القانون الانتخابي وإشكاليات التأسيس

القانون الانتخابي وإشكاليات التأسيس

في التمييز بين التشريعي والتأسيسي
في شروط إمكان القانون الانتخابي
بين السّيادة الشعبية والسيادة الوطنيّة

منذ أيام عرضت الحكومة التونسية المؤقتة مشروع القانون الانتخابي للمجلس التأسيسي أمام الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي.

وكانت الحوارات قد انطلقت في هذا الموضوع في الصحف الوطنية والمنتديات السياسية والفكرية، حيث حاول الكثير منها التداول في إجرائيات العملية الانتخابية من دون الوقوف بشكل مباشر على مؤسِّسات هذه الإجرائيات.

ففي حين بدا ضروريا طرح هذه الإشكاليات في جانبها القانوني من حيث آليات الانتخاب وأشكاله، إلاّ أنّ ذلك ما كان له ليغيّب عن الدارسين التوقف الواعي عند القيم المؤسِّسة لمسار الاقتراع، بالنظر أوّلا إلى أنّ مطلب الثورة الأساسي المتمثل في عمق عملية التغيير السياسي قد لا تستوفيه الاحتياطات القانونية التي تشغل جزءا هاما من الرأي العام، وثانيّا باعتبار كلّ حوار إجرائي يتلوّن بالخلفيّة الفكرية والسياسية لكلّ طرح.

يحتمل التأسيس إذن معاني متعددة بحسب الأرضية الفكرية التي ينطلق منها كلّ شخص. فبعض السياسيين يعتبرون التأسيس فرصة لوضع بنية اجتماعية وثقافية وسياسية جديدة، تمكن بعض المجموعات من تعزيز فرصها في تحقيق مصالحها في المستقبل.

في حين يرى آخرون أن التأسيس ليس ابتكارا ولا تخليقا لواقع جديد، وإنما يرون -من خلفية ثقافية اجتماعية- في عملية التأسيس تقنينا لواقع هو موجود بالفعل.

وفي كل الأحوال، فإن مسألة تأسيس الجمهورية التونسية الثانية موضوع حوار سياسي بين أحزاب مختلفة في مرجعياتها، وبين مدارس فكرية لا تتوخى نفس المقاربات، ولكن كذلك بين مناهج أكاديمية وعلمية متباينة.

هذا ما يبرز الطابع المركّب لهذه الحوارات وما يساهم في بلورة تحالفات متعددة الأوجه في المشهد السياسي التونسي الأخير، كما توضحها العناوين الرئيسية التالية:

في التمييز بين التشريعي والتأسيسي

"
المطلوب من كل الأطراف المترشحة للمجلس التأسيسي التعبير عما يربطها بمحيطها من ثوابت مجتمعية وما تعبر عنه من قيم إنسانية
"

حتى يتسنى لنا تحديد المطلوب من القانون الانتخابي للمجلس التأسيسي نحتاج التمييز بين الطابع التشريعي والطابع التأسيسي لهذا القانون المؤقّّت.

– أولا، المجلس التأسيسي هدفه إعادة بناء الفضاء السياسي والقانوني للجماعة البشرية التي تتقاسم نفس الأرض ونفس التاريخ ونفس المصير. في حين أن المجلس التشريعي لا يتوجه ابتداء إلى هذه المهمة وإنما يتعامل مع معطى سياسي سابق، كما لا يمكنه تحوير الدستور من خلال إجراءات تشريعية عادية.

– ثانيا، حتى يتمكن المجلس التأسيسي من أداء وظيفته المتمثلة في صياغة دستور جديد فإنه مدعوّ لتحيين شروط العيش المشترك، أي ما يعبر عن الوحدة السياسية للمجموعة البشرية التي يمثلها. في حين تحاول مختلف الحساسيات داخل المجلس التشريعي التميّز ببرامجها التي ترى فيها الأكثر نفعا للشعب الذي انتخبها. أي أن عمل المجلس التأسيسي يقوم أساسا على وحدة الأرضية السياسية التي تجعل من التنوع داخل المجلس التشريعي أمرا ممكنا.

استتباعا لهذين التمييزين يجب أن يصاغ قانون انتخاب المجلس التأسيسي على خلفية مختلفة عن قانون انتخاب المجلس التشريعي، فإذا كان قانون انتخاب المجلس التشريعي يقوم على توفير شروط التنافسية الانتخابية بما يدفع إلى تأجيجها ضمنا، فإن قانون انتخاب المجلس التأسيسي يجب أن يصاغ بما يساعد على تمثيل كل المجموعات السياسية والثقافية والاجتماعية داخل المجلس تفاديا للإقصاء والاستثناء.

إذن المطلوب من كل الأطراف المترشحة لهذا المجلس التعبير عما يربطها بمحيطها من ثوابت مجتمعية وما تعبر عنه من قيم إنسانية، ستحاول تضمينها في حيثيات الدستور الجديد، وتأجيل مشاريعها التنافسية إلى حين الانتخابات التشريعية والرئاسية والبلدية.

