الثورتان الإيرانية والمصرية

الثورتان الإيرانية والمصرية -الكاتب: بشير الأنصاري



أوجه الشبه
تحييد الجيش
أوجه الاختلاف
سنن غلابة
 

إن عواصف التغيير العنيفة التي هبت في أرض مصر والانتفاضة المدوية التي فجرها الشباب، أذهلت العالم وأثارت أملا لدى البعض وقلقا لدى البعض الآخر. وفي خضم التصريحات السياسية حول هذا الحدث العظيم، بدأ بعض السياسيين والمحللين الغربيين والإسرائيليين يحذرون من سقوط مبارك الذي يمكن أن يؤدي إلى سيطرة كارثية للإسلاميين على الحكم، على غرار الثورة الاسلامية عام 1979 في إيران التي حولت أكثر النظم ولاءً للغرب وإسرائيل إلى أشدها عداءً لهما.

أوجه الشبه
إذا بحثنا عن وجوه الشبه بين الثورتين فأول شيء يجلب الانتباه هو توقيت الحدثين. فالمظاهرة المليونية التي عمت مصر يوم 1 فبراير/شباط 2011 توافقت مع حدث آخر وقع في إيران يوم 1 فبراير/شباط لعام 1979 حيث شهدت العاصمة الإيرانية أكبر حشد جماهيري في تاريخ البلاد وذلك حسما للصراع المرير المتمثل في الاضرابات الشاملة والمظاهرات الساخنة التي استمرت عدة شهور.

إن تزاوج السلطة والثروة وتشابك مصالح رجال المال والسياسيين في هرم الدولة وتفشي الفساد في مؤسسات الإدارة والاقتصاد شكل عاملا أساسيا في انفجار كلتا الثورتين. إذا كان الخبراء قد اتهموا الشاه بسرقة بلايين الدولارات -أردشير زاهدي أحد المقربين من إيران يكتب في مذكراته أن الشاه كان متهما بسرقة 31 مليار دولار- فإن وسائل إعلام عالمية وصحفا وخبراء ومنظمات دولية تقدر ثروة آل مبارك بما بين أربعين وسبعين مليار دولار أميركي.

كما كان لشاه إيران وأسرته مشاريع اقتصادية وبنوك خاصة حيث أصبح فسادهم وإسرافهم وبذخهم الشديد مضربا للمثل في العالم، كما هو الحال الآن بالنسبة للرئيس مبارك وابنيه الذين جعلوا من الاقتصاد المصري أرقاما بهلوانية تتلاعب بها حاشية الرئيس وأفراد أسرته.

"
تزاوج السلطة والثروة وتشابك مصالح رجال المال والسياسيين في هرم الدولة وتفشي الفساد في مؤسسات الإدارة والاقتصاد شكل عاملا أساسيا في انفجار كلتا الثورتين الإيرانية والمصرية
"

كما أن تكريس سياسة الحزب الواحد واتباع أساليب عنيفة لتصفية المعارضه تصفية جسدية ومعنوية وتزايد حدة التضخم وارتفاع درجة الفوضى السياسية والاجتماعية والاقتصادية أدت إلى احتقان نفسي شديد أدى إلى تفجر الثورة الإيرانية.

إن التغييرات الاقتصادية المبنية على الرأسمالية وتأثيرها السلبي على الفئات الاجتماعية المختلفة، وقمع الجماعات السياسية وفقدان الحريات العامة كانت من العوامل التي مهدت للثورة الإيرانية "نيكي آر كيدي في كتابه جذور الثورة الإيرانية"، الأمر الذي ينطبق على الحالة المصرية أشد الانطباق.

أما فريد هوليداي في مقال بعنوان "الثورة الايرانية" فيتحدث عن عوامل خمسة: تنمية رأسمالية غير متوازنة، وضعف سياسي للنظام، وتحالف قوى المعارضة، ودور الدين في التعبئة الجماهيرية، والجوّ الدولي.

