المرأة السعودية في السياسة

المرأة السعودية في السياسة - الكاتب: بدر الإبراهيم


 
في العقد الأخير مثلت قضية المرأة وحقوقها مادة دسمة للاشتباك الفكري بين النخب الليبرالية والتيار السلفي في السعودية، وبرزت نقاشات حادة وطويلة تمحورت في الأساس حول تمكين المرأة اجتماعيا، وتم التركيز بوضوح على قضيتي قيادة المرأة للسيارة والاختلاط بين الجنسين في الأماكن العامة، حيث شغلتا الرأي العام واستمر النقاش حولهما طويلا ولا زال.
 
ومع الانقسام حول هذه القضايا بين مؤيد ومعارض، حاول المسؤولون في الدولة إمساك العصا من المنتصف إعلاميا عبر التصريحات التي ترمي الكرة في ملعب المجتمع وجاهزيته للقبول بتغييرات مثل هذه، لكن هذا كان يعني عمليا رفض إعطاء المرأة حقوقها الاجتماعية حفاظا على الطابع الديني للدولة وإرضاء للحليف السلفي.
 
غير أن قرار العاهل السعودي بالسماح بمشاركة المرأة عضوا في مجلس الشورى ومنحها فرصة التصويت والترشح في الانتخابات البلدية جاء مفاجئا لكثيرين، لكن المسألة لم تكن مثيرة للجدل والنقاش الحاد كما هو الحال في قضية قيادة المرأة للسيارة، ولذلك كان وقعها اجتماعيا أخف، ومع ذلك تم تفسير القرار وفق آليات الصراع القائم بين السلفيين والليبراليين حول موضوع المرأة، رغم أن القرار يحتاج إلى قراءة أوسع على صعيد وضع المرأة والمشاركة السياسية في البلاد بصفة عامة وكيفية تعاطي الدولة مع ملف المرأة، كما يحتاج إلى فهم لطبيعة الرؤية الفكرية القائمة لدى الفريقين المتصارعين في قضية المرأة وحقوقها وانعكاس هذه الرؤية على ردة فعلهما تجاه هذا القرار.
 
مجموعة النخب الليبرالية المنادية بحقوق المرأة تبدو وكأنها لا تعرف من الليبرالية غير النسوية، فطرحها يبدأ بالمرأة وينتهي بها، ومن النادر أن تجد في الطرح الليبرالي السعودي شيئا جادا حول الليبرالية السياسية ومسألة التحول الديمقراطي، ولا حول الفساد المستشري في البلاد وآليات مكافحته، فقد اختارت معظم هذه النخب حصر طرحها في الليبرالية الاجتماعية، واعتبار حقوق المرأة الاجتماعية وتحررها قضيتها شبه الوحيدة، ويعود هذا الأمر لضيق أفق فكري وسياسي عند البعض، ولأسباب "غير فكرية" بالمرة عند البعض الآخر.

 

"
غاية الليبرالية عند الليبراليين هي تمكين المرأة من قيادة السيارة، ورغم أن هذا المطلب المشروع هو حاجة ملحة لأكثر النساء في المملكة، فإن حصر النقاش الفكري فيه يعد عجزا فكريا وسياسيا
"
إن غاية الليبرالية عند هؤلاء هي تمكين المرأة من قيادة السيارة، ورغم أن هذا المطلب المشروع هو حاجة ملحة لأكثر النساء في المملكة، فإن حصر النقاش الفكري فيه يعد عجزا فكريا وسياسيا، لا سيما إذا اقترن بالتملق للسلطة وتحريضها علنيا على الخصوم السلفيين، والتخلي عن أي مطالب حقوقية أخرى أو سياسية متعلقة بالمشاركة الشعبية كثمن للحصول على مكاسب تتعلق بالحريات الاجتماعية خاصة للمرأة.
 
يصاحب ذلك توجس واضح من التحول الديمقراطي باعتباره وسيلة لتمكين السلفيين بشكل أكبر في مؤسسات الدولة، بما يهدد مطالب التحرر الاجتماعي التي تسعى إليها هذه النخب.
 
