حتى لا يصبح القذافي شهيداً

حتى لا يصبح القذافي شهيداً


من رومانسية الثورة المصرية إلى دموية اقتلاع القذافي
صناعة العقد الاجتماعي الليبي الجديد
إما الوطن للجميع أو الجميع بلا وطن
الثورة تزيل الطبقات الاجتماعية لا تصنعها
الشعب مصدر السلطة وليس السلاح
أفعال القادة الجدد تقرر: هل القذافي بطل أم طاغية؟

تتقاطع تفاصيل مقتل القذافي مع زميله صدام حسين من عدة نواح: فكلا الرجلين أخضعا بلديهما لدكتاتورية استمرت عقوداً، وكلا الرجلين تشبثا بالحكم عناداً حتى النهاية وأبيا الرحيل بقدر أدنى من الكرامة وحفظ الذات، وكلا الرجلين تطلّبا تدخلا دولياً لقلعهما قلعاً عن كرسييهما، وكلا الرجلين توهّما دعما جماهيريا لم يأتِ قط، وكلاهما عُثر عليه بعد ذلك في حفرة تحت الأرض: القذافي بأنبوب للمجاري وصدام بحفرة داخل مزرعة، ثم كلاهما قُتِل في النهاية وإن اختلفت طريقة القتل وسياق التنفيذ.

ومع مراعاة الفروق الموضوعية بين العراق وليبيا واختلافاتهما الجوهرية فيما يتعلق بتركيبة المجتمع والسياقات التاريخية والسياسية وغيرها، إلا أن ما يجري في ليبيا يجرنا جراً لاستحضار الصورة العامة لحرب العراق.

فالصور التي بثها الإعلام عن القذافي في آخر لحظاته ممسوكا من قبل الثوار، وسط صيحات متداخلة وضربات عشوائية تنهال عليه، ثم طريقة موته الغامضة، توجز نوعاً من الذهول والاضطراب الطبيعي الذي تعيشه ليبيا الجديدة بعد مخاض ولادتها العسير.

لكن هذا الاضطراب ينبغي أن يكون مؤقتا ويسرع الليبيون إلى تحجيمه حتى لا يخوضوا بشاعة ما جرى في العراق من بعد رحيل صدام.

"
مع ضخامة "الفعل" الذي قام به القذافي ونظامه لقمع ثورة شعبه، فإن "ردود الأفعال" -قد- لا تقل خطورة على ليبيا من الفعل الأصلي نفسه
"

من رومانسية الثورة المصرية إلى دموية اقتلاع القذافي
يجمع كثيرون على أن الثورة المصرية شكلت قالبا هيّأ لانبثاق الثورات في ليبيا وسوريا واليمن فضلا عن بعض الحراكات في دول أخرى.

فالثورة المصرية جرت بتلاحم شعبي كبير ووحدة رائعة بين مكوناته التقت مع وقوف الجيش لجانبها، وأجبرت مبارك على التنحي تحت ضربات "فيسبوك" وصيحات ساحة التحرير، إلا أن القذافي قذف بالدم على مشهد رومانسية الثورة المصرية صانعا مشهدا آخر مليئا بالأهوال استمر شهوراً حتى سقوطه.

ومع ضخامة "الفعل" الذي قام به القذافي ونظامه لقمع ثورة شعبه، فإن "ردود الأفعال" -قد- لا تقل خطورة على ليبيا من الفعل الأصلي نفسه، لأنها ردود محكومة ومجبورة على التعاطي ضمن أفعال النظام السابق، وهذا يكبح من شمولية الثورة ويحجّم –مؤقتا- من انتصارها حتى تصحو ليبيا من ذهول النصر وتستوعب ما جرى بموضوعية وهدوء بعيدا عن العواطف ومقتضيات المخاض العسير.

صناعة العقد الاجتماعي الليبي الجديد
وهنا نحذر الليبيين من الوقوع بفخ ردود الأفعال، لأن ثورتهم يفترض بها صناعة واقع صحيح يستوعب جميع الليبيين ضمن فضاء الحرية والبناء، وهذا يتضمن أفعالاً تبدو ثقيلة على النفسية الليبية الجديدة في ضوء ما قام به القذافي ونظامه.