ثمة شبه بين النهج الذي اتبعه شاه إيران في الحكم والنهج الذي اتبعه حسني مبارك في مصر. فالشاه لم يستوعب روح عصره وكان متقوقعا على التراث الشاهنشاهي القديم، والرئيس مبارك رغم أنه لم يدع تمثيل الأسرة الفرعونية في القرن الواحد والعشرين لكن منهجه في الاستخفاف بشعبه وعقليته السياسية وسلوكه مع معارضيه خلال ثلاثة عقود كان مصداقا لقول الله تعالي: "فاستخف قومه فأطاعوه" الزخرف/54 و"ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد" غافر/29 و"إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد" غافر/26.

إن سماع خطاب نائب الرئيس المصري الذي أكد أكثر من مرة على الحساب العسير الذي ينتظر المتظاهرين جعلني أتذكر قول فرعون عندما قال: "فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى" طه/71. ومن تابع خطاب الرئيس المصري بعد اندلاع المظاهرة المليونية وجد أن ثقافة التحنيط البدني الرائج في عصر الفراعنة القدامى تحولت إلى تحنيط عقلي ونفسي في وجود فراعنة مصر المعاصرين.

ومن ناحية أخرى فإن شاه إيران -رغم علاقته الشديدة بالنظام الشاهنشاهي القديم- كان يتظاهر بالديمقراطية ونظام الأحزاب والبرلمان كمثيله المصري. فقد قام الشاه بتأسيس حزب "رستاخيز" أو"الانبعاث"، وكان يطلب من أفراد الشعب الانضمام إلى هذا الحزب. وفي نفس الوقت الذي كان الشاه يتشدق فيه بالديمقراطية كان جهاز الأمن الإيراني "سافاك" وبلطجية النظام يثيرون الهلع والذعر في أوساط المجتمع، وكان برلمانه مجمعا لأنصاره ومؤيديه.

وقد قام الشاه في أيامه الأخيرة بتعيين شابور بختيار -أحد أقطاب المعارضة الليبرالية- ليشكل حكومته. وبعد تشكيل الحكومة طلب بختيار من الخميني أن يمنحه هدنة لمدة ثلاثة أشهر حتى ينظم أموره لمواجهة الأوضاع الجديدة ولكنه قوبل بالرفض، فطلب منه مهلة شهرين ثم قوبل بالرفض مرة أخرى، وأخيرا طلب منه ثلاثة أسابيع وقوبل بالرفض أيضا.

حاول بختيار أن يعيد قواه ويبسط سيطرته الأمنية فأعلن حظر التجول، لكن الناس تدفقوا إلى الشوارع وتحدوا حظر التجول وأفشلوا الخطة. وعندما رأت الحكومة أن الشعب في حالة هيجان، أعلنت أنها غير مسؤولة عن أمن المجتمع، وعلى إثره قام الشعب بتشكيل لجان شعبية تبسط الأمن وتنظم أمور السوق وتتولي مهمة المرور وأظهر بذلك كفاءة ومقدرة أدهشت العالم.

تحييد الجيش
ثمة شبه في طريق تعامل الثورتين مع الجيش. كان للشاه جيش مدرب ومجهز يبلغ قوامه 700 ألف جندي وضابط لقمع الشعب. وللتغلب على قوة القمع هذه كان هنالك رأيان: حزب مجاهدي خلق وفدائيان خلق والمثقفون الذين تخرجوا من جامعات غربية كانوا يفكرون في المقاومة المسلحة، أما الخميني فكانت له إستراتيجة أخرى مبنية على أن الطريقة الوحيدة للصمود أمام الجيش هي نزع سلاحه، وإستراتيجية "نزع سلاح الجيش" لم تكن مفهومة لدى الآخرين.