موضوع المرأة بالنسبة لهذه النخب هو القضية المركزية، وبالتالي فإن قرار إشراك المرأة في مجلس الشورى المعين "نصر تاريخي" لهؤلاء، وفتح عظيم على مستوى المشاركة السياسية، رغم أن مجلس الشورى والمجالس البلدية تفتقر لأبسط مقومات المشاركة السياسية الحقيقية والفاعلة، وردة الفعل هذه على القرار تؤكد المؤكد فيما يخص غياب كل الأبعاد الأخرى غير البعد النسوي عن الطرح الليبرالي السعودي.
 

تمكين المرأة هو الهدف الأكبر، وأي تقدم في هذا الإطار هو نصر تاريخي وإستراتيجي كبير، هكذا ينظر الليبراليون النسويون إلى الأمور، مغفلين كل القضايا التي تعاني منها المرأة والرجل في المجتمع.
 
فريق الذرائع

تقوم رؤية التيار السلفي على نسوية معاكسة أو سلبية إذا جاز التعبير، عبر التضاد مع كل طرح يرمي إلى تحرير المرأة من القيود الاجتماعية، إما بحجة تناقض هذا التحرر مع الدين والعقيدة، أو باستخدام قاعدة "سد الذرائع" لتحريم المباحات خوفا من الوقوع في المحرمات، وقد أدى استخدام هذه القاعدة بإفراط إلى وقوع غالبية الأمور المتعلقة بالمرأة وحتى بالمجتمع بشكل عام في دائرة المحرمات.
 
لا يختلف التيار السلفي كثيرا عن النخب الليبرالية في تركيزه المستمر على قضية المرأة وحقوقها الاجتماعية، ولا يرتبط مفهوم الفساد عنده بنهب المال العام أو بقضايا الفساد الإداري والسياسي، بل بالاختلاط وقيادة المرأة للسيارة وتمكين المرأة اجتماعيا بشكل عام، إضافة إلى ذلك لا يعنى التيار السلفي كثيرا بمسألة المشاركة السياسية، بل إن أدبيات السلفيين إما ترفض الديمقراطية أو تتصالح معها جزئيا حين تكون مناسبة لمصالحها، لكن المظهر العام للفكر السلفي هو التماهي مع السلطة السياسية وممانعة التغيير بأي شكل.
 
لكن بخلاف النخب الليبرالية يعد التيار السلفي شريكا في الحكم وفي مؤسسات الدولة على قاعدة التحالف التاريخي المستمر والنظر إلى السلفية الوهابية بوصفها عقيدة لنظام الحكم، ويجد السلفيون أنفسهم معنيين بالحفاظ على الهوية الإسلامية السلفية للدولة والمظاهر العامة الدالة على تلك الهوية، وهم يرون في تمكين المرأة ذريعة لتحويل المجتمع باتجاه التغريب والعلمنة.
 

"
التوتر السلفي من المرأة هو في أعلى درجاته في الجانب الاجتماعي لا السياسي، والخوف أن يكون التمكين السياسي بداية لسلسلة من الإجراءات "التغريبية"
"

سلفية المؤسسة الدينية الرسمية هي سلفية دعوية، تركز على الجانب الفقهي والعقائدي وتترك ما لقيصر لقيصر، فلا شأن لها بصناعة القرار السياسي في الداخل والخارج، لكنّها تعطي بركتها لولي الأمر الواجب طاعته، وهو ما يجعل موضوع المرأة أهم مكسب تمنحه السلطة السياسية للشريك السلفي بكل أريحية، حيث يصبح الحَجْر على المرأة مكافأة للتيار السلفي الذي لا يسائل الدولة ومؤسساتها في أي أمر آخر.

 

من هنا ينظر السلفيون بتوجس لقرار مشاركة المرأة سياسيا، وقد تحدث بعض المشايخ علنا حول المسألة مبدين اعتراضهم ومقرين في نفس الوقت بحق ولي الأمر في اختيار ما يراه مناسبا لمصلحة البلاد، ويكمن التخوف السلفي تحديدا في احتمالية أن تكون مشاركة المرأة السياسية ذريعة لتمكينها اجتماعيا بما يعني السماح لها بقيادة السيارة، فالتوتر السلفي من المرأة هو في أعلى درجاته في الجانب الاجتماعي لا السياسي، والخوف أن يكون التمكين السياسي بداية لسلسلة من الإجراءات "التغريبية".
 
