المواطن التركي أعطى قراره

سمير صالحة - عنوان المقال: المواطن التركي أعطى قراره



قد لا نعرف هل سيقبل أنصار حزب الشعب الجمهوري اعتذار زعيمهم كمال قليشدار أوغلو الذي دعاهم للتوجه بكثافة إلى صناديق الاقتراع وحماية أصواتهم واستخدام حقهم الديمقراطي في إسقاط حكومة رجب طيب أردوغان، بينما لم ينجح هو في إقناع رئيس قلم الاقتراع في إسطنبول بأن يسمح له بالإدلاء بصوته، لأن اسمه شطب من اللائحة بطلب منه كما قيل له.

لكننا نعرف تماما أن دولت بهشلي وحزب الحركة القومية اليميني المتشدد سيدخلان في سجال طويل لا بد أن يدفع أحدهما ثمنا له بعد الهزيمة الكبرى التي لحقت بهما مع بداية ظهور النتائج الأولية للاستفتاء على الإصلاحات الدستورية في تركيا.

نظرة سريعة على ألوان خارطة نتائج الاستفتاء تظهر هيمنة اللون الأزرق الذي يمثل "نعم" في معظم أنحاء البلاد بينما تحكم اللون الأحمر وهو رمز "لا" في مدن غرب وجنوب غرب تركيا حيث توجد مستودعات أصوات حزب الشعب الجمهوري في هذه الأماكن السياحية المطلة على بحري المتوسط وإيجه.

خروق بسيطة جدا في شرق تركيا، في مدينة "تنجلي" المعروفة بغالبيتها الكردية والعلوية -وهي التي ينتمي إليها قليشدار أوغلو، وقد زارها إبان الحملة الأخيرة مطالبا بلا قوية في وجه أردوغان- وفي مدينة "إسكي شهير" الأناضولية، الموقع الذي فشل حزب العدالة والتنمية في انتزاعه من اليسار التركي رغم أكثر من محاولة مستميتة قام بها هذا الحزب.

"
صناديق الاقتراع قالت لنا أيضا إن المؤسسة العسكرية أعطت هي أيضا قرارها النهائي بالوقوف على الحياد مرة أخرى، وإنها ستلتزم بالتعهدات المقطوعة والقرارات التي اتخذت في لقاء "دولما بهشه" الشهير قبل أشهر بين أردوغان وإيلكر باشبوغ
"

الخارطة تقول إن المنهزم الأكبر كان حزب الحركة القومية الذي فشل في حماية أو استرداد، حتى ولو مدينة واحدة من حزب العدالة في منطقة كانت حتى الأمس القريب توصف بأماكن نفوذ اليمين القومي والواقعة في قلب الأناضول التركي.

بل إن دولت بهشلي مني بهزيمة أخرى عندما فشل في حماية أهم حصونه ومسقط رأسه مدينة العصمانية في الجنوب، وسلمها إلى العدالة والتنمية ليعلن فيها تقدم نعم واقتناع أبنائها بضرورة الوقوف إلى جانب أردوغان في مطلب فتح صفحة جديدة من مسار الديمقراطية في تركيا.

ربما يكون حجم الصدمة هو الذي دفع ببهشلي إلى تجاهل قراءة أرقام الاستفتاء التي تلتقي كلها عند تراجع شعبيته ووقوف حزبه أمام خط السقوط في مصيدة 10% من مجموع أصوات الناخبين التي يفرضها قانون الانتخابات لدخول المجلس النيابي، وهي العقدة التي عانت منها الأحزاب التي تدعمها القواعد الكردية لسنوات طويلة.

وقد سارع إلى المطالبة بانتخابات عامة مبكرة متجاهلا أن هذه الفرصة هي اليوم بيد أردوغان وحده الذي بات يمسك بجميع خيوط اللعبة، وإنه هو صاحب القرار النهائي في قيادة البلاد نحو مسار من هذا النوع يعزز حصة حزبه داخل البرلمان ويساعده على إعلان دستور جديد يسهل له أكثر فأكثر الاقتراب من قصر شنقايا الرئاسي في أنقرة، بعدما تخلى عن فرصته هذه لصالح الرئيس عبد الله غل، ويبدو أنه سيطالب بها هذه المرة.

