إعلان إيتا.. احتضار الإرهاب في أوروبا

محمد فال ولد المجتبى - عنوان الكتاب: إعلان إيتا.. احتضار الإرهاب في أوروبا



– إيتا.. المسيرة والمصير

– سمات الإعلان وسياقه
– ردود الفعل وآفاق المستقبل

يأتي إعلان منظمة إيتا الباسكية بتاريخ الخامس من سبتمبر/أيلول الجاري عن هدنة جديدة متزامنا مع بداية موسم سياسي مشحون في إسبانيا، بسبب تداعيات الأزمة الاقتصادية واقتراب موعد انتخابات محلية وإقليمية تعول عليها الأحزاب الرئيسية لكسب مواقع أفضل استعدادا للانتخابات العامة المقبلة.

وقد تكون إيتا اختارت هذا التوقيت بعناية لمنح إعلانها أكبر أثر سياسي ممكن، في وقت لا تثير فيه مسألة مكافحة الإرهاب خلافا كبيرا بين الحكومة والمعارضة مثلما كان عليه الأمر في مناسبات سابقة.

ورغم حرص الأطراف السياسية الرئيسية على التقليل من أهمية إعلان إيتا وقف هجماتها، فليس مستبعدا أن يثير النقاش حول المسألة الباسكية التي لها تشعبات سياسية ومؤسسية تتجاوز التحدي الأمني الذي تطرحه أعمال العنف.

والأهم أن هذا الإعلان ربما يمثل إقرارا متأخرا بأن تكاليف ممارسة العنف لتحقيق أهداف سياسية لم تعد تطاق، وأن تلك الممارسة أضحت غير ذات جدوى في المجتمعات الأوروبية.


إيتا.. المسيرة والمصير
نشأت إيتا، وهي اختصار لاسم المنظمة باللغة الباسكية ومعناه بلاد الباسك والحرية، يوم 31 يوليو/تموز 1959 بمدينة بِلْباو على يد مجموعة من الطلاب الراديكاليين الذين أرادوها بديلا أيديولوجيا لأطروحات الحزب القومي الباسكي.

واعتمد خطابها على أربعة أركان أساسية هي الدفاع عن اللغة الباسكية، والنزعة العرقية بديلا عن العنصرية، والانفصال عن إسبانيا، واستقلال إقليم الباسك الذي يضم حسب مطالب الحركة مناطق من إسبانيا وفرنسا.

"
شنت الحكومة الاشتراكية حملة أمنية وقضائية غير مسبوقة أدت إلى اندحار إيتا أمنيا وحصارها سياسيا، وأضعفت قدراتها الميدانية ومعنويات عناصرها
"

بعد هذه النشأة، مثل المؤتمر الأول الذي انتظم على الأراضي الفرنسية سنة 1962 الانطلاقة الفعلية للحركة، حيث أعلنت هويتها باعتبارها "حركة ثورية باسكية للتحرير الوطني"، وأطلقت حملة للتبشير ببرنامجها كمنظمة "سرية ثورية تتبنى الكفاح المسلح وسيلة لتحقيق استقلال بلاد الباسك".

ورغم أن الحركة باشرت العمل ضد نظام فرانكو منذ السنوات الأولى لتأسيسها فإنها لم تقم بعمليات ذات أهمية إلا ابتداء من نهاية الستينيات، قبل أن يتكثف نشاطها بصورة خاصة في الفترة الممتدة من أواخر السبعينيات إلى أوائل التسعينيات من القرن الماضي، وإن كان حجم عملياتها ومستواها النوعي ظل عموما يتفاوت تبعا لتقلبات الأوضاع السياسية والظروف الأمنية.

ومنذ 1968 نفذت إيتا عمليات اغتيال وتفجير أسفرت عن مقتل 829 شخصا أكثر من نصفهم ينتمون إلى القوات المسلحة وقوى الأمن الإسبانية.

تتكون إيتا التي عرفت أهم انشقاق في صفوفها بمناسبة مؤتمرها السابع عام 1982 الذي شهد الإعلان عن حل ما يعرف بمنظمة إيتا السياسية العسكرية، من أجنحة سياسية وعسكرية ولوجستية، إضافة إلى مجموعات كوماندوز قارة وأخرى متحركة تتوزع بين الأراضي الإسبانية والفرنسية.