"
الشعب الليبي أحرق عقده الاجتماعي مع القذافي تماما، عكس نظيره المصري الذي غيّر بعض البنود المتعلقة بماهية الشخص المنفذ لبنود العقد  
"

ونحن نلتمس كل العذر لشعب ليبيا في ذلك، لكن نذكّر هنا أن أساس ثورة ليبيا: نقض "العقد الاجتماعي" الذي خوّل الشعب الليبي -بمقتضاه- القذافي لحكمه، وهو عقد ظل ساريا طوعا في البداية، ثم كرها طوال عقود التسلط والدكتاتورية، والشعب الليبي نقض العقد بسبب خرق القذافي لبنوده.

ونكاد نجزم أن الشعب الليبي أحرق عقده الاجتماعي مع القذافي تماما، وهو بذلك يختلف عن نظيره المصري الذي غيّر بعض البنود المتعلقة بماهية الشخص المنفذ لبنود العقد (نعني الرئيس) ولم يعتبر العقد الاجتماعي خاطئا بل حصل قصور كبير في تنفيذه، وهذا يفسر استقرار الأحوال بمصر فيما بعد الثورة.

ونقض العقد الاجتماعي يعني هدما شاملا لكل البنود المنظمة للعلاقات بين الشعب والحاكم من جهة، والعلاقات بين مكونات الشعب نفسه، والعلاقات بين الدولة ككل والدول الأخرى من جهة أخرى، وهذا الهدم يشابه ذاك الذي جرى في العراق من بعد سقوط صدام، إلا أن الخطأ الذي وقع فيه العراقيون هو قصورهم الشديد في إعادة صياغة عقدهم الاجتماعي، الذي يفترض به الحصول على حد أدنى من الإجماع بين كافة مكونات العراقيين، وهو ما لم يتم أبداً حتى الأن.

إما الوطن للجميع أو الجميع بلا وطن
إذاً ترسخ في وجدان المصريين بشاعة المشهد العراقي المتشظي دون عقد اجتماعي ضمني يجمع مكوناته، وحرصوا إبّان ثورتهم على المحافظة على وحدتهم ودولتهم ضمن عقدهم الاجتماعي، واكتفوا بخلع الجزء المنتهي الصلاحية من نظامهم السياسي، لكن الوضع في ليبيا أعقد من ذلك بكثير.

"
البديل عن صناعة العقد الاجتماعي في ليبيا ما بعد القذافي هو نموذج عراقي جديد في قارة أفريقيا اسمه "ليبيا" وهو ما لا نتمناه أبدا
"

والبديل عن صناعة العقد الاجتماعي في ليبيا ما بعد القذافي هو نموذج عراقي جديد في قارة أفريقيا اسمه "ليبيا"، وهذا لا نتمناه أبدا، ونثق بأن التضحيات الجِسام لليبيين في ثورتهم حاضرة بقوة وتضغط لإيفاء الثورة حقها، لكن ينبغي أن تكون صناعة هكذا عقد (بعد أن نُقِض سابقه تماما) هي أولوية قصوى للقادة الليبيين الجدد.

وأولى معالم هذا العقد: احتواؤه لجميع مكونات الشعب الليبي، بمن فيهم أولئك المحسوبين على النظام السابق، إذ الثورة تنتصر الآن، وجزء من مقياس انتصارها: قدرتها على العفو عند المقدرة، إذ لا يفرز الانتقام والإقصاء سوى مزيد من الاضطراب، كما يحصل الآن في العراق تحت مسمى "اجتثاث البعث".

وهي سياسة تُستخدم لإقصاء مكونات من الشعب تبعا لانتماءاتها الحزبية إبان حقبة صدام، والوطن ينبغي أن يكون للجميع، ومنع رموز النظام السابق من احتلال المراكز القيادية لا ينفي حقهم في العيش مواطنين يتمتعون بحقوقهم الأساسية ضمن مظلة العفو، وهذا الاحتضان ينبغي أن يكون محل إجماع (من قبل التابعين للنظام السابق ومن قبل مانحي العفو أيضا) وفقا لمعيار مصلحة الوطن العليا. والبديل لذلك: خسارة الجميع لوطنهم الجديد المستقر المتعافي من جراح الطاغية.

الثورة تزيل الطبقات الاجتماعية لا تصنعها
وكشأن أي مجتمع يرضخ للظلم والدكتاتورية: عانى الليبيون من طبقية اجتماعية صنعها القذافي تمنح متملقيه والخاضعين له مكانة أعلى من الشعب، وامتيازات في خيرات البلاد وفرصها، على حساب أصحاب الحقوق ودون مراعاة للعدالة في التوزيع، فنشأت طبقة من المظلومين هم من عامة الشعب.

