار التبعية الاقتصادية بالتفاهم الداخلي والإقليمي حول توازنات السلطة.

كما لم تولِ المقاومة أهمية إلى آثار تحطيم بقايا هيكل الدولة في تعفّن التفتيت الطائفي وارتداده إلى صدر المقاومة. فهي تعتبر مثل كثيرين أن الجماعات الطائفية يمكن أن تنظّم "تعايشها الأخوي" فيما بينها "دون تدخّل دولي" سواء حطّمت السلطة هيكل الدولة أم حطّمها.

"
فوّتت المقاومة فرصة العمل على إصلاح النظام من أجل إعادة بناء الدولة مرتين على الأقل: الأولى عام 2000 إثر دحر الاحتلال. والثانية عام 2006 إثر دحر العدوان الإسرائيلي
"

ولأنها تعتقد مثل غيرها أن الحديث في إصلاح النظام هو حديث في إصلاح السلطة. وتعرف أن إصلاح السلطة في لبنان هو مشروع حرب أهلية طائفية، فوّتت المقاومة فرصة العمل على إصلاح النظام من أجل إعادة بناء الدولة مرتين على الأقل: الأولى عام 2000 إثر دحر الاحتلال. والثانية عام 2006 إثر دحر العدوان الإسرائيلي.

والسلطة في لبنان هي مثل باقي السلطات العربية الاستبدادية، محل الدولة ومحل الإدارات العامة ومحل النظام والتاريخ والجغرافيا والماضي والمستقبل، إلا أنها في لبنان سلطة عائلات عدّة، ولهذا تُسمى "تعددية ديمقراطية" فريدة ومميزة. وهي في لبنان تتيح حرية التعبير وخاصة حرية التحريض الطائفي وتتيح نسبياً حرية الاختيار لكنها كما سلطة العائلة الواحدة في البلاد العربية تُمسك بالقرار دونه الموت.

وقد كفلت العائلة الواحدة الاستبدادية "استقرار" السلطة من شرّ الانقلابات العسكرية في إلغاء الجيوش إثر هزيمة 67. وكفلته في احتكار العائلة الحاكمة كل سلطان، تحت رعاية الجيوش الخاصة من أصناف الأجهزة الأمنية الداخلية والخارجية.

وكفلته كذلك في احتكار سلطة العائلة شراء النفوذ والولاء في توزيع الثروة الخام الناتجة عن التبعية إلى منظومة "المجتمع الدولي". لكن سلطة "التعددية الديمقراطية" في لبنان تكوّنت على احتراب دؤوب فيما بينها لشراء الولاء والنفوذ في اقتسام وتوزيع الثروة الخام الناتجة عن التبعية إلى منظومة "المجتمع الدولي".

فهي تأكل من بعضها بعضا ثروة خاما جامدة لا يمكن توزيعها إلاّ احتراباً قابلاً للمزيد من الشيء نفسه. فهذه الثروة الخام هي مبعث الاحتراب من أجل تعيين المسؤولين في الإدارات العامة وفي توظيف الموالين.

وفي ما تسميه السلطة "خدمات اجتماعية" لشراء الولاء والنفوذ. وفي ما تسميه "الإنماء المتوازن" بين المناطق حيث الجماعات الطائفية أسيرة توزيع فُتات السلطة. وهي كذلك مبعث الاحتراب حول ما تسميه أطراف السلطة "عدالة التمثيل"، أو صلاحيات رئاسة الجمهورية مقابل صلاحيات رئاسة الحكومة، أو صلاحيات هذا الوزير مقابل صلاحيات ذاك الوزير والمدير.

واقتسام الثروة الخام الناتجة عن التبعية إلى منظومة "المجتمع الدولي"، هو مبعث احتراب الجماعات الطائفية والمذهبية والعائلية في أسباب معاشها وطموحاتها. فمنظومة التبعية أسّست في لبنان وفي كل مكان نموذجاً يقضي على أي نموذج آخر لإنتاج ثروة مشتركة تهذّب غلواء الجماعات العصبية وتضطرها إلى نسج منظومة حياة من المصالح المتداخلة والطموحات الوطنية.

كما أن التبعية إلى منظومة "المجتمع الدولي" هي مبعث الاحتراب العصبي في انقسام السلطة والطبقة السياسية إلى فريقي 8 و14 آذار حول سلاح المقاومة والسياسة الخارجية والمحكمة الدولية، وحول تعزيز سيطرة السلطة محل إعادة بناء الدولة.