"
كان الخميني مصرا على أن لا يصطدم أتباعه مع الجيش تحت أي ظرف، وكان يقول إن الجيش الإيراني جزء لا يتجزأ من الشعب الإيراني، ورغم ارتدائهم الزي العسكري فهم في نهاية الأمر بشر مثلنا ولهم قلب وشعور
"

فقد كان الخميني مصرا على أن لا يصطدم أتباعه مع الجيش تحت أي ظرف، وكان يقول إن الجيش الإيراني جزء لا يتجزأ من الشعب الإيراني، ورغم ارتدائهم الزي العسكري فهم في نهاية الأمر بشر مثلنا ولهم قلب وشعور. لا تهاجموا الجيش في صدره وإنما هاجموا قلبه واستهدفوا وجدانه. عليكم أن تناشدوا قلوبهم ولو فتحوا عليكم النار. وإذا أراد الجيش أن يطلق النار عليكم فلتعروا صدوركم، فدماء كل شهيد ناقوس يوقظ ألفا من الأحياء. فلندعهم يقتلون خمسة آلاف، عشرة آلاف، عشرين ألفا، فسنبرهن للعالم أن الدم أكثر قوة من السيف. الهتافات المسجعة التي تفنن الإيرانيون في تأليفها كما هو الحال في مصر كانت تقول: "برادر ارتشي، چرا برادر كشي" يعني: "أخي الجندي لماذا تقتل إخوانك؟".

مع تصاعد وتيرة المظاهرات وقبل سقوط الشاه بشهر قام مجلس الأمن القومي الأميركي بإرسال اللواء رابرت هايزر -مساعد رئيس حلف شمال الأطلنطي- إلى طهران دون علم الحكومة الإيرانية لتدبير انقلاب عسكري يؤمن مصالح أميركا في إيران. ("إجابة للتاريخ" بقلم شاه ايران، و"مهمة في طهران" بقلم رابرت هايزر). وجدير بالذكر أن الجنرالات الذين كانوا على اتصال مع هايزر مثل عبده بدري وأمير حسين ربيعي وأمير رحيمي أعدموا بعد نجاح الثورة الإيرانية. 


أوجه الاختلاف
رغم وجود التشابه بين الحالتين في تاريخ الحضارة الإيرانية والحضارة المصرية اللتين تنتميان إلى أكبر الحضارات الإنسانية الخمس، فهناك فروق حقيقية بينهما. فرغم اشتراك الثورتين في أسبابهما فإن الثورة المصرية تقوم على أسس حضارية تتجاوز حدود الدين والمذهب والحزب وتنادي بمبادئ إنسانية وقيم عالمية مثل الحرية والعدالة والديمقراطية فهي أشبه بحركة نلسون مانديلا في جنوب أفريقيا وغاندي في الهند ومارتن لوثر كينغ في أميركا.

إن موقف جماعة الإخوان المسلمين، كبرى الحركات الإسلامية، وتصريح قادتها أن كل ما يريدونه هو قيام دولة مدنية تسمح بحرية العمل وتكف عن الفساد لخير دليل على ما قلناه. والمؤسسة الدينية المتمثلة في الأزهر والمتعلقة بالدولة ومشيختها ظلت تدعم النظام على مر تاريخ مصر المعاصر. الهوية الإسلامية في مصر غير مهددة كما كان الحال أيام الدولة البهلوية في إيران.

وبما أن ردة الفعل تأتي على قدر الفعل، لا نرى تركيز المعارضة المصرية على هوية مجتمعهم الإسلامي قدر اهتمامها بالحقوق الأساسية للإنسان المصري. لكن الثورة الإسلامية في إيران أخذت من الدين شعارا ومن المذهب منطلقا ومن الحوزة العلمية قيادة ثم بنت على هذه الأسس دستورها. المؤسسة الدينية في إيران تقوم على أساس الدعم المباشر من قبل الجماهير، مما جعلها تتمتع بنوع من الاستقلال وتقاوم التبعية على مر العصور.

