المرأة في الإعلام الفضائي العربي

المرأة في الإعلام الفضائي العربي


لا شك أن التحولات الجذرية التي شهدها العالم العربي في المرحلة الأخيرة، وجاء بعضها بدفع من الحركات والمطالبات الشعبية التي أطاحت بمجموعة من أكبر وأقدم الأنظمة التسلطية والديكتاتورية ما ساهم في تسليط الضوء على ما يجري في هذه البقعة الجغرافية من قبل الأوساط الشعبية كما البحثية في مختلف بقاع الأرض، تستمد جذورها من مراحل سابقة وتحديدا من بداية الثورة الفضائية التي انطلقت في تسعينيات القرن الماضي وتحديدا الفضائيات التي أسهمت إسهاما كبيرا في خلق أوضاع سياسية واجتماعية جديدة في المنطقة، كما استشرفت الباحثة المغربية لبنى سكالي.
 
الجزيرة والأصوات النسائية الصاعدة
ولعل أبرز ما أفرزته هذه الأوضاع الجديدة قد جاء على مستوى تطور أوضاع المرأة العربية على المستويات كافّة القانونية والمجتمعية والسياسية والإعلامية والذي تجسد في كم المكاسب التي استطاعت نيلها في السنوات الماضية، آخرها في الـ26 من الشهر الماضي عند إعلان الملك عبد الله حصول المرأة السعودية على حق التصويت والترشح في الانتخابات البلدية في المملكة العربية السعودية ليشكل سابقة في تاريخ المملكة لا سيما فيما يخص التعاطي مع قضايا المرأة وحقوقها.
 

"
بعدما فتحت الجزيرة الباب أمام مشاركة المرأة سواء بصفتها إعلامية أو مراسلة حربية أو حتى بصفتها موضوعا بحثيا أصبحت منبرا للأصوات الإعلامية النسائية بامتياز
"
ويضاف إلى ذلك النجاحات والإنجازات التي حقّقتها بعض الفئات من النساء في مختلف المجالات البحثية والأكاديمية والسياسية والاقتصادية والإعلامية على وجه الخصوص.
 

في هذا المجال خاصة، حيث لم تكن المرأة ولسنوات طوال أكثر من "أداة" للفرجة أو "مزهرية"، على حد تعبير الباحثة التونسية ألفة لملوم، باقتصار ظهورها على الشاشات الصغيرة في أدوار تقليدية في برامج مرتبطة بشكل رئيس بالبيت والمنزل وتربية الأولاد، أي بكل ما له علاقة بالمجال الخاص، أثبتت بعض الفئات من النساء بالاعتماد على مهنيتهن والاستقلالية التي منحت لهن جدارة بالغة وقدرة على الترقي إلى أرفع الدرجات.

 
تمظهرت هذه النماذج من النساء وبشكل كبير على شاشة قناة الجزيرة بعد أن فتحت الباب أمام مشاركة المرأة سواء بصفتها إعلامية من خلال برامج حوارية تحليلية تناولت أعمق القضايا وأسخن الملفات على الساحتين الإقليمية والعالمية، بالإضافة إلى المهمات الصعبة كالمراسلة الحربية وتغطية الأحداث من قلب الميدان، أو حتى بصفتها موضوعا عبر المساحة التي أفردتها لمعالجة قضاياها وشؤونها المختلفة، وأخيرا بصفتها ضيفة في البرامج والندوات والنشاطات التي تنظمها القناة في المناسبات المختلفة.
 
إن ما قامت به الجزيرة عندما أفردت مساحة للتعبير عن آراء ووجهات النظر النسائية ليس فقط في القضايا والشؤون المرتبطة بالنساء بل أيضا في كل ما يجري في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية سواء في المجتمعات العربية أو الغربية، وما نقلته وتنقله من صور لهن ذات دلالات إيجابية وبليغة، قد ساهم كثيرا في تفعيل مشاركة النساء في تشكيل رأي عام حول القضايا المصيرية وفي تغير الصورة السلبية للمرأة "الأداة" في الإعلام لصالح صور أكثر إشراقا وإيجابية كتلك التي جسدتها "الإعلامية المحاورة" و"المراسلة الحربية" و"المناضلة السياسية" (كما تبدت مؤخرا من خلال استضافة الجزيرة لأبرز الوجوه النسائية "للربيع العربي" ما جعلها منبرا للأصوات الإعلامية النسائية بامتياز.