فالفريق "الاستقلالي" يجاهر بأن "العبور إلى الدولة" هو انتقال من الوصاية السورية إلى إعادة انتداب "المجتمع الدولي" على بقايا مؤسسات الدولة في: السياسة الخارجية التي تأخذ بثقافة التبعية إلى سياسات وإستراتيجيات "المجتمع الدولي" في السلام والديمقراطية.

وفي السياسة الدفاعية التي توكل أمر الدفاع عن استقلال الدولة إلى مجلس الأمن في نبذ عنف وتشريع عنف آخر. وفي السياسة الاقتصادية تحت إشراف البنك الدولي ونادي باريس في ازدهار السمسرة وعمولات الريع.

وفي إعادة انتداب القضاء الدولي إلى سلطة القضاء الوطني في التحقيق والاتهام. وفي ثقافة الاستهلاك والديون والنهب والفساد "لتشجيع" سطوة المال والأعمال. وفي مقابل هذا الفريق نأت المقاومة بنفسها عن المساهمة في تغيير النظام من أجل إعادة بناء الدولة حيث القاسم المشترك الأعلى للمصالح والطموحات الوطنية السياسية والاجتماعية.

وعلى مدى عقدين اعتقدت المقاومة أن تمدّد نموذج التبعية الاقتصادية في "إعادة الإعمار" لا يؤسس إلا تبعية سياسية في السعي لإزالة سلاح المقاومة. وهي ما زالت تعتقد بإدارة الأزمة تحت سقف النظام دون تغيير في أسس منظومة التبعية الاقتصادية المولّدة للتبعية السياسية.

وفي نأيها بنفسها عن المساهمة في تغيير النظام أتاحت المقاومة تسليم رقاب الناس والجماعات إلى سلطة التبعية في تمثيلهم السياسي وفي التحكّم بمصالحهم وطموحاتهم، وفي الإمساك برقابهم نحو الاحتراب والتذابح.

وإلى جانب المقاومة يعتقد "التيار الوطني الحر" بإصلاح السلطة في الإدارات العامة دون تغيير أسس التبعية في توزيع الثروة الخام لشراء الولاء والنفوذ. لكنه يدور في الحلقة المفرغة التي تأخذ من حساب جماعة ولاء ونفوذاً إلى حساب جماعة أخرى في دوامة لا تنتهي من الاحتراب الطائفي.

وفي هذه الحلقة المفرغة من الاحتراب الطائفي حول توزيع النفوذ والولاء تحت سقف نظام التبعية، بلغ السيل الزبى تفتيتاً وتفكيكاً. وقد تجاوزت تحولات المنطقة زمن إدارة الأزمة تحت سقف النظام بل تجاوزت ما اعتاد عليه لبنان طويلاً في هدنات مؤقتة متلاحقة.

"
في لبنان حديث مزمن عن إصلاح النظام لكنه لم يرتق إلى الحديث عن استقلالية الدولة عن السلطة وعن التبعية لمنظومة المجتمع الدولي
"

فالثورة المضادة تسعى للعبور من "دفرسوار" الجبهة الشرقية متوخية إجهاض الثورات العربية وإعادة تجديد نظام التبعية بحلّة "ديمقراطية". وهي تنفذ من المشاكل الحقيقية التي خلّفتها السلطات الحاكمة في التسلّط على الدولة والشأن العام.

فلبنان هو أكثر بلدان الجبهة الشرقية عرضة لنفاذ الثورة المضادة من المشاكل الحقيقية الطائفية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية. وهو أكثر البلدان تعلّقاً بنموذج التبعية الاقتصادية و"الحضارية" على الرغم من انقسامه السياسي إلى قسمين.

وفي لبنان حديث مزمن عن إصلاح النظام لكنه حديث عن إصلاح السلطة يفضي إلى حرب طائفية. وهو لم يرتقٍ إلى الحديث عن استقلالية الدولة عن السلطة وعن التبعية الاقتصادية والسياسية والقضائية إلى منظومة "المجتمع الدولي".

وفي خضم تحولات تاريخية كبرى يبدو لبنان منسياً أو مؤجلاً على الرغم من النار تحت الرماد. والناس تأمل بهدنة في زمن لا أمل فيه بدون "الشعب يريد إسقاط النظام".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.