لكن لها أيضا واجهاتها العديدة التي تمثل قنوات للتمويل والدعاية ودعم السجناء وتجنيد النشطاء وتدريبهم فضلا عن تمثيل المنظمة والحديث باسمها.

وتمثلت هذه الواجهات تقليديا في جمعيات شبابية وهيئات نقابية وصحف وأحزاب سياسية.

دخلت جميع حكومات العهد الديمقراطي في مفاوضات مع إيتا وأعلنت الحركة الهدنة أكثر من مرة (11 هدنة منذ 1981)، لكن كل مساعي التسوية تلك كان مآلها الفشل.

وهكذا استمرت إيتا في ممارسة العنف، كما ظلت تتعرض للملاحقة الأمنية والقضائية والضغط السياسي.

ورغم أن مواجهة الإرهاب أخذت طابع الحرب القذرة عندما خرجت قوى الأمن في بعض مراحل الحقبة الأولى لحكم الاشتراكيين عن ضوابط القانون ولجأت إلى وسائل غير مشروعة في مطاردتها للمنظمة، لم تتعرض إيتا لحملة بمستوى شمول وفعالية الحملة التي وجهت إليها منذ فشل المفاوضات التي شهدتها مدينة زيوريخ السويسرية في ربيع سنة 1999 بين الحركة ومندوبين عن حكومة يمين الوسط برئاسة خوسيه ماريا أزنار.

لم تكتف هذه الحملة، التي زاد من نجاعتها التطور النوعي في مستوى تعاون السلطات الفرنسية، بمطاردة قادة إيتا ونشطائها أمنيا وملاحقتهم قضائيا، بل تجاوزت ذلك إلى إدخال تعديلات تشريعية سمحت بالتضييق على الواجهات المرتبطة بالمنظمة بهدف تجفيف منابع تمويلها ومحاصرة شبكات التجنيد والدعم ذات الصلة بها وخنق صوتها السياسي ممثلا بتنظيمات اليسار القومي الراديكالي التي حظرت قانونيا سنة 2002، وزكت هذا الحظر المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في حكم صدر عنها سنة 2009.

وقد نحت الحكومة الاشتراكية نفس المنحى منذ قامت إيتا بخرق الهدنة الأخيرة سنة 2006، حيث شنت حملة أمنية وقضائية غير مسبوقة أدت إلى اندحار إيتا أمنيا وحصارها سياسيا، وأضعفت قدراتها الميدانية ومعنويات عناصرها، خاصة بعد التساقط المتتابع لكل من يختارون لقيادة المنظمة على مستوى أجهزتها العسكرية والسياسية واللوجستية (منذ سنة 1996 حتى الآن اعتقل 2021 من قيادات وعناصر المنظمة).


سمات الإعلان وسياقه
يتميز إعلان إيتا وقف عملياتها الهجومية عن سابقيه بأنه تم من جانب واحد دون تفاوض، ولم يتضمن أي شروط، وأنه دخل حيز التنفيذ قبل إبلاغ وسائل الإعلام به، فإيتا التي لم تقم بعمليات في إسبانيا منذ أغسطس/آب 2009 قالت إن القرار اتخذ فعلا قبل عدة أشهر.

لكن الإعلان ينطوي في المقابل على بعض الجوانب التي تثير الغموض، بالقياس إلى الصيغ التي دأبت المنظمة على اعتمادها في إعلاناتها، إذ تحدث عن الأعمال الهجومية فقط، ولم يحدد نطاق الهدنة، ولا مداها الزمني، وكلها أسباب تحمل على الاعتقاد بأن إيتا -التي تبدو مضطرة لاتخاذ خطوة في هذا الاتجاه- حرصت على صياغة موقفها بحذر في مسعى لتحقيق أكثر من هدف وتوجيه عدة رسائل في الوقت نفسه.

"
تحاول إيتا من خلال هذا الموقف مساعدة قوى اليسار القومي الراديكالي في سعيها لاستعادة الحق في المشاركة السياسية، وهي من جهة أخرى، قد تكون راغبة في اختبار مدى استعداد سلطات مدريد للدخول في مفاوضات جديدة
"

من جهة تحاول إيتا من خلال هذا الموقف مساعدة قوى اليسار القومي الراديكالي في سعيها لاستعادة الحق في المشاركة السياسية، وهي من جهة أخرى قد تكون راغبة في اختبار مدى استعداد سلطات مدريد للدخول في مفاوضات جديدة، وأهم من ذلك اختبار مدى صلابة موقف الأحزاب السياسية والرأي العام وتماسكه بخصوص التعامل مع المنظمة الانفصالية.

