تحوّلات المنطقة والتحوّلات المضادة

العنوان: تحولات المنطقة والتحولات المضادة


الثورة العربية التي يشترط عليها كثيرون تحقيق معجزات مزمنة حتى يرفعوا عنها شبهة المؤامرة، ليست "شمشوم" القابع في  مخيلة الذين ينتظرون هبوط المعجزات على القاعدين. فهي تنوء بأثقال الثورات المضادة الخارجية والداخلية في ظروف عالمية مأزومة لكن حركات جماهيرية واسعة في اليونان وإسبانيا لم تستطع أن تخرق شباكها بركلة قدم.
 
وتنوء أيضاً بأثقال معارضات سياسية وثقافية تركب على الثورة لإجهاضها. وإضافة إلى كل هذه الأعباء لا تجد الثورات العربية نموذجاً يساعدها على الاقتداء به، فالنماذج الثورية ما قبل العولمة النيوليبرالية ولدت في ظروف أساسها المحلي والإقليمي وقد نسختها المتغيرات المعولمة أو تكاد.
 

"
لا يرتهن مآل الثورة بالحواجز التي تقيمها الثورة المضادة والمعارضات الانتهازية أمام أهداف الثورة، بل يرتهن مآلها بإصرار أهل الثورة على الاستمرارية ما لم تنجح الثورة المضادة بهزيمتهم
"
إنما الثورة هي في نهاية المطاف مسار ناس مقابل ناس، ومصالح وطموحات مقابل مصالح وطموحات. وفي هذا المسار الذي يطول أو يقصر لا يرتهن مآل الثورة  بالحواجز التي تقيمها الثورة المضادة والمعارضات الانتهازية أمام أهداف الثورة، بل يرتهن مآلها بإصرار أهل الثورة على الاستمرارية ما لم تنجح الثورة المضادة بهزيمتهم.
 
وأهل الثورة العربية مصرّون على الاستمرارية في الميادين وبين الناس وإلى جانبهم. فقد حررتهم صناعة الثورة من الإحباط المنقول في تكرار الهزائم. وحررتهم من البلادة الذهنية الموروثة في ثقافة المراهنة على قائد ملهَم وحزب من الأتباع.
 
وحررتهم كذلك من خوف الثورة الذي عقد ألسنة أجيال المعارضات السياسية والثقافية طيلة أربعة عقود طغت عليها أساطير"الواقعية السياسية". فأهل الثورة هم بسطاء الناس وشبابها منهم إسلاميون وليبراليون وقوميون ويساريون لكنهم ثوار. وعلى يمينهم إسلاميون وليبراليون وقوميون ويساريون لكنهم ليسوا ثواراً بل انتهازيون يعملون على إجهاض الثورة طمعاً بالسلطة.
 
والثورة أبعد من الشباب الثائر وأعمق فقد أنجبتهم ولم ينجبوها. فهي تعبير عن نهاية منظومة بنى فكرية سياسية اقتصادية اجتماعية لم تعد قابلة للاستمرار. وتعبير عن دينامية المجتمعات العربية في توليد محرّكات تاريخية على الرغم من استبداد السلطات وعقم المعارضات التي دأبت منذ عقود على ندب "تخلّف" المجتمعات العربية وما زالت. وليس على مستوى أحداث كل بلد بمفرده يمكن قراءة أبعاد الثورة ومآلها، فمثل هذه القراءة هي استمرار لقراءات عقيمة مستمرة منذ أول عهدها بالردّة.
 
وليس على مستوى دوغمائيات التيارات السياسية والثقافية يمكن قراءة الثورة، فمثل هذه القراءة هي أيضاً استمرار للقراءات العقيمة نفسها التي ما تزال تظن أن وصولها إلى السلطة يكفي المؤمنين شرّ القتال. بل على مستوى أثر المتغيرات الكونية الفكرية السياسية الاقتصادية الاجتماعية  في تحوّل المجتمعات، يمكن قراءة متغيرات الحقل الإقليمي وفي كل بلد.
 

