حول النخب وهرمية النظم

حول النخب وهرمية النظم - الكاتب: إبراهيم عجوة



خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر شهد الغرب نشوء ما اصطلح عليه "الثورة الصناعية". لم تكن تلك الثورة مجرد تطور كمي في ميدان الصناعة بقدر ما كانت تحولا نوعيا نتج عن تراكمات كمية طيلة القرنين السابقين عليها.

فائض الإنتاج الهائل الناجم عن الثورة الصناعية، تطلب ثورة في علاقات الإنتاج أعادت صياغة الهياكل والبنى التي تنظم المؤسسات الاجتماعية الاقتصادية والسياسية، وخلقت بدورها فيضا من النخب العلمية والثقافية شكلت طبقة اجتماعية وسطى بين رأس المال والطبقة العاملة.

"
لعبت النخب العلمية والثقافية دورا مهما وأساسيا في الانتقال بعلاقات الإنتاج من العبودية إلى الليبرالية الاقتصادية، وفي السلطة السياسية من الحكم الفردي وتوريثه إلى ديمقراطية الحكم وتداول السلطة
"

ولعبت هذه النخب دورا مهما وأساسيا في الانتقال بعلاقات الإنتاج من العبودية إلى الليبرالية الاقتصادية، وفي السلطة السياسية من الحكم الفردي وتوريثه إلى ديمقراطية الحكم وتداول السلطة. بمعنى من المعاني أدت الثورة الصناعية إلى توسيع الطبقة الوسطى وتوسع في إنتاج النخب وتضييق الهامش بالتالي على احتكار السلطة وعناصر القوة.

كما أدى البحث عن أسواق لفائض الإنتاج الهائل إلى بيئة سياسية دولية اتسمت بالحروب الطاحنة واستعمار الشعوب واضطهادها بما أنتجته من اختلال في ميزان القوة، وبعدما أسهمت الثورة الصناعية في تقريب المسافات بين الدول والشعوب بما أنتجته من وسائل مواصلات واتصالات. وأدى تصدي القوى المحافظة والمتضررة من الثورة الصناعية إلى ثورات وحروب أهلية دامية امتدت على مساحة العالم الغربي كاملة.

تراكمات الثورة الصناعية الكمية على صعيد المواصلات ووسائل الاتصال أنتجت اليوم ثورة جديدة يمكن تسميتها بثورة التكنولوجيا الدقيقة، التي كان أحد إفرازاتها تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، والثورة المعرفية المرافقة.

وبتنا نلمس اليوم بشكل واضح تركز الجدل الفكري البشري حول ما بعد هذه الثورة، ونشأ ما يشبه الإجماع الفكري على أن تحولا نوعيا ما سوف يحدث، وبدأ الحديث واسعا عن المابعديات، ما بعد القوميات، وما بعد الوطنيات، وما بعد الرأسمالية، وما بعد الصهيونية…إلخ.

إحدى مقدمات هذه الثورة تمظهرت في انهيار نظام الثنائية القطبية الدولي. وبدلا من الاتجاه نحو التعددية القطبية كأحد منتجات ثورة المعرفة وأفقيتها وبالتالي أفقية القوة وما تستدعيه من ضرورة أفقية النظام الدولي، فإن المحاولات الأميركية اللاحقة ومن خلال نخبها المحافظة سعت إلى صياغة بنية تحتية وتأسيس معرفي لتثبيت ميزان القوى ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي بوصفه القطب النقيض في نظام الثنائية القطبية.

أبرز هذه المحاولات الفكرية تبدى في كتابين أثارا صخبا واسعا وتناولا موضوع التحولات العالمية النوعية ما بعد انهيار نظام الثنائية القطبية هما "نهاية التاريخ والإنسان الأخير" للكاتب الأميركي من أصل ياباني فرانسيس فوكوياما عام 1992، وكتاب "صراع الحضارات" للكاتب الأميركي صامويل هنتنغتون عام 1996.

