مصر تتحسس طريقها

مصر تتحسس طريقها



روى أحد السجناء أنه ظل نزيلاً في غياهب المعتقل لما يقرب من عقدين من الزمان. طوال تلك المدة كانت حركته مقيدة بمدى زنزانته الضيقة، التي كلما تحرك بداخلها اصطدم بحائط صده عما عداها. حتى إنه عندما أطلق سراحه عانى أمداً قبل أن يعتاد الانطلاق دون أن يعوقه حذر من حائط ظل حاجزاً وهمياًُ في ذهنه.

تتبدى الرواية مليئة بالرموز والدلالات، وثيقة الصلة بأمم مرت بمراحل تقييد للحريات على مدى طويل. وتأتي مصر في هذا السياق بعد أن خرجت من وراء القضبان، وهي تتحسس طريقها نحو الحرية أمام خيارين: أن تبني بالأوهام حائطاً، أو أن تضرب بالأوهام عرض الحائط. فإن في مصر الثورة أموراً تبدو عائقاً معنوياً عن التقدم خطوةً إلى الأمام:

"
تروج عدة محاذير من محاولات احتواء  الثورة, بينما نتجاهل أن الإنجاز الأكبر يكمن في إرساء سابقة وضعت حداً لمقولات نعتت المصريين بعدم القدرة على المواجهة
"

أولاً: تروج عدة محاذير من محاولات احتواء لما تحقق أو الالتفاف عليه من أذناب نظام تهاوى. يأتي ذلك بينما نتجاهل أن الإنجاز الأكبر يكمن في إرساء سابقة وضعت حداً لمقولات نعتت المصريين بعدم القدرة على المواجهة والعجز عن التحدي.

ذلك لكونهم منذ قديم الأزل شعبا يعيش على نيل تتحكم في فيضانه سلطة تطلب الطاعة مقابل منح الحياة. حتى إنه بات ذلك التنقيب في مخازن التاريخ عن بذور التخاذل وسيلة لإفشاء مشاعر اليأس والقنوط من المستقبل.

وكذلك تؤكد السابقة فائدتها في توافرها عند استدعائها من وعاء الذاكرة، تأكيداً على أن الثورة لم تأت مصادفةً وأن تكرارها وارد.

ثانياً: يستمر الهاجس من الثورة المضادة ومساعي الانقضاض على الثورة. وعلى الرغم من مشروعية المخاوف من عودة ما تبقى من نظام تلاشت أشكاله، تبقى إعادة بعث مضمونه الأولى بالنظر.

ذلك لأنه مع إدراك أن الزمن لا يعود إلى الوراء، فإن صفحات التاريخ قد تتكرر سطورها بصياغات أخرى. وإذا كانت دعائم النظام قد مادت تحت ضربات الثورة فإن الأشباح قد تطل علينا من تحت الركام والأطلال تحت مسميات أخرى.

كما يبقى الخوف الأكبر من عدو كامن بداخلنا يتوارى عن الأعين. حيث يأتي ذلك المستتر متسللاً من خلال مطلبنا للأمن ولو أتى به طاغية، أو للاستقرار ولو على حساب الحرية.

ثالثاً: من المفيد أن نتذكر أن الاستبداد يستمر بظن مرتكبيه أن رأيهم وسياستهم هما الأمثل للوطن. لذلك فإن العلاقة بين الشعب والجيش يجب أن تكون موضع نظر. فقد لا تبدو الخشية من قيام المؤسسة العسكرية بما يستفز المشاعر متسقة مع المؤشرات، ولكن الخوف أن تلبى المطالب بتسليم السلطة على أن تبقى بظلالها من وراء ستار.

إن بقاء الجيش في الخلفية يتيح له أن يحتفظ بدور الحارس المؤتمن المخول له التدخل ضد سياسات فيها ما يتعارض مع ما يراه والمصلحة الوطنية. ويكون ذلك وفق ما يرتئيه القائمون على المؤسسة العسكرية ونظراً لاعتباراتهم.

وهناك حالات -كتركيا وباكستان- تعرضت الممارسة الديمقراطية فيها لتدخلات من قبل العسكر المتوثبين لاعتراض مسيرة السياسة، متعللين بحجج مراعاة المصالح العليا. وبالتالي فإن الأولى ضمان ألا يكون الباب موارباً لأي محاولات لأن تتحول المؤسسة إلى جملة اعتراضية في قاموس السياسة.

"
قد تتبع الثورات دعوة للالتزام بقيود الواقع, غير أن إجهاض الأحلام يبدأ عندما نتخلى عنها, لذلك يجب ألا يشد الواقع الأحلام إلى الأرض
"

رابعاً: إن الثورات تحلق بالأحلام متخطيةً اعتبارات الواقعية ودعوات العمل في إطار ما هو ممكن. لذا قد تتبع الثورات دعوة للالتزام بقيود الواقع. غير أن إجهاض الأحلام يبدأ عندما نتخلى عنها. لذلك يجب ألا يشد الواقع الأحلام إلى الأرض، على الرغم من الإحباط الذي قد ينتاب البعض عند قراءة متأنية للواقع.