سنن غلابة
العنف لا يضمن التغيير: مر على قيام خالد الإسلامبولي وإخوانه باغتيال الرئيس السادات ثلاثة عقود. كان خالد يعتقد أن ضرب الرأس يمكن أن يوقف مسلسل الاستسلام ويؤدب الخلف بتأديب السلف، ناسيا أن الرصاص لا يمكن أن يغير نظاما بل ربما يأتي بنتيجة عكسية.

ففي الحالة الإيرانية تمكنت مجموعة فدائيان إسلام بقيادة مجتبى نواب صفوي من قتل علي رزم آرا -رئيس وزراء إيران- ولكنها لم تتمكن من إحداث تغيير حضاري يضمن استقلال البلاد وتحرير العباد. أعتقد أن الحركة الإسلامية في مصر -منذ أن ذهب مؤسسها الإمام البنا ضحية مغامرات التنظيم السري- أدركت أن مشروعها يجب أن يبتعد عن العنف.

إن كل ما يخشاه العقلاء اليوم هو أن يقوم النظام وقوى إقليمية ودولية بدعم حركات التطرف "البطلجية الإسلامية" لإثارة النعرات الطائفية والحرب الأهلية حتى يتسنى لهم ضرب الثورة المصرية وإجهاض مشروعها الحضاري.

العنف لا يضمن المصالح: يقول إبراهيميان -مؤلف "إيران بين الثورتين"- إن مجزرة (يوم الجمعة الأسود) التي وقعت في 8 سبتمبر/أيلول 1978 إثر فتح النار من الطائرات المروحية على مظاهرة تضم نصف مليون مواطن إيراني وحصدت أربعة آلاف وخمسمائة إنسان بينهم 650 امرأة، أضاعت كل فرص النقل السلمي للسلطة من الشاه إلى الشعب الإيراني.

"
إذا سمحت الولايات المتحدة الأميركية للرئيس المصري بسفك الدماء، فعندئذ سيشهد الشارع المصري ظهور عناصر غاضبة متطرفة لا تقتنع إلا بالسيطرة المطلقة على الدولة والانتقام من الآخرين
"

النقل السلمي للسلطة ممكن الآن في مصر ولكن إذا سمحت الولايات المتحدة الأميركية للرئيس المصري بسفك الدماء، فعندئذ سيشهد الشارع المصري ظهور عناصر غاضبة متطرفة لا تقتنع إلا بالسيطرة المطلقة على الدولة والانتقام من الذين سفكوا دماء إخوانهم الأبرياء، والقول لإبراهيميان.

لا مناص من السنن الكونية: سمعنا أن وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق، بنيامين بن إليعازر، اتصل مؤخراً بالرئيس المصري، حسني مبارك، الذي طمأنه على الوضع في بلاده، مؤكدا لصديقه الإسرائيلي أن القاهرة "ليست بيروت ولا تونس". عند سماعي لهذا الخبر تذكرت قول الرئيس الروماني تشاوسيسكو حيث سأله أحد الصحفيين: "يا سيادة الرئيس، إن العاصفة في أوروبا الشرقية عرت كل الأشجار فهل يمكن أن يصيب رومانيا ما أصاب من حولها؟ فأجاب: "هذا صحيح وقد تغيرت الأوضاع في كثير من دول أوروبا الشرقية ولكن رومانيا شيء آخر، لا تعرفونها أنتم، نحن نعلمها".

لقد استوعب الشعب المصري العظيم تجربة الثورات الكبرى في تاريخ الإنسان، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هل استوعبها صناع القرار في البيت الأبيض الذين فوجئوا بالحدث المصري كما فوجئوا بالثورة الإيرانية من قبل؟ إن قوانين الاجتماع وسنن التاريخ غلابة، فهل من مدكر؟ "أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم؟!"

أيها الشعب المصري العظيم، العالم ينظر إليكم، فليملأ الأمل بالنصر قلوبكم وتذكروا قول النبي موسى عليه السلام حين قال لقومه: "عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون". الأعراف/129.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.