محادثات الخريف المباشرة

محادثات الخريف المباشرة



تتميز البيئة الإستراتيجية الدولية الراهنة بهلامية غير مسبوقة، وبغياب المؤشرات الكافية لدى المراقبين لسبر غور التوجهات المحتملة لدى صانعي القرار في المراكز الدولية والإقليمية، ناهيك عن المكونات الطرفية في المنظومة الدولية.

ويمكن إرجاع هذه الهلامية إلى عمق التحولات على المستوى الدولي التي من شأنها أن تدفع الجميع إلى مواقع المحافظة ومقاومة الاستحقاقات الموضوعية، والقلق من التحولات والمراوحة بين الانتظار المخل والتحرك المختل وغير المنطقي.

في هذه البيئة الهلامية تأتي دعوة الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى اجتماع يضم إسرائيل والسلطة الفلسطينية ومصر والأردن إلى جانب الرباعية الدولية يوم 2 سبتمبر/أيلول المقبل، ليضع الجميع أمام تساؤل الهدف والنتيجة والتحديات والفرص والاستحقاقات على جميع الأطراف.

المراقبون والمحللون توزعوا في تعاطيهم مع دعوة أوباما لاستئناف المفاوضات المباشرة بين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو والرئيس الفلسطيني محمود عباس، بين متفائل ومتشائم من نتائج وجدوى هذه الدعوة، خاصة أن تعقيدات المسألة الفلسطينية تضيف ارتباكاً على عملية التوقع والتحليل فوق ما أنتجته التحولات الدولية الراهنة من تعقيدات وارتباك.

والمتراكم في الذاكرة عن المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية من مراوحة في المكان وفشلٍ في تحقيق الأهداف، حصر التعاطي مع الدعوة بين المواقف الرافضة والمشجعة وبين المشاعر المتفائلة والمتشائمة.

في معادلة الحراك الدولي، راوح الجميع وتخبط الجميع وحصلوا على المنافع الحدية المتوقعة من المراوحة والتخبط، ودفعوا الخسائر الحدية المحتملة وغير المحتملة، والجميع اليوم على شفا المراجعة أو شفير الهاوية.

فنحن اليوم إزاء خريف خيارات لا خريف زمني فقط، وهذا ما سيضفي على هذه المحادثات مستوى من الجدية الاستثنائية تدركها كل الأطراف وتخشاها.

"
تخصيص الدعوة للأطراف الأربعة المصرية والأردنية والإسرائيلية والفلسطينية فقط، تعني أن الأمر ليس بروتوكوليا احتفاليا، ولا يشبه حفلات الألعاب النارية التي اعتدنا على حضورها، بل هو دعوة لأصحاب العرس فقط من وجهة النظر الأميركية
"

وبتحفظ شديد يتحدث المراقبون والمعلقون دون أن تلامس التصريحات والتعليقات الآفاق والتحديات لمثل هذه المباحثات.

مصدر الضبابية الأبرز والتحفظ الشديد يكمن في الخبرة التاريخية السلبية للمفاوضات على مدى التسوية في الموضوع الفلسطيني الإسرائيلي من أوسلو ومشتقاتها، حتى "واي بلانتيشن" وصولا إلى خريطة الطريق وليس انتهاء بمؤتمر أنابوليس.

فهل يأتي هذا الاجتماع تكراراً في الزمن والشكل والمضمون ليؤكد ويعزز هذه الخبرة، أم أن تحولاً ما سيحدث وأن بيئة جديدة لا يمكن إلا أن تنجب تحولاً من نوع ما؟

تدفع ضرورات الفهم إلى تسليط الضوء على مكونات الدعوة والظروف المحيطة بالمدعوين، وشروطهم الخاصة إلى جانب البيئة الدولية الآنفة الذكر.

فالدعوة للأطراف الأربعة المصرية والأردنية والإسرائيلية والفلسطينية فقط تعني أن الأمر ليس بروتوكولياً احتفالياً، ولا يشبه حفلات الألعاب النارية التي اعتدنا على حضورها، بل هو دعوة لأصحاب العرس فقط من وجهة النظر الأميركية، وإشارة إلى غيرهم بعدم التدخل إن لم يكن إحساساً بعدم قدرتهم على التدخل وإفساد عرس السلام الأميركي.