جاهزية المجتمع

كان الحديث الرسمي في السعودية يدور غالبا حول جاهزية المجتمع لأي تغيير سياسي أو اجتماعي، وكانت التصريحات الموجهة للخارج غالبا تحدد جاهزية المجتمع شرطا للمضي في تغييرات اجتماعية وسياسية، لكن القرار الأخير بخصوص مشاركة المرأة سياسيا أنهى هذا الحديث وقدم نموذجا عمليا على قدرة القرار السياسي على إحداث التغيير دون انتظار جاهزية المجتمع ولا التدرج في تطبيق التغيير.
 
حين يقال "الأمر عائد إلى المجتمع" فإن هذا يستحق التوقف عنده من جهتين، الأولى هي مسألة الاستفتاء في الحقوق، فالمسألة هنا تتعلق بحق المرأة في قيادة سيارتها أو المشاركة في الانتخابات، ولا يجوز أن يكون الحق الإنساني عرضة للاستفتاء العام، فالمسألة مبدئية وتتعلق بحق أساسي لا بشأن خاضع للتداول، وهذا الحق يمكن لمن يريد ممارسته أن يفعل كما يمكن لمن لا يريد ألا يفعل.
 
الجهة الثانية هي آليات قياس رغبات المجتمع، فمن يطرح العودة إلى المجتمع عليه أن يوضح كيف تكون هذه العودة، وفي ظل غياب الآليات الديمقراطية من استفتاء وانتخاب، وغياب مراكز الأبحاث والدراسات التي يمكن لها أن تقيس بشيء من الدقة اتجاهات الرأي العام في هذه القضية، كيف يمكن العودة إلى المجتمع ليقرر؟!
 

"
قرار مشاركة المرأة في السياسة جاء ليؤكد أن القرارات المتعلقة بالمرأة وبغيرها لا تتعلق بالمجتمع بل بتوفر الإرادة السياسية، وهذه الإرادة حين تكون حاضرة لا تحتاج إلى فتوى لإضفاء الشرعية
"

الدعاية الرسمية تقول بعدم جاهزية المجتمع للخيار الديمقراطي، وعليه كيف يمكن قياس جاهزيته لخيار اجتماعي طالما هو غير جاهز أصلا لمنح صوته لأي خيار من الخيارات حتى تلك المتعلقة بالشؤون المحلية؟! (المجالس البلدية نصف منتخبة بلا صلاحيات حقيقية وهنا لا تبدو الثقة بخيار الجمهور قائمة)، ويتضح من هذا كله تناقضات الدعاية الرسمية واتخاذ قضية جاهزية المجتمع واجهة لرفض يأخذ طابعا دبلوماسيا للتوسع في منح الحريات الاجتماعية أو السياسية.

 

القرار المتعلق بمشاركة المرأة جاء ليؤكد أن القرارات المتعلقة بالمرأة وبغيرها لا تتعلق بالمجتمع بل بتوفر الإرادة السياسية، وهذه الإرادة حين تكون حاضرة لا تحتاج إلى فتوى لإضفاء الشرعية ولا إلى تمهيد اجتماعي، لكنها حين تغيب يتم التذرع بالممانعة الدينية والاجتماعية عائقا في وجه التغيير المنشود، كما تستخدم فكرة التدرج في هذا الإطار في حين لا تبدو هذه الفكرة سوى مسوغ آخر لتعطيل أي تغيير في الواقع القائم.
 
الوعي الشعبي
هناك أسطورة يتم الترويج لها منذ سنوات ويستغل القرار الأخير في التأكيد عليها، وهي تقدم السلطة على الشعب، فهي أكثر منه حداثة وقدرة على فهم حاجات الحاضر والمستقبل وأكثر استعدادا منه للتغيير، وأنها تصطدم بممانعته العائدة إلى عدم نضجه كلما فكرت في الإقدام على خطوة تغييرية أو تحديثية في أي مجال من المجالات.

 
يقال بعد هذا القرار إن الأمر لو عاد إلى المجتمع لما وصلت المرأة للمشاركة السياسية إلا بعد عقود طويلة، ويتم ربط هذا القرار بسلسلة قرارات أخرى اصطدمت الحكومة عند إطلاقها بممانعة شريحة واسعة من المجتمع تتوجس من كل تجديد وتنطلق من رؤى محافظة في رفض تلك القرارات.
 