وقد قصد فوكوياما من كتابه معارضة فكرة نهاية التاريخ الماركسية الشهيرة "المادية التاريخية"، التي ترى أن تاريخ الاضطهاد الإنساني سينتهي عندما تزول الفروق بين الطبقات. كما تأثر فوكوياما في بناء نظريته بآراء الفيلسوف الشهير هيغل وأستاذه الفيلسوف ألن بلوم، حيث ربط كلاهما بين نهاية تاريخ الاضطهاد الإنساني واستقرار نظام السوق الحرة في الديمقراطيات الغربية.

بينما أشعل هنتنغتون في 1993 نقاشا مستعرا حول العالم في العلاقات الدولية من خلال كتابه "صراع الحضارات"، حيث حاول هنتنغتون التأكيد على أن صراعات ما بعد الحرب الباردة ستحدث أكثر وأعنف ما يكون على أسس ثقافية (غالبا حضارية، مثل الحضارات الغربية والإسلامية والصينية والهندوكية…إلخ) بدلا من الأسس العقائدية كما كان الحال أثناء الحرب الباردة ومعظم القرن العشرين.

ما يهمنا أن أشهر كتابين لم يقاربا المشكل الحقيقي ولم يجيبا عليه، وليس أدل على ذلك من تراجعهما عن الكثير مما قالاه، خاصة فوكوياما، والأهم من ذلك هو تكذيب الواقع لنظريتيهما بل ربما كانت نظريتاهما سببا أساسيا في تورط الولايات المتحدة في مأزقها الراهن الذي ربما يقودها إلى الانتحار أو الموت البطيء أو التراجع إلى صفوف خلفية في قيادة العالم.

فالكتابان لم يوفقا في قراءة التحولات ما بعد انتهاء نظام الثنائية القطبية، بل جاءا على شكل نظريتين محافظتين تحريضيتين تنطلقان من ذات الأرضية السياسية والثقافية السائدة ما قبل وإبان الحرب الباردة. وتسعيان إلى دفع صناع القرار السياسي إلى الوقوف في وجه التغيرات أو استثمارها في تأبيد سيطرة أحادية قطبية أميركية أو مركزانية غربية أحادية رأسمالية.

لقد نتج عن الوضعية الجديدة لثورة المعرفة إرهاصات ذات دلالة على صعيد العلاقات الدولية، بمستوياتها المختلفة عسكرية وسياسية واقتصادية وأيديولوجية، وبرز بشكل ملحوظ تحول عميق في تقييم سلطة المعرفة التي قلبت الموازين رأسا على عقب، إلى حد اعتبارها معيارا جديدا للتحولات الدولية الراهنة.

"
لم يكن أحد ليتصور ما تشهده هذه الأيام من منحى عميق في تحول السلطة، وأن القوة والثروة باتتا تعتمدان بشكل رئيسي على المعرفة، وأن المعرفة تكاد تكون المصدر الوحيد للسلطة
"

لم يكن أحد ليتصور ما تشهده هذه الأيام من منحى عميق في تحول السلطة، وأن القوة والثروة باتتا تعتمدان بشكل رئيسي على المعرفة، وأن المعرفة تكاد تكون المصدر الوحيد للسلطة.

ورغم أن هذه الأطروحة قد غزت جموع الباحثين والمثقفين في كل أنحاء العالم، فقد بقيت قاصرة عن تصور أثر الثورة المعرفية على عملية احتكار المعرفة بوصفها قوة، حيث أصبحت المعرفة أفقية ولم تعد محصورة في شريحة النخب التي تجلس على رأس الهرم الاجتماعي بفعل هذا الاحتكار.

ولكونها عنصر القوة الأساس بات احتكار القوة أيضا في حكم الماضي ولم يعد ممكنا. كما لم يعد أيضا رأس المال وحده العنصر الحاسم في العملية الإنتاجية. وأصبح النشاط الذهني بمادته وقدراته المعلوماتية هو أساس الإنتاج، في حين أصبح رأس المال الذي كان أساس الإنتاج مجرد عنصر من عناصره ولم تعد له الأولوية الرئيسية. فهل يعطينا هذا الفهم الحق في التساؤل عن مدى قدرة هرمية النظم والمؤسسات والبنى بكل مستوياتها على الصمود، وأن ضرورة التفكير في تنظيم المؤسسات بشكل أفقي باتت ملحة لتتناسب مع أفقية المعرفة وأفقية القوة.