من الأداء الجندري إلى الأداء المهني
انطلقت الجزيرة في حقل إعلامي فضائي له سماته الخاصة في التعاطي مع موضوع المرأة، يعتمد على القواعد التقليدية والأعراف المنمطة والأساليب التسويقية حيث تصور المرأة إما بصفتها "حاملة" لمشروع وطني مبجل (كما كان سائدا ولا يزال في بعض الفضائيات الحكومية في ظل الأنظمة التسلطية) أو "راعية" لمشروع ربحي بكل ما في الكلمة من المعنى (وهو المنطق الغالب في الفضائيات الخاصة التجارية)، وواقع يبدو فيه القطاع الإعلامي عموما والمرئي الفضائي خاصة في خضم مفارقة ظاهرها السعي وراء العصرنة والحداثة من خلال التركيز على الصور العصرية للنساء وباطنها ارتهان للتقليدية وسيلة للمحافظة على البنية الاجتماعية البطركية عبر ظهور النساء في أدوار مجتزأة ومحصورة بشؤون المرأة البيتية والحياتية أي بأدوار جندرية، وواقع عنوانه "الاستعراض" و"المشهدية".

 
وفي ظل هذه الأوضاع، أصبح من الجائر الحديث عن المرأة "الجسد" التي بدأ ازدهار تجارتها وتدويلها في وسائل إعلامنا العربية كما لاحظت الكاتبة الأردنية توجان الفيصل من وحي تجربتها الإعلامية المخضرمة، حيث التركيز على الجوانب الجمالية والمظهرية للمرأة، كالأزياء وأدوات الزينة، وإغفال المهارات المهنية والقدرات الذهنية والفكرية وكأن المرأة مجرد مظهر وشكل جميل دون أي مضمون داخلي. وهو ما جرى إثباته في معظم الدراسات التي تناولت صور وتمثلات المرأة في وسائل الإعلام العربية المختلفة.
 

"
وسط حقل مفعم بالتمثّلات الإعلامية المشوهه والمناهضة للمرأة العربية المعاصرة، أطلّت "الجزيرة" بظهور جديد للنساء يقطع مع كل ما هو سائد ومعتاد يستند كثيرا على المهارات الصحفية والقدرات الفكرية
"

وسط هذا الحقل المفعم بالتمثّلات الإعلامية المشوهة والمناهضة للمرأة العربية المعاصرة، أطلّت "الجزيرة" بـ"ظهور جديد للنساء يقطع مع كل ما هو سائد ومعتاد يستند كثيرا على المهارات الصحفية والقدرات الفكرية ولترسخ لنهج رائد في التعاطي مع المرأة بصفتها عنصرا فاعلا ورئيسا في العملية الإعلامية.

 
تمظهرت على هذه القناة لأول مرة على الشاشات الصغيرة العربية مشاركة الصحفيات في كبرى البرامج الحوارية التي تناولت أبرز القضايا على الساحتين الإقليمية والعالمية، بدءا بقضية القضايا أي الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، ووصولا إلى الثورات العربية، مرورا بحروب القرن كالحرب على العراق وأفغانستان.
 
كما عرضت للمراسلات الحربيات من قلب الميدان في فلسطين (جيفارا البديري وشيرين أبو عاقلة) ولبنان (كاتيا ناصر) والعراق (الشهيدة أطوار بهجت) تنقلن بكل جرأة وجسارة مجريات الأحداث وسط النيران والقصف والأشلاء وتسلطن الضوء على الحالات الإنسانية التي تخلفها هذه الصراعات والنزاعات والحروب بمهنية غير معهودة وبحس عاطفي رفيع ساهم في تحريك مشاعر الملايين تجاه ما يجري على الساحة العربية.
 
غني عن البيان في هذا الصدد أن هذا الإنجاز ما كان له أن يتحقق إلاّ بتوافر الرؤية الإستراتيجية الصائبة، والحرفية العالية والجهد الفنّي الخلاق، وفريق العمل المؤهل، والإمكانيات التكنولوجية الضخمة، وفوق ذلك كلّه النهج المهني الذي يرتكز على  الأداء المهني وليس الجندري في تعاطيه مع الأفراد والنساء على وجه الخصوص.
 