وفي الوقت نفسه لا تريد قيادة إيتا أن تعطي الانطباع لقاعدتها الشعبية ومناضليها بأنها غدت منهكة القوى ومستعدة للتفاهم مع الحكومة الإسبانية بأي ثمن.

ومن أجل فهم أفضل للحسابات التي قد تكون انطلقت منها قيادة إيتا من المناسب التنبيه إلى جملة من العوامل المؤثرة في السياق الذي اكتنف إعلان الهدنة:

مطاردة قوى الأمن الإسبانية والفرنسية لإيتا واعتقال أبرز قياداتها، والملاحقة القضائية لنشطائها، والتعديلات التشريعية التي سمحت بإقصائها سياسيا وحظر واجهاتها وتفكيك شبكات الدعم التي تسندها، ووحدة موقف الأحزاب السياسية في مواجهتها، وعدم حماس الرأي العام للتفاوض معها بعد الفشل المتكرر لتجارب الهدنة.

كل ذلك كان له دور في إضعاف قدرات الحركة ميدانيا والتأثير سلبا على معنويات عناصرها والمتعاطفين معها، ودفعها إلى إعادة النظر في رؤيتها للواقع والتفكير في مراجعة خطها الأيديولوجي وإستراتيجيتها السياسية

– يدور من حين لآخر حديث عن خلافات في صفوف المنظمة حول الخيارات والإستراتيجيات المناسبة.

من هذه الخلافات ما يعود إلى الارتباك الحاصل بسبب تعاقب قيادات محدودة الخبرة ضعيفة السلطة داخل التنظيم، كنتيجة للضربات الأمنية المتلاحقة.

ومنها ما يعود إلى تباين وجهات نظر الأجيال المختلفة من القيادات المسجونة، وهم تيار عريض ومؤثر في قواعد إيتا، وقد طالب بعضهم في السنوات الأخيرة بمراجعة خط الحركة وإعادة النظر في إستراتيجيتها.

وربما يكون لإدراك حقيقة الضعف الميداني للحركة والخلافات الناشئة داخلها حضور في هذا القرار الذي من شأنه أن يسمح لها بالتقاط أنفاسها وإعادة ترتيب أوضاعها.

– يمارس اليسار القومي الراديكالي، ممثلا في حزب باتاسونا المنحل، ضغوطا مستمرة منذ مدة لدفع إيتا إلى اتخاذ مبادرات سلمية حتى تتسنى له العودة إلى الحياة السياسية والمؤسسية التي أقصي منها بأحكام قضائية اعتبرت الحزب جزءا من إيتا ومجرد واجهة سياسية لها.

وللخروج من هذا المأزق دعت باتاسونا إلى وقف دائم لإطلاق النار يمكن التحقق من مصداقيته من طرف دولي.

وقد ظاهرت باتاسونا في هذا المجهود مجموعة وسطاء من أيرلندا وجنوب أفريقيا، في مقدمتهم عدد من حملة جائزة نوبل للسلام مثل جون هيوم وماري روبنسون وديسموند تيتو وفريديريك دي كليرك، فضلا عن مؤسسة نيلسون مانديلا.

وتقدير هؤلاء الوسطاء أنه يمكن استلهام التجربة الأيرلندية لوضع حد للصراع في إقليم الباسك.

– أدى نقل جماعات ما يوصف بالإرهاب الدولي لعملياتها إلى المدن الغربية على النحو الذي تم في السنوات الأخيرة إلى مزيد من استهجان المجتمعات الأوروبية لاستخدام العنف وسيلة للنضال السياسي.

كما أن التطور النوعي في حجم عمليات الجماعات المذكورة وآثارها التدميرية ترتب عليه تراجع القيمة الاستعراضية للعمليات الإرهابية التقليدية، وبالتالي انحسار تأثيرها النفسي على الجماهير والساسة.