في شروط إمكان القانون الانتخابي
الآن وقد بان الفارق بين السياق التأسيسي والسياق التشريعي للقانون الانتخابي، يمكن الحديث عن شروط إمكان هذا القانون.

يوجد شرطان ضروريان يسقط عند غياب أحدهما أي إمكان لنجاح هذه العملية الانتخابية: الشفافية والالتزام:

– شرط الشفافية: أي أن يكون القانون الانتخابي محايدا تجاه كل الأطراف السياسية والاجتماعية. فالمفترض أن هذا القانون سيفضي إلى تشكيل مجلس يمثّل القوى المجتمعية تمثيلا وفيّا لما هو موجود في الواقع من جهة ما يعتقده الأشخاص ومن جهة بيئتهم التي ينتمون إليها. فالمطلوب من هذا القانون الانتخابي أن يعكس الخارطة السياسية والفكرية والديمغرافية في البلاد:

في طابعها الفكري: حيث تبرز الخصوصية التونسية التي تظهر تجاذبا قويّا بين تيارات فكرية متنوعة المشارب، جديرا بأن يراعى، مهما قيل عن تشدد بعضها وانمحاء البعض الآخر.

"
حالة الانغلاق التام التي فرضها النظام السابق في البلاد لم تساعد النخب السياسية التونسية على إدارة حوار رصين بينها إلا نادرا
"

في طابعها السياسي: إذ إن حالة الانغلاق التام التي فرضها النظام السابق في البلاد لم تساعد النخب السياسية التونسية على إدارة حوار رصين بينها إلا نادرا، ولا فسح لمختلف الأطراف عرض أفكارها على الشعب، لذلك يجب أن تضمن كل الأطراف السياسية فرصة الحد الأدنى داخل المجلس التأسيسي.

من جهة التوزيع الديمغرافي والعمري: ديمغرافياً وجهويا، يتوزع الشعب التونسي بين مدن تضم ثلاثة أخماس السكان أغلبها ممتد على الساحل، حيث معدل الدخل الفردي فيها يساوي ضعف المعدل الوطني، وأرياف يقطنها الخمسان المتبقيان تغوص في الأعماق الغربية للبلاد، ولا يتعدى هذا المستوى نصف المعدل الوطني، مما يستوجب ضربا من التمثيل التناسبي الذي يراعي التمييز الإيجابي حتى استعادة التوازنات الديمغرافية والتنموية في البلاد.

وعمريا حيث يمثل الشباب الفئة الغالبة بين السكان والقوة الاجتماعية الأكثر فاعلية في أحداث الثورة التونسية منذ 14يناير/كانون الثاني الماضي. فإذا عرفنا أن مرحلة الشباب تنتهي بيولوجياً في الثامنة والعشرين، فمن المفترض أن يستهدف القانون الانتخابي تحقيق التمثيلية الواسعة لهذه الفئة بما يحقق تجديد الطبقة السياسية في البلاد و"تشبيبها".

من جهة تمثيل النوع الاجتماعي، والمقصود به المرأة هنا، فتمثيل المرأة التونسية كان جائرا على امتداد خمسين سنة من الاستقلال، ليس فقط من جهة نقصه العددي، ولكن أيضا من جهة قدرته على عكس كلّ القطاعات النسويّة.

– شرط الالتزام: التزام تجاه مطالب الثورة وأهدافها. هنا نقف على المغالطات السياسية واللفظية التي يحاول البعض تسويقها. فمنطق الثورة لا يتحمل الحديث عن انتقال ديمقراطي أو إصلاح سياسي، إذ مقولة الانتقال الديمقراطي مقولة إصلاحية، تتساوق مع المفاهيم الليبرالية الحديثة عن التطور الأفقي للتاريخ وعن التداول التراكمي للسلطة.

لكن ما يحدث في تونس ثورة قامت على القطيعة مع نظام سياسي وخيارات سلطوية فاشلة، لذلك فقد كان المطلب الأساسي للثورة إسقاط النظام سلطة وحزبا ونخبا.

ولا أعتقد أنّ قوى الثورة التي تمتلك الآن سيادتها الكاملة تقبل بأن تجد في العملية التأسيسية ممثلين للنظام البائد. لذلك فإن مقتضى الالتزام بروح الثورة ومطالبها منع رموز الحزب والسلطة والبوليس من الترشح للانتخابات القادمة، ومنعهم من تشكيل أحزاب سياسية في البلاد (وذلك بعكس ما جاء في مقترح القانون الانتخابي).

ولنا في التجربة التاريخية مثال من خلال محكمة القضاء الأعلى التي شكلتها حكومة الاستقلال في تونس سنة 1956، حيث أصدرت أحكامها بمنع المتعاونين مع سلطة الاستعمار الفرنسي من ممارسة حقوقهم السياسية ترشحا وانتخابا في المؤسسات الدستورية الناشئة.

الانتهازية السياسية ليست مجرد مرض اجتماعي يمكن استئصاله جراحيا، فالثورات التي لم تنتبه لهذا الخطر أجهضت من حيث لم تتوقع.