من بين ما تقوله الخارطة أيضا النجاح النسبي لحزب السلم والديمقراطية المهيمن في جنوب شرق تركيا الذي أعلن مقاطعته لاستفتاء لا يتجاوب مع مطالب أكراد المنطقة السياسية والاجتماعية والثقافية.

القضية الكردية كما أظهرت نتائج الاقتراع في مدن ديار بكر وهكاري وماردين وأورفه، ونسب المقاطعة هناك، ستظل في مقدمة المسائل السياسية التي سيناقشها المواطن التركي ويتعامل معها بجدية كاملة في الأيام المقبلة.

أردوغان وحكومته ملزمان بالتعامل بجدية كاملة مع ما قاله المواطن هناك، وحجج الضغوط والتدخلات والتهديدات التي تعرض لها المقترع في القرى والأماكن النائية لن تكون كافية لتبرير ما حدث.

فالمدن الرئيسية في تلك المناطق التزمت بشكل كبير بقرار المقاطعة، رغم الشجاعة النسبية التي أبداها أنصار حزب العدالة والتنمية في المقارعة والمنازلة.

أردوغان قال لنا -وهو يقوم النتائج الأولى للاستفتاء- إنه لن يتفرد بإعلان فوزه، لأن الانتصار لجميع الذين قالوا نعم من أحزاب ومؤسسات نقابية وعمالية وهيئات اجتماعية وفكرية، لكنه تعمد توجيه رسالة شكر وتهنئة خاصة إلى ما وراء البحار.

"
قالت الصناديق أيضا إن الهزيمة ألحقت بالجناح التقليدي المدافع عن سياسة الجمود وعدم التغيير والوضع القائم في تركيا، وإنها ألحقت كذلك بمراكز و"خبراء" استطلاعات الرأي التي لم تخطئ فقط في توقع حجم التباعد بين نعم ولا بل سارع بعضها للمراهنة على تقدم لا قوية
"

والمقصود هنا هو فتح الله غولان زعيم الحركة النورسية في تركيا، أقوى وأهم الحركات الإسلامية في تركيا اليوم الذي يعيش قسريا ومنذ سنوات في الولايات المتحدة الأميركية، خاصة أن بهشلي كان قد انتقد دعمه العلني لقرار نعم في الاستفتاء وتجييشه كافة طاقات مؤسساته الإعلامية والفكرية وراء هذا القرار.

حركة النور وقواعدها الشعبية التي تضم مئات الآلاف من الأتراك هي أيضا في صفوف المنتصرين اليوم رغم تمسكها هي الأخرى بمقولة أن الانتصار كان للديمقراطية وللمزيد من الحريات الفكرية والدينية والاجتماعية، ولفرص إزالة حالات الغبن القائم في موضوع الحجاب تحديدا، خاصة أن المجلس الأعلى للانتخابات أصدر -بطلب من حزب الشعب الجمهوري- قبل ساعات من فتح الصناديق، قرارا بمنع المحجبات من تولي أية مهمة إدارية أو تنظيمية داخل مراكز الاستفتاء.

صناديق الاقتراع قالت لنا أيضا إن المؤسسة العسكرية أعطت هي أيضا قرارها النهائي بالوقوف على الحياد مرة أخرى، وإنها ستلتزم بالتعهدات المقطوعة والقرارات التي اتخذت في لقاء "دولما بهشه" الشهير قبل أشهر بين أردوغان وإيلكر باشبوغ القائد السابق للأركان حول فتح صفحة جديدة من العلاقات بين الحكومة والجيش تساهم في تعزيز وتمركز الديمقراطية، مما أغضب قيادات المعارضة ودفع بها للمطالبة بالكشف عن جدول أعمال هذا اللقاء.

وقد حدا ذلك بأردوغان إلى المسارعة بالإعلان أن ما نوقش هناك واتفق عليه سيظل سرا بين الرجلين يرافقهما حتى القبر، غامزا من قناة تبني القيادات العسكرية الجديدة للغة أخرى تختلف تماما عن لغة التلويح بالانقلابات أو اللجوء إلى أسلوب تحريك المصفحات وتذكير المبتعدين عن الخطوط الحمر المحددة لهم بأصوات هذه القطع الثقيلة، يبدو أنهم كانوا قد نسوها كما حدث مع الزعيم الإسلامي نجم الدين أربكان عام 1997.