وهكذا أدركت التنظيمات الأوروبية التي لا تستطيع، لأسباب بدهية، مسايرة الأنماط الإرهابية الجديدة في مبالغاتها الاستعراضية وإفراطها في التدمير أن عملياتها أصبحت تواجه رفضا أكبر وأنها أيضا لم تعد ذات تأثير معتبر.

يضاف إلى ذلك أن المناخ الدولي المعادي لما يوصف بالإرهاب منح السلطة الإسبانية فرصة لا تعوض للحصول على تعاون أفضل في التضييق على نشطاء إيتا ومنعها من وجود متنفس لها في الخارج.


"
لا يبدو أن إيتا حققت أيا من الأهداف التي قد تكون توخت تحقيقها من وراء إعلان وقف إطلاق النار من جانب واحد، فهي لم تفلح في إثارة خلافات داخل الطبقة السياسية، ولا هي استجابت لمطالب باتاسونا، كما أنها لن تحصل فيما يبدو على هدنة أمنية
"

ردود الفعل وآفاق المستقبل
قابلت الأحزاب الرئيسة ووسائل الإعلام وقوى المجتمع المدني الإسباني إعلان الهدنة الجديد بقدر من البرود، وذهبت أغلب ردود الفعل إلى أن ما صدر عن إيتا ليس كافيا وليست له مصداقية، لأن المطلوب هو التخلي نهائيا عن العنف والقبول بالإطار الدستوري الذي ينظم الحياة الديمقراطية في البلاد.

رسميا، قال وزير الداخلية إن الإعلان لا يعني للحكومة شيئا، ومن ثم فإنه لن يحدث أي تغيير على السياسة المتبعة في مجال مكافحة الإرهاب، واعتبر في مقابلة تلفزيونية (07/09) أن إيتا اتخذت موقفها هذا لأنها تدرك وضعها الضعيف، ولكنها أيضا تريد استغلاله سياسيا وربما تستخدم هذا الموقف لاحقا لتبرير العنف، مشيرا إلى أن التفاوض معها غير وارد الآن وأنها منحت أكثر من فرصة للتخلي عن العنف لكنها لم تستجب.

الطرف الوحيد الذي تحمس للإعلان هو حزب باتاسونا المحظور الذي رأى في موقف إيتا فرصة ثمينة لتحقيق "السلام وتعزيز المسار الديمقراطي". غير أن قادة الحزب لا يمكن، رغم هذا الحماس المعلن، أن يتجاهلوا الصفعة المزدوجة التي وجهها لهم بيان إيتا حين لم يتضمن ما كانوا يعدون به من التخلي نهائيا عن العنف، وأخطر من ذلك أن إيتا احتفظت لنفسها بحق تمثيل اليسار القومي الراديكالي سياسيا، مما يعني أن باتاسونا لا يملك تفويضا بهذا الخصوص.

الفتور العام الذي قوبل به إعلان إيتا له أكثر من سبب، فهناك إحساس عام لدى الطبقة السياسية بأن إيتا في وضعها الحالي ضعيفة للغاية وعديمة المصداقية بما يكفي للعزوف عن منحها قدرا من الاهتمام لا تستحقه.

ثاني هذه الأسباب هو حرص كل الأطراف على تجنب التورط في الاستغلال السياسي غير مضمون العواقب لموضوع معقد وحساس كهذا.

وأخيرا فإن المشهد السياسي الذي تهيمن عليه تداعيات الأزمة الاقتصادية مشحون بقضايا سياسية واجتماعية فيها غنى عن إضافة إشكالات جديدة لا ضرورة لها.

حتى الآن لا يبدو أن إيتا حققت أيا من الأهداف التي قد تكون توخت تحقيقها من وراء إعلان وقف إطلاق النار من جانب واحد، فهي لم تفلح في إثارة خلافات داخل الطبقة السياسية الإسبانية بشأن الموقف منها، ولا هي استجابت لمطالب باتاسونا وساعدتها على الخروج من مأزقها، كما أنها لن تحصل فيما يبدو على هدنة أمنية مقابل موقفها.

لكن الوقت لا يزال مبكرا للجزم بأن الهدنة التي أعلن عنها لن تكون فرصة لإطلاق ديناميكية جديدة تضع حدا نهائيا لآخر مظاهر العنف السياسي في أوروبا وتفتح آفاقا لحل المسألة القومية التي مثلت في العقود الأخيرة مصدرا دائما للأزمات في السياسة الإسبانية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.