كما أن الولايات المتحدة لم تفعل كما فعلت في مؤتمر أنابوليس الذي كان أقرب إلى تظاهرة لتحسين خريف بوش بعد فشل إستراتيجيته، وصدور إدانة واضحة لهذه الإستراتيجية تضمنتها وثيقة بيكر هاملتون.

نتنياهو المعتاد على إفساد أي شيء لا يتناسب مع يمينيته وصهيونيته أدرك هذه المرة أنه أمام خيار صعب، وأن البيئة الإستراتيجية الدولية لم تعد ترحمه، وفي خريف الخيارات الإسرائيلية لم يجد في جعبته غير مخاوفه من التهديد الوجودي الذي تمثله البيئة الدولية موضوعياً، وليُخرج من هذه الجعبة طلقة "يهودية الدولة" كاعتراض غريزي على المخاطر المحتملة من تحرك الخيارات الدولية.

وإذا كانت يهودية الدولة محاولة يائسة للتخلص من الخطر الديمغرافي الفلسطيني -وهي خطيرة في توجهاتها على شعبنا في فلسطين المحتلة عام 1948- فإنها لن تقدم حلاً على المستوى الإستراتيجي لمأزق المشروع الصهيوني.

لكن من الواضح أن هذا الإصرار يأتي كمناورة داخلية نابعة من إدراك بأن تنازلاً ما سيتم تقديمه في المفاوضات المقبلة يحتاج إلى غطاء مكاسب يقدمه نتنياهو للناخب الصهيوني وللتحالف الحاكم الأكثر يمينية منه.

عباس وسلطته لم يجدوا في جعبتهم غير غطاء عربي رث يقيهم مخاطر الإملاءات الأميركية الصهيونية التي ستقذف بهم بعيداً عن الحد الأدنى الذي بإمكانهم المناورة فيه، وهم يدركون أن نهاية النفق الذي دخلوا فيه لن تترك لهم فرصة الاختباء وراء شعارات الماضي لتنفيذ أجندات أبعد حدودها تقع خارج المصالح الوطنية الفلسطينية.

السلطة منقسمة بين فتح وحكومة فياض، وكلتاهما لا ترى في الأخرى أكثر من عبء على مشروعها، وتنتظر الفرصة للانقضاض عليها. وكلتاهما بحاجة إلى أي تقدم على صعيد المفاوضات يسمح لها بإعادة إنتاج نفسها كحالة أكثر منها كتقدم في مشروع وطني.

فنحن إذن إزاء مشروع بطرفين -طرف فلسطيني داع للتسوية مأزوم، وطرف صهيوني فاشيّ- دخلا مأزقاً تاريخياً ودخلا خريف خيارات قد يدفعهما إلى تقديم تنازلات من أجل خلق خيار ولو كان مفتعلا.

فهل يعني كل هذا توفر الظرف المناسب للولايات المتحدة من أجل إبداع مزيج للتسوية لا يسمح لأي من الطرفين برفض؟. وهل هي اليوم في موقع القادر على فرض الإملاءات أم أن الأطراف بضعفها ومأزقها وهشاشتها الإستراتيجية جاهزة للقبول بها؟

نحن إزاء قوة إسرائيلية كبرى ترافقها هشاشة إستراتيجية استثنائية، وأمام سلطة فلسطينية هشة يرافقها عمق إستراتيجي موضوعي صلب ولكنها غير قادرة على استثماره.

"
ما يبدو في الأفق أن حركة ما ستنتج عن هذا المؤتمر مرجعيتها الأساسية خريطة الطريق التي لم يعد بإمكان نتنياهو ويمينه رفضها، ولم يعد بإمكان قوى المقاومة وضع الديناميت الكافي لتفجيرها، ولا تملك السلطة الفلسطينية قدرة المناورة على هوامشها
"

شرط فعالية اللوحة السابقة، وقدرتها على إبداع مزيجها التسوَوي وتمريره، يكمن في غياب القدرة لدى الأطراف المتضررة من الفاعلين الإقليميين والدوليين والمحليين على إبداع مزيجهم الاعتراضي، لكونهم أيضاً يقعون في نفس البيئة الخريفية على مستوى استنفاد الخيارات في سلتهم التقليدية.

فصائل المقاومة الفلسطينية مثلاً لم تجد في جعبتها غير