الثورة العربية هي ردّ على تحولات إقليمية دولية بدأت في منتصف السبعينيات وما زالت تجدد نفسها قفزة بعد قفزة بمزيد من التفكيك والانهيار. ففي منتصف السبعينيات وبعد حرب أكتوبر عام 73 على وجه التحديد، بدأت السلطات العربية بتحوّل إقليمي دولي أطلقته هزيمة 67.
 
فهذا التحوّل هو بمثابة زلزال أدى إلى ولادة إسرائيل على ما هي عليه اليوم خلافاً لولادتها الأولى عام 48، لكنه أدى أيضاً إلى انهيار المجتمعات العربية في تبعيتها إلى إستراتيجيات ومصالح الدول الصناعية الغربية وإسرائيل.
 
ولم تكن الهزيمة العسكرية سبباً تلقائياً للانهيار إنما كانت سبب الانهيار السياسي الذي ولّد الانهيار. ففي أواسط السبعينيات، إثر ما سمي بـ"الأزمة النفطية الكبرى" تحديداً، استثمرت الدول الصناعية ومؤسساتها الدولية "أزمة الشرق الأوسط" للعودة بثقلها إلى البلدان التي تراجعت عنها فترة قصيرة بعد إزالة الاستعمار في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية.
 
وقد ربطت حصان طروادة في كل مكان عادت إليه بثقافة نبذ العنف من طرف الذين يتعرّضون إلى العنف البوليسي والسياسي والاجتماعي، لكنها ربطته في الشرق الأوسط بثقافة السلام مع إسرائيل. لقد عادت إلى الشرق الأوسط من البوابة الإسرائيلية وفرضت على البلدان التي عادت إليها أن تمر بالبوابة الإسرائيلية ذهاباً وإياباً نحو عواصم الدول الصناعية ومؤسساتها الدولية.
 
وعلى الأثر أخذت المجتمعات العربية تتفكك أكثر فأكثر في مجرى التبعية إلى إستراتيجيات وسياسات الدول الصناعية على جميع المستويات الداخلية والخارجية. وقد ألغت هذه السياسات دور الدولة الناظم للأمن القومي في السياسة الدفاعية ودورها الناظم للمصلحة الوطنية العليا في السياسة الخارجية، كما ألغت دورها الناظم للاستقرار الاجتماعي في السياسة الاقتصادية الاجتماعية.
 
تعمّق هذا التحوّل وتوسّع في قفزة الثمانينيات بعد هزيمة المقاومة الفلسطينية في بيروت عام 82، ثم في قفزة العولمة النيوليبرالية في أواسط التسعينيات. فهذه العولمة هي -دون شك- نتيجة انفجار تطور التقنيات وتراكم الرساميل في الشركات العملاقة والتحوّل من الاقتصاد الحقيقي إلى الاقتصاد الوهمي في المضاربات المالية والبورصات، لكن هذا الانفجار أدى إلى أزمة البحث عن أسواق ومواد أولية في وقت بدأت تعزّ فيه مجالات الاستثمار وبدأت فيه الدول الصناعية الجديدة (الصين، الهند، روسيا، البرازيل، النمور الآسيوية…) تتوسّع في المنافسة الدوليّة.
 
في هذه اللحظة تلاقت مصالح الدول الصناعية القديمة والجديدة على قواعد جديدة للمنافسة وتوسّع النفوذ خوف الاصطدام العسكري العاجل كما حدث في الحربين العالميتين. وقد تلاقت عملياً على تبادل المصالح في حرية التجارة والسوق والاستثمار الأجنبي بين حوالي أربعين دولة على حساب تفتيت وشرذمة أكثر من 150 بلداً في مقدمتها البلدان العربية الغنية بالثروات الطبيعية والبشرية.
 
وما كانت الدول الصناعية الغربية يمكن أن تفتح أسواقها -والسوق الدولية للصين على وجه الخصوص- لولا أن ضمنت تبادل المصالح في غزو العراق والسيطرة على الشرق الأوسط. ومرّة أخرى عادت الدول الصناعية توسّع نفوذها في البلدان العربية على حصان طروادة الاقتصاد الاجتماعي بمزيد من التخريب.
 