لم ينتبه أحد للآن إلى أن المتغير الحقيقي الذي أدى إلى انهيار نظام الثنائية القطبية بشقيه الاشتراكي والرأسمالي، (خاصة بعد اعتراف صريح للجنة الطوارئ الأميركية "عبر وثيقة بيكر هاملتون" بضرورة الاعتراف بمصالح الأقطاب الدولية، وبالتالي التراجع عن مفهوم الأحادية القطبية الذي ساد ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي)، يكمن بالأساس في توازن الرعب الذي ترتب على صعوبة احتكار المعرفة في كل المجالات بما لم يعد يسمح لأحد بتسيد العالم والجلوس على رأس نظام عالمي هرمي، وأن المنتج الأساس لهذه الثورة التقانية، التي ستقود بالضرورة إلى انهيار نظرية النخبة كمحرك للتاريخ، وتعميم المعرفة والنخبوية لتصبح أفقية وليست هرمية وما يستدعيه ذلك من بناء تنظيمي أفقي وليس هرميا على كل المستويات، سواء في المؤسسات الاجتماعية أو السياسية أو النظم الإقليمية والدولية، فأفقية المعرفة تستدعي أفقية البناء التنظيمي، التي تعني المشاركة بأشكالها المختلفة. فهذا التطور الملحوظ الذي يشهده العالم على مستوى تعميم المعرفة وحوار الثقافات يقتضي صياغة جديدة للعالم مغايرة تماما لما كان سائدا في الحقبات السابقة.

بل ربما نكون أمام صياغة جديدة للعديد من نظريات الإدارة والاقتصاد والعلاقات الدولية ومفاهيم الوطن والثقافة واللغة، فبقدر ما تدفع الثورة التقانية العالم نحو تجنيس ثقافي إجباري فإن المجتمعات وتنظيماتها المختلفة كوحدات تاريخية ثقافية تتجزأ وتتفتت إلى مكوناتها الأولية كمقدمة موضوعية لإعادة صياغتها في ضوء متطلبات الثورة ما بعد الصناعية.

وفي ضوء الصياغات الجديدة فإن كل الهرميات والتراتبيات ستسقط بما فيها من أفكار وصور ورموز، ستسقط نظرية الاستعمار المبنية على التفوق المعرفي وستسقط نظرية القائد الملهم، وستسقط نظرية النخبة الحاكمة، وستسقط نظرية الشعوب المختارة والمكلفة بمهام إلهية في إنقاذ الشعوب. لقد باتت ملحوظة مستويات التمرد العالمي على هرمية النظام الدولي السابقة، فالعالم المحافظ الذي يسعى لتأبيد هيمنته بات عاجزا وبحق عن كبح جماح كوريا وإيران وفنزويلا وحزب الله وحركة المقاومة الفلسطينية والمقاومة العراقية والمقاومة الأفغانية وحركات الشعوب المختلفة، مما يعني سقوط تابو النظام الدولي الهرمي الكلاسيكي.

أعتقد أن علم الإدارة كان سباقا في التنبيه إلى انتهاء مفهوم الإدارة الهرمية من خلال تبنيه نظريات الإدارة الجماعية، ونظريات الإدارة بالشفافية، ونظريات الإدارة بالأهداف، والإدارة بالمحبة … إلخ.

فتعقيد النظام الجديد يتطلب بدوره تعقيدا في الوسائل التي ستديره وتبادلا متزايدا للمعلومات بين مختلف وحداته وطريقة مناسبة لهذا التبادل.

لقد ولد غياب الربط بين الثورة المعرفية ومنتجاتها على مستوى النظم والتنظيمات والنخب إلى أزمة انعدام ثقة في النخب والنظم والتنظيمات والحكم، لكن تفسير أسباب فقدان الثقة ما زال محصورا في المستوى الأخلاقي، ولم يلامس بعد الضرورات والحتميات. فقد عبر البعض عن هذه الأزمة من خلال اتهام النخب بالتخلي عن دورها التنويري والتاريخي لصالح الشعوب، وتخليها عن دورها الطلائعي وخيانتها لهذا الدور، والبحث عن مصالحها الخاصة وانحيازها للنظم السياسية الدكتاتورية في مواجهة مصالح الناس.