الجزيرة وانتشار إعلاميات الرأي
هذا النهج الذي اعتمدته الجزيرة في تعاطيها مع العاملات والعاملين لديها، ووقف بشكل كبير وراء النجاح الواسع الذي حقّقته هذه القناة التي أصبحت محط أنظار واهتمام الجميع من جماهير وباحثين ليس فقط في العالم العربي وإنما الغربي أيضا، جرى تعميمه تلقائيا ولو بشكل أقل حدة مما هو عليه في الجزيرة في الفضائيات العربية والإخبارية المنافسة على وجه الخصوص، التي اضطرت إلى السير على خطى القناة، لكي تحتفظ بمشاهديها وتصمد في وجه المنافسة الشرسة.
 
ومن أبرز ما يذكر في هذا الصدد أن الفضائيات لجأت إلى الاستعانة بوجوه أنثوية لامعة في مجال التقديم التلفزيوني لا سيما في البرامج الحوارية التي استنسختها عن تلك التي تعرضها الجزيرة وأفردت لها مساحة من الاستقلالية في الإعداد واختيار المواضيع والضيوف مشابهة إلى حد ما لتلك التي اعتمدتها الجزيرة في تعاملها مع إعلامياتها وإعلامييها في محاولة لجذب أنظار المشاهدين اليها.
 
وعليه، أخذت هذه الصور الإيجابية للمرأة تندس رويدا رويدا على الشاشة الصغيرة معلنة عن نشوء فئة جديدة من إعلاميات الرأي العربيات المثقفات والمهنيات القادرات على توجيه وتوعية الرأي العام حول كبريات القضايا السياسية والملفات الساخنة والإشكاليات التي تعصف بالمجتمعات العربية المعاصرة.
 
من برامج الـ"توك شو" السياسي إلى الاجتماعي إلى النقاش حول أمور الدين والعقيدة في البرامج الدينية مع شخصيات إسلامية نسائية كالداعيات على سبيل المثال وذكورية أيضا التي انتشرت مؤخرا وبكثافة على الفضائيات العربية التي سعت بمختلف الأشكال الاقتراب من رغبات الجماهير التي ضاقت برتابة عودتها عليها القنوات الحكومية وخطابها "المتحجر" خاصة بعد أن أدخلها أسلوب ومحتوى البرامج الحوارية التي تبثها الجزيرة إلى الانخراط ومزيد من الانخراط في القضايا التي تغطيها، كما لاحظ الباحث الأميركي فيليب سيب.
 

"
الجزيرة بدرجة أولى، والفضائيات العربية بدرجة ثانية، نجحت في تطوير مكانة وأوضاع المرأة العربية عبر صور إعلاميات الرأي والمراسلات الحربيات على أساس المهنية وليس على أساس جندري
"
الجزيرة بدرجة أولى، والفضائيات العربية بدرجة ثانية، نجحت في تطوير مكانة وأوضاع المرأة العربية عبر صور إعلاميات الرأي والمراسلات الحربيات على أساس المهنية الخالصة، وليس على أساس جندري، مثلما كان عليه الحال في السابق، بعد أن فقد الأمل إثر تفاقم ظاهرة تنميط صور المرأة وبتر أدوارها لا سيما على يد الفضائيات التجارية والمتخصصة في ميادين التسلية والترفيه التي انتشرت كالفطر في فضائنا العربي.
 
واليوم، بعد أن أثبتت المرأة العربية في الثورات الأخيرة  قدرتها على المشاركة الفعلية في تقرير مصير مجتمعها، ونجحت في رفع الصوت عاليا وفي تحريك الشارع العربي (أسماء محفوظ وإسراء عبد الفتاح ولينا بن مهني على سبيل المثال) بشكل شهد له وآمن به العالم أجمع، وهو ما تجسد في حصول الناشطة اليمنية والصحفية توكل كرمان على جائزة نوبل للسلام نتيجة لجهودها ونضالها المستمر في سبيل تحرير بلدها من ديكتاتورية النظام الحالي، لم يعد من الممكن العودة إلى الوراء في مشوار نضال المرأة الطويل نحو المساواة الفعلية مع الرجل لا سيما في الوصول إلى مراكز القرار في المؤسسات الإعلامية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.