"
كما أتاحت هزيمة 67 العسكرية تحوّل السلطات العربية إلى التبعية عبر الانفتاح الاقتصادي، أتاح احتلال العراق المزيد من التبعية عبر حرية التجارة والسوق والاستثمار الأجنبي المباشر
"

وكما أتاحت هزيمة 67 العسكرية تحوّل السلطات العربية إلى التبعية عبر الانفتاح الاقتصادي، أتاح احتلال العراق المزيد من التبعية عبر حرية التجارة والسوق والاستثمار الأجنبي المباشر. ففي عقدين من الزمن استشرى فساد السلطات وزبائنها من رجال المال والأعمال عبر بيع الأراضي وبيع القطاعات الحكومية والثروات الطبيعية "لتشجيع الاستثمار". وعبر حرية التجارة والسوق في تصدير المواد الأولية الخام واستيراد كل شيء من السوق الدولية.

 
وهذه التبعية هي التي غذّت الاستبداد السياسي في إفساد المؤسسات العامة وأجهزة الأمن والإدارات الحكومية وقطاعاً واسعاً من الإعلاميين والمثقفين وأساتذة الجامعات الذين يتغذّون من انهيار الدولة والعلاقة الزبائنية مع السلطة.
 
وقد وطّدت هذه التبعية تشابك المصالح الخاصة بين السلطات ورجال المال والأعمال ومثقفي السلطان من جهة وبين أمن إسرائيل ومصالحها الإستراتيجية من جهة أخرى. فما من اتفاق تجاري محض بين السلطات العربية والدول الصناعية ومؤسساتها الدولية دون أن يضمن حصة السلطة من الصفقات والعمولات، ودون أن يضمن مصالح إسرائيل الاقتصادية (اتفاقيات الكويز، الشراكة الأوروبية، التجارة الحرة، اتفاقيات أوسلو وملحقاتها في البروتوكول الفرنسي…) ودون أن يضمن أولاً أمن إسرائيل و"إستراتيجية السلام" في تشريع العنف الإسرائيلي ونبذ الرد على العنف.
 
نتيجة هذه التبعية المتجددة استشرت البطالة في البلدان العربية وانهارت الزراعة والأمن الغذائي وانهارت الأرياف والمدن والتعليم والصحة والعمارة والسكن والتضامن الاجتماعي. واستشرى التنافس الفردي وارتفعت معدلات الجريمة المنظّمة والسوق السوداء والعشوائيات.. إلخ.
 
ونتيجة هذه التبعية المتجددة احتلت الولايات المتحدة وإسرائيل الأمن القومي العربي والفراغ السياسي وإلى جانبهما دول الاتحاد الأوروبي. وفي مثل هذا الانهيار الشامل لا مفرّ من أن تحتمي السلطات الفاسدة بأجهزة الأمن التي تتغذى على الفساد، في التغوّل والقمع والتعذيب. وأن تحتمي كذلك بكل أصناف المطوّعين من فنّانين ورجال دين وإعلام وتلامذة خبراء المؤسسات الدولية ومثقفي العولمة النيوليبرالية من كل حدب وصوب.
 
فحين نبحث عن الاستبداد السياسي في البلدان العربية بغير دوغمائيات مسبقَة لا نجد غير وقائع هذه السياسات التي أدّت إلى الاستبداد السياسي. وهكذا هو الأمر في حال البحث عن تغيير الاستبداد السياسي لا نجد غير تغيير وقائع هذه السياسات.
 
لكن الأقاويل التي تدور في معظمها الغالب حول معتقدات إسلامية وعلمانية وقومية ويسارية في دمقرطة السلطة ومكافحة الاستبداد السياسي، لا يقارب أي منها سبُل تغيير أي من هذه السياسات التي أدّت إلى الاستبداد السياسي. أو أي أمر إستراتيجي في تفكيك التبعية إلى إستراتيجيات وسياسات الدول الصناعية وإسرائيل.
 
بل على العكس من ذلك اتخذت من الاستبداد السياسي معتقداً ذهنياً لكي تحاربه بمعتقد ذهني آخر. إنما الليبراليون أكثر جرأة في التعبير من التيارات الأخرى، وهم في غالبيتهم الساحقة نيوليبراليون يجاهرون بانحيازهم إلى أسس سياسات السلطات العربية في تبعيتها إلى السوق الدولية وإلى إستراتيجيات ومصالح الدول الصناعية وإسرائيل.
 