فأعلن الكثيرون موت النخب نتيجة خراب ذاتي وأخلاقي وقيمي وانحياز مصلحي. وقد غاب عن الذهن أن فشل النخب ما هو إلا منتج من منتجات تحول العالم بفعل الثورة المعرفية إلى عالم أفقي لم يعد يخضع غالبا لمرجعيات قائمة.

أفقية المعرفة باتت تفرض على أطراف أي منظومة في حالة تعاون وتكامل أم في حالة صراع إلى التحرك على شكل تيارات أفقية، وليس تيارات رأسية هرمية. هذه التيارات يجمعها وحدة الموقف والرؤية للعالم والذات، وليس المرجع المكرس من خلال الهيكل الهرمي. بمعنى أن الأولوية باتت لمركزية البرنامج والرؤية وليس لمركزية التنظيم. وأن الشكل الأفضل لتنظيم تيارات العمل المشترك بات يكمن في القيادة الهارمونية وليس القيادة الهرمية، وبات دور القيادة في أحسن الأحوال يؤدي دور قائد الأوركسترا بين هذه التيارات أو دور المرشِّح لماكينات البحث لا أكثر.

صحيح أننا ما زلنا كمجتمعات متخلفة أو مفوتة، نقف في موقف المندهش بالثورة المعلوماتية والمشكك أحيانا في جدواها، بل البعض كخائف من مخاطرها، إلا أن إيقاع هذه الثورة من السرعة بحيث لا يمكن لأحد أن يقف بمنأى عن تأثيراتها.

"
ما هو مؤكد أننا نقف اليوم إزاء ثورة تقنية عارمة، أحدثت وستحدث تغيرات حادة، بمعدلات متسارعة، لم يشهدها المجتمع الإنساني من قبل، وذلك على جميع المستويات السياسية والاقتصادية والتربوية والثقافية والعسكرية
"

فتغير المجتمعات يرتبط طرديا مع مستوى تطور التقنيات المؤثرة وتفاعلها مع بيئتها الاجتماعية. ما هو مؤكد أننا نقف اليوم إزاء ثورة تقنية عارمة، أحدثت وستحدث تغيرات حادة، بمعدلات متسارعة، لم يشهدها المجتمع الإنساني من قبل، وذلك على جميع المستويات السياسية والاقتصادية والتربوية والثقافية والعسكرية. إلى مجتمع مغاير بشدة، مغاير في أشكال تنظيماته ومؤسساته وصناعاته، وطبيعة سلعه وخدماته، وأدوار أفراده وحكامه، ونسق القيم، والمعايير التي تولد الغايات وتحكم العلاقات بين الأفراد والجماعات والمؤسسات داخل هذا المجتمع.

إن آثار انحسار نخبوية المعرفة واحتكارها المولد للوصاية والدكتاتورية والهرمية في البناء التنظيمي ستفرض على الجميع سؤال الموت والحياة، فإما الموت والفوات التاريخي وإما فهم هذه الثورة ومتطلباتها. ولن ينفع أحد الهروب إلى التبرير والأكل من خارج المائدة. لأن هذه النزعة هي نزعة الجهل المولد للموت والتآكل. وثمن الهروب سيكون أغلى بكثير من ثمن المواجهة، وإن إدراك البيئة الدولية والتحولات النوعية هو المدخل الحقيقي للانتصارات التاريخية. والانغلاق والهروب إلى الخلف والمحافظة غير المبررة كانت دوما محرك الهزائم الأقوى والنكبات الإنسانية على مر التاريخ.

غالبا كانت الهزائم نتاج تصور خاطئ للمعركة، وما تتطلبه من تكتيكات وإستراتيجيات، لهذا نحن اليوم في أمس الحاجة إلى إعادة بناء تصورنا للعالم ولضرورات معركة نهضتنا ببعديها الذاتي والموضوعي. أما التقوقع المرتبك والمرعوب أو الراقص في عتمة الجهل وضمن أنساق معرفية ومنهجيات عاجزة وتنتمي إلى الماضي فلن يؤدي حتما إلا إلى الاضمحلال والنهايات خارج التاريخ.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.