قالت الصناديق أيضا إن الهزيمة ألحقت بالجناح التقليدي المدافع عن سياسة الجمود وعدم التغيير والوضع القائم في تركيا، وإنها ألحقت كذلك بمراكز و"خبراء" استطلاعات الرأي التي لم تخطئ فقط في توقع حجم التباعد بين نعم ولا بل سارع بعضها للمراهنة على تقدم لا قوية لم نعرف بعد كيف سيراوغون للخروج من مأزقهم هذا؟

من بين ما قالته الصناديق، ويتمسك البعض بتجاهله أيضا، رفض قبول حقيقة هزيمة المعارضة والتلويح بأن نتيجة من هذا النوع لن تكون في مصلحة تركيا وإن على أردوغان وحزبه ألا يبالغا في نشوة الفوز، دون قول كلمة واحدة للمعارضة التي خيبت الآمال أكثر من مرة.

الصناديق قلبت رأسا على عقب النظرية السياسية المعروفة في تركيا "الأحزاب الحاكمة لا تمكث طويلا في الحكم مهما فعلت".

"
الفرق بين نعم ولا مهما كان شاسعا بين الحكم والمعارضة فإنه لا يعني الكثير للمواطن التركي القادر على قلب الأمور بين ليلة وضحاها إذا ما شعر أن الدعم المشروط الذي يقدمه للحكومة أسيء فهمه أو تقديره
"

فالعدالة والتنمية بعد انتخابات 2007 -ورغم مرور أكثر من ثماني سنوات على تفرده في السلطة- يقول إنه جاهز للاستمرار في حمل الأمانة لحقبة جديدة، وإن الناخب التركي منحه الثقة والقوة اللازمة للمضي في طريقه رغم كل الحفر والمطبات والحواجز.

الصناديق قالت لا لسياسة التخويف ولأساليب احتكار القرار والهيمنة على إرادة المواطن التركي، وإن جبال الثلج وتلال الأتربة تذوب وتتلاشى أمام عناد وإصرار الناخب التركي على دفع البلاد نحو حملة تغييرات وإصلاحات دستورية شاملة تهز العروش والقلاع التي بنيت قبل عشرات السنين، والتي ترفض قراءة المتغيرات وتتجاهل أنها هي التي تعرقل الطريق وتسده أمام انطلاقة أكبر لتركيا تشجع بلدان المنطقة ودولها على الاستفادة من هذه الدروس والعبر.

قد لا يكون أردوغان نجح تماما في إسقاط دستور العسكر المعلن قبل 28 عاما، لكنه نجح في كسب الجولة الأولى التي ستسهل إطلاق يده في الإعلان عن دستور جديد سبق أن وعد به قبل ثلاث سنوات، وقطع شوطا كبيرا في التحضير له، لكنه أجبر على إرجاء تنفيذه أمام ضغوط المعارضة وانتظار اللحظة المناسبة للانقضاض، وهي اللحظة التي اقترب موعدها كما تقول نتائج صناديق الاستفتاء هذه المرة.

يوم 13 سبتمبر/أيلول في تركيا تحول إلى موعد جديد لمراجعة الحسابات والمواقف باسم المزيد من الديمقراطية والانفتاح والمشاركة السياسية.

ومن سيتعنت في مواقفه ويتمسك بأسلوب التخويف والتخوين سيدفع المزيد من الثمن إذا لم يحسن قراءة ما قاله وطالب به المقترع التركي.

أردوغان وحزبه نجحا في استمالة المواطن وفي تبني مطلب التعديلات الدستورية، والأرقام تقول إن رئيس الوزراء التركي ازداد قوة، لكن أكثر ما نريد معرفته هو كيف ومتى وأين سيستخدم أردوغان قوته هذه وبأي اتجاه سيلعب أوراقه هذه في المرحلة المقبلة؟

16 نقطة من الفرق بين نعم ولا مهما كانت شاسعة بين الحكم والمعارضة فإنها لا تعني الكثير للمواطن التركي القادر على قلب الأمور بين ليلة وضحاها إذا ما شعر أن الدعم المشروط الذي يقدمه للحكومة أسيء فهمه أو تقديره أو استخلاص العبر والدروس العاجلة منه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.