"
العدالة أساس الملك، وذات الأمر ينطبق على الذين شاركوا في الثورة ضد القذافي وضحوا، يجب أن يكافأ المحسن، ويُعزل المسيء، ويعوض المظلوم، وتُمنح المناصب والامتيازات وفقا للأهلية فقط 
"

لكن هذه المظلومية ينبغي ألا تبرِّر الآن سحق طبقة "متملقي القذافي سابقا" مقابل امتيازات تعلي من شأن المظلومين -فقط بسبب مظلوميتهم- إذ ينبغي ألا يصنع العقد الاجتماعي الجديد طبقة أو طبقات اجتماعية جديدة تسحق ما أدناها، فيكون العقد الاجتماعي الجديد صناعة "لحقد اجتماعي جديد".

وهذا رد فعل سلبي حصل في العراق كما يشتكي أصحاب الطائفة السنية من هضم لحقوقهم لحساب الطوائف الأخرى، العدالة أساس الملك، وذات الأمر ينطبق على الذين شاركوا في الثورة ضد القذافي وضحوا، إذ ينبغي مكافأتهم لكن دون خلق طبقة اجتماعية جديدة تضُمهم دونا عن غيرهم أو منحهم امتيازات دون استحقاقات، بل يُكافأ المحسن، ويُعزل المسيء، ويعوض المظلوم، وتُمنح المناصب والامتيازات وفقا للأهلية فقط.

الشعب مصدر السلطة وليس السلاح
وهنا معضلة أخرى ينبغي الحذر الشديد منها: إذ لا عقد اجتماعيا يمكن أن يتم تحت سلطة السلاح المنتشر بأيدي المقاتلين، إذ المصالح متضاربة والأهواء تتوزع بين مختلف الفئات، والسلاح الذي قضى على نظام القذافي يمكن أن يرتد فيقضي على الدولة الليبية الوليدة من خلال تهديده للسلم الاجتماعي.

وهذا إجهاض للثورة، ومصدر لتخريبها من قبل أولئك التابعين للنظام السابق، والطبيعة القبلية للمجتمع الليبي تجعل من انتشار هذا السلاح خطرا داهما، فلا مليشيات ينبغي أن تتشكل ولا سلاح سوى ذاك الذي بيد الجيش.

"
الاحتواء الأهم يتمثل في إعادة هيكلة القوات المسلحة الليبية من خلال دمج مقاتلي الثورة فيها، وسحب السلاح من الشوارع ومن عامة الشعب
"

والاحتواء الأهم يتمثل في إعادة هيكلة القوات المسلحة الليبية من خلال دمج مقاتلي الثورة فيها، وسحب السلاح من الشوارع ومن عامة الشعب، فتجربة العراق وتسليح شعبه جرّت الويلات ولا تزال، والدماء في ليبيا ما زالت حارة في القبور لم تجف بعد عن أكفان قتلاها، والثأر يُعمِي ويتربص بثورة الليبيين.

أفعال القادة الجدد تقرر: هل القذافي بطل أم طاغية؟
لا شماتة في الموت، لكن التاريخ سيشمت بالثورة الليبية الوليدة إن لم تحسن البناء وفقا لمصلحة ليبيا العليا المتعالية على المصالح الشخصية والعواطف، لذا ينبغي التجرد لأجل إعادة بناء المجتمع الليبي وجعل صياغة العقد الاجتماعي الجديد المحتضن لجميع أبنائها ضمن الأولويات القصوى.

فمزاج الشعوب سريع النسيان، وعامة الليبيين سيغيب عن أذهانهم ماضيهم الكئيب مقابل الحاضر وتجلياته في حياتهم الجديدة، والقذافي وإن كان قد تنبأ بمصيره سلفاً قبل عدة سنوات حين خاطب حكام العرب خلال مؤتمر قمة محذراً أن الدور سيشملهم جميعا من بعد إعدام صدام، فكان أولهم لحاقاً به على منصة الموت، إلا أن ثمار الثورة الوليدة هي التي ستجعل منه بطلا أم طاغية.

فكثير من العراقيين يترحمون الآن على أيام صدام متناسين أهواله، بسبب إخفاقات قادتهم، لذا لا ينبغي أن يصبح القذافي بعد سنين قليل "شهيداً" يترحم الناس على أيامه بسبب إخفاقات قادة ليبيا الجدد، وسياسات المجلس الانتقالي الليبي تبشر بكثير من الخير، والقادم أصعب لكن أملنا بالليبيين كبير.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.