إذا افترضنا صحة هذه الأسطورة، واعتبرنا السلطة أكثر تقدمية من المجتمع، فيحق لنا أن نسأل: كيف بقي هذا المجتمع سبعين عاما أو أكثر في نفس المستوى من "التخلف"؟!، وما قيمة التعليم والتحديث الذي تقوم به الدولة إذن؟! إن بقاء المجتمع أسير تخلف لا شفاء منه دلالة على فشل ذريع للدولة في القيام بمهمتها الأساسية في تحديث هذا المجتمع وتطويره، ومن يروج لهذه الأسطورة يقصد -من حيث لا يدري- أن الدولة هي من أوجدت هذه البيئة المتخلفة وعززتها، وأنها في أقل الأحوال لم تبذل جهدا لتغييرها.
 
إذا افترضنا صحة الأسطورة وأن القرار جاء ليؤكدها، فما الذي يمنع الدولة من فرض نمط حداثي على المجتمع وإخراجه من براثن التخلف؟ فالقرار جاء رغم ممانعة اجتماعية ودينية مفترضة، ومثله جاءت قرارات أخرى في الماضي والحاضر، وتقبلها حتى الممانعون بعد فترة من الزمن، فلماذا لم تسع الدولة لتطبيق حداثتها في كل المجالات؟!
 

بعيدا عن الأساطير يبدو الواقع مغايرا، فهذا القرار الذي يسمح بمشاركة المرأة في مجلس الشورى والمجالس البلدية لا يعني التأسيس لمشاركة المرأة سياسيا، فالمشاركة السياسية لا زالت بعيدة عن الرجال والنساء بشكل عام في ظل وجود مجالس معينة (الشورى) ونصف منتخبة (البلدية)، وهو ما دعا إلى مقاطعة شعبية حقيقية وشاملة للانتخابات البلدية التي أجريت في نهاية سبتمبر/أيلول الماضي ردا على غياب الصلاحيات عنها، وهو ما يدلل عمليا على تقدم الشعب ووعيه وقدرته على التعبير عن حاجاته بطرق مختلفة وإيصال رسالة واضحة بشأن مطالبه بالتحديث والإصلاح.
 

"
قرار مشاركة المرأة الذي تستفيد منه نخبة من النساء لن ينعكس تحسنا في أوضاع معظم نساء المملكة, وبالتالي فإن معرفة حدود الخطوة مهمة للحراك النسوي كي لا يقع في فخ التخدير الحقوقي
"

سلاح ذو حدين
رغم أن القرار يفتح الباب أمام المشاركة السياسية للمرأة فإن هذه المشاركة لن تتحقق في ظل غياب مؤسسات منتخبة وفاعلة، كما أن هذا القرار الذي تستفيد منه نخبة من النساء لن ينعكس تحسنا في أوضاع معظم نساء المملكة الاقتصادية والاجتماعية، وبالتالي فإن معرفة حدود الخطوة هامة للحراك النسوي كي لا يقع في فخ التخدير الحقوقي.

 
المشاركة السياسية ما زالت بعيدة عن كل المواطنين، والأكيد أن هذه المشاركة القائمة على أرضية قانونية ومؤسساتية سليمة ستسهم في معالجة العديد من قضايا المرأة سواءً تلك المتعلقة بها أو القضايا التي تشترك في المعاناة منها مع شريكها الرجل.
 
يمكن للنسوية أن تكون جزءا من خطاب إلهائي يحيل إلى نقاشات هامشية بعيدا عن القضايا الجوهرية عبر النظر إلى حقوق المرأة غاية نهائية أو ذريعة للفساد الاجتماعي يجب سدها، ويمكن لها أن تكون ضمن خطاب حقوقي شعبي عام يطالب بالتأسيس لدولة القانون على قاعدة عدم إمكانية فصل المطلب الحقوقي للمرأة عن المطلب الحقوقي للمواطنين جميعا، واعتبار التغيير السياسي مدخلا طبيعيا للتغيير الثقافي والاجتماعي الذي يحفظ حقوق الجميع ويزيل أوجاع فئات المجتمع المختلفة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.