بيد أن الأحلام تحتاج لتطبيقها إلى رؤية واعية كنا عانينا من غيابها في عهد مضى. فالأحلام دون رؤية كطائر أعمى يحلق دون وجهة محددة. وليس ببعيد نماذج دول كأوكرانيا مرت بفوران الثورة والارتداد عنها من قبل أولئك الذين آمنوا بها ثم تخلوا عنها بعد أن خذلتهم.

فالآمال عندما تعلو عنان السماء يكون لسقوطها دوي يصم الآذان عن سماع مبررات حاملي الراية والمبشرين بعهد جديد.

خامساً: إن الثورات تأتي كتيارٍ عاتٍ يجرف ما يعترض طريقه. لذا قد يركن البعض لاستنهاض الهمم بالاعتماد على قوة الدفع النابعة من طوفان الثورة وهدير الهتافات.

كأن الحماسة كافية لتحقيق ما نصبو إليه وتخطي ما قد يعترض طريقنا. ولكن الثورات لا تأتي على منظومات القيم المستقرة وتبديلها بين ليلة وضحاها لمجرد أن الوطن مر بفترة انصهار تاريخية تجلى فيها ما يجمع وخبا ما يشرذم.

لذا فإن الجهود الموجهة لتحقيق الأهداف المرجوة يجب ألا يقتصر اعتمادها على المشاعر الوطنية الفياضة. ولكن من خلال إرساء آليات تضمن الالتزام بتحقيق ما نرنو إليه.

كما لا يجوز أن تنحصر محاولات احتواء المشاكل المتراكمة بالتمسك بالحالة الوطنية الاحتفالية، دون النظر إلى عمق المشكلة والعمل على معالجتها من جذورها. ولتكن تلك ثورة أخرى على الطرق العتيقة في التعامل مع قضايا الوطن.

سادساً: إن الأمم بعد فترات من تكميم الأفواه وكبت الآراء والاستئثار بالقرار تنطلق إلى ما قد يبدو للبعض فوضى من المواقف بكل ألوان الطيف. وكأن الأمة بدأت تجرب حاستها المعطلة عن العمل بعد أن عادت إليها قدرتها على النطق.

وقد يرى البعض ذلك هدماً للتوافق الوطني المطلوب للانتقال الآمن للبلاد. كما ينتاب البعض الآخر خوف من المجهول نابع من عدم معرفة المحصلة النهائية لتلك الاختلافات. بينما هو في حقيقة الأمر إثراء للحوار وطريقة لضخ الأفكار في خضم الحراك الوطني.

كما أنه تأكيد على أن الكل مدعو للمشاركة في بناء الوطن على قاعدة أنه لا يوجد من يمتلك الحقيقة أو يحتكرها كما عودنا البعض.

سابعاً: لا يجوز اختزال الثورات في المظاهرات والاحتجاجات. إن الثورة حالة وليست لحظة خاطفة. والحالة الثورية تتطلب اليقظة لمنع أي محاولات للحيدة عن الدرب الذي تختاره الأمة.

وتأتي أهمية ذلك الإدراك في ظل الحوارات الدائرة حول مواصفات الرئيس القادم. وكأنما نريد أن نطمئن أنفسنا بتسليم قيادنا لشخص نأتمنه على مقدرات البلاد، وليس من خلال إرساء مؤسسات تضمن ألا ينفرد شخص بمقاليد الأمور.

فالممارسة الديمقراطية لا تضمن تجنب الأخطاء في الاختيار، ولكنها تتيح الفرصة لتصحيح المسار بعد اختيار خاطئ. لذلك فمن المهم أن نقيم نظاماً نأتمنه وليس شخصاً نسلم أنفسنا له.

"
عودنا النظام البائد على أن يترك الفتات بعد التهام ما يضع يده عليه من الكعكة. وتصبح المعركة بين الجميع على ما تبقى منها محاولة للنجاة
"

أخيراً: إن تراكمات الماضي قد أدت إلى أوضاع غير مقبولة تدعو للانتفاض عليها. لذا فإن أحداً لا ينكر مشروعية المطالب الفردية والفئوية والطائفية. حيث إن الأوضاع المحتج عليها نابعة من إخفاقات الماضي في معالجتها.

ولكن ردود الأفعال إزاء تلك الأوضاع تأتي كذلك كصدى لأصوات من زمن توارى. فقد عودنا النظام البائد على أن يترك الفتات بعد التهام ما يضع يده عليه من الكعكة. وتصبح المعركة بين الجميع على ما تبقى منها محاولة للنجاة.

ولكن هذه المحاولات تتناقض مع اللحظة الحالية التي يتخلى فيها المرء عن استحقاقاته في سبيل المطالب الوطنية الجامعة. وبحيث لا يعد تغليب المصلحة العامة نوعاً من التضحية، بل فرصة لأن نعمل على أن تكبر الكعكة بدلاً من أن نسعى لأن يكبر حجم القضمة التي تتبقى لنا منها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.