وجلّ ما يطمحون إليه هو تحسين إدارة السياسات نفسها عبر حرية انتخاب السلطة وتعزيز الحريات الفردية لتسهيل أعمال حرية التجارة والسوق والاستثمار الأجنبي المباشر. وفي ظنهم تقليد تجربة الولايات المتحدة وأوروبا كما في ظن الإسلاميين تقليد تجربة تركيا وفي ظن القوميين واليساريين تقليد تجربة الصين أو البرازيل.
 
لكن كل هذه التجارب اعتمدت على توسّع النفوذ والمصالح ولم تعتمد على معتقدات ذهنية في الثقافة السياسية. فضلاَ عن ذلك تعاني كل هذه التجارب أزمة استمرارية ما لم تجد مزيداً من الفراغ والأسواق لتوسّع نفوذها ومصالحها.
 
فتركيا على سبيل المثال -وهي آخر العنقود بين الدول الطامحة للصعود- لم تقم قائمتها دون تحقيق مشروع الغاب على حساب سوريا والعراق من مياه دجلة والفرات. ودون توسّع نفوذها ومصالحها في آسيا الوسطى استناداً إلى مشروع الغاب في التصنيع الزراعي على غرار سنغافورة.
 
وهي تحاول الاستثمار في الثورات العربية لتوسيع نفوذها ومصالحها التجارية والاقتصادية. لكن دولاً أخرى تحاول الاستثمار أيضاً لتعزيز نفوذها ومصالحها، وفي طليعتها أميركا وأوروبا. كما أن روسيا والصين اللتان خسرتا العراق وليبيا لن تقفا مكتوفتي الأيدي بعد ليبيا.
 
وإيران من جانبها تنتظر أن تصب الثورات العربية في طاحونتها بسبب ضعف اقتصادياتها غير العسكرية. والبلدان العربية بدورها لا تقوم قائمتها دون تفكيك تبعيتها السياسية والدفاعية والاقتصادية الاجتماعية إلى إستراتيجيات ومصالح الدول الصناعية القديمة والجديدة على السواء.

"
لا تقوم قائمة البلدان العربية دون تفكيك تبعيتها السياسية والدفاعية والاقتصادية الاجتماعية إلى إستراتيجيات ومصالح الدول الصناعية القديمة والجديدة على السواء
"

وهذا أول المطاف في إمكانية تبادل المنفعة والارتقاء المشترَك في الحقل الإقليمي.

ولا يستطيع أي بلد عربي بمفرده أن يخطو خطوة جديّة في هذا السبيل حتى إذا وصل إلى السلطة عباقرة القوم وأخيارهم. كما لا تستطيع بلدان الحقل الإقليمي تبادل المنفعة والمصالح العليا المشتركة على أساس منظومة حرية السوق والتجارة والاستثمار الأجنبي، بل على أساس دور الدولة في تنظيم الاقتصاد الاجتماعي بين القطاعين الصغير والكبير والاستثمار المشترَك والإدارة المشترَكة بين بلدان الحقل في القطاعات الإستراتيجية وفي السياسة الدفاعية والخارجية.

 
عبّرت الثورة عن ردّ المجتمعات العربية على سياسات التبعية والتفكيك والانهيار. وعبّرت عن نهاية منظومة بُنى سياسية اقتصادية اجتماعية لم تعد قابلة للاستمرار في شكل الحكم وفي تفكيك المجتمعات. وعبّرت كذلك عن لحمة المجتمعات العربية وديناميتها خلافاً لأقاويل حكامها ونُخبها السياسية والثقافية.
 
لكن الثورة المضادة الخارجية والداخلية تستثمر أيضاً في هذه المتغيرات نحو مزيد من التفتت والتفكيك الأفقي الاجتماعي والعصبي الطائفي والعرقي. وهي تستثمر على وجه الدقة في تأييد الثورات من أجل تجديد السياسات السابقة نفسها. وما زال الثوار في الميادين إلى جانب بسطاء الناس يُسقطون السلطات أملاً بإسقاط سياساتها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.