"
نحتاج إلى عقلية توافقية تؤسس لفسح المجال لحوار إستراتيجي بين التونسيين، إذا ما أنجز بنجاح فإنه خير كفيل لضمان العملية الديمقراطية الناشئة في البلاد
"

لذلك نحتاج إلى ديمقراطية انتقالية تعكس الاهتمام بإنجاح هذه الثورة، من مظاهرها:

– البعد التّوافقي، ففيه خير معالجة لحالة الفراغ التي فرضها الاستبداد طوال سنوات حكمه الطويلة. إذ الحساسيات السياسية والفكرية في البلاد لم تعش ظروفا طبيعية تستطيع من خلالها إدارة حوار حول النمط المجتمعي الذي تؤمن به ولا القيم الناظمة للحياة العامة.

تبرز سلبيات ذلك في حالة التوجس والريبة التي تسكن الأنفس اليوم: حالة خوف الكل من الكل، وهي حالة إن لم تعالج بحكمة فقد تدفع لوضع من عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي، لا يمكن أن يستفيد منه إلا مشروع مستبد جديد.

لذلك نحتاج في هذه المرحلة إلى عقلية توافقية تؤسس لفسح المجال لحوار إستراتيجي بين التونسيين، إذا ما أنجز بنجاح فإنه خير كفيل لضمان العملية الديمقراطية الناشئة في البلاد.

– العدالة الانتقالية التي تحاصر الفساد المالي والسياسي، وتقطع طريق العودة على الانتهازية ورموز النظام السابق. وهنا يمكن الاستفادة من القانون الدولي وتجارب الشعوب الأخرى التي عاشت ثورات مشابهة لتجاوز الفراغ القانوني الذي يمكن أن يعطل مسار المحاسبة. فمقتضى العدالة الانتقالية في الحالة الثورية سياسي بالضرورة، ويستهدف توفير الضمانات لإنجاح هذه الثورة.

بين السّيادة الشعبية والسيادة الوطنيّة
مسار الثورة التونسية منه ما انقضى وتمثل في استعادة الشعب سيادته كاملة، ومنه ما هو متوقع من العودة من العفوي إلى التنظيم الدستوري للسلطة:

– من سيادة الدّولة المستبدّة إلى السيادة الشعبية: عوّدتنا دولة الاستبداد على خطاب السيادة الوطنية حتى أضحى المعارض للنظام متهما في وطنيته. الآن وبعد الثورة انتزع الشعب سيادته. هذا التحوّل له تأثيران على المسار الانتخابي في البلاد:

أوّلا: لم يعد الاقتراع وظيفة كما تصوّرها الدّولة من خلال مفهومها للسيادة الوطنية، وإنما هو حقّ يمارسه الشعب بكامل المسؤولية. هذا الفرق بين سياقين انتخابيين مهم جدا في تكريس الممارسة الديمقراطيّة. فواجب التصويت كان دائما يفضي إلى تزوير العملية الانتخابية، إمّا بملء الصناديق بالوكالة، أو إكراه الناس على انتخاب جهة معينة، وكلّ ذلك تحت غطاء الواجب الوطني.

ثانيّا: لم يعد مفهوم التمثيل النيابي، أو في رئاسة الدولة، تعبيرا عن الإرادة العامة كما زورتها أجهزة السلطة، بل إن خروج الشعب إلى الشارع واستعادة السلطة فضح هذا التزوير لإرادة الشعب بعد سنة من الموعد الانتخابي الذي أجرته السلطة.

الآن يشعر الشعب بعد ثورته بأنه يمتلك إرادته، وبالتالي يمارس وفق هذه الإرادة سيادته المباشرة على الواقع. يخرج ويجتمع ويتظاهر ويعتصم ويطالب ويستجاب لمطالبه. تبدو هذه الصورة نموذجا في الحديث عن سيادة الشعب.

"
من دون العودة إلى الشّعب ستبقى كل محاولات بناء الجمهورية الثانية في تونس يهددها الفشل ويضع أمامها شبح عودة الاستبداد والدكتاتورية
"

– سيادة الشعب وسلطة الدولة: هذا ما يجب أن تفضي إليه خريطة الذهاب إلى المجلس التأسيسي. لا سبيل للعودة لغطاء سيادة الدولة للالتفاف على مطالب الثورة وسيادة الشعب، ودوره المرجعي والمباشر في تحديد أي خيار سياسي أو ثقافي ذي طابع إستراتيجي. فحدّة التوتّر في التعامل مع هذا القانون الانتخابي تتناقص حتما كلّما استذكر الجميع أنّ السيادة بيد الشّعب وأنه سيفوّض ممثليه تولّي السلطة، لكنه سيحتفظ بسيادته وبالتالي بحقه الحصري في تحديد خياراته الكبرى.

فلا مفرّ إذن من عرض نتائج عمل المجلس التأسيسي على الشعب في استفتاء يتوفر على كل شروط النجاح. وإنه دون العودة إلى الشّعب ستبقى كل محاولات بناء الجمهورية الثانية يهددها الفشل ويضع أمامها شبح عودة الاستبداد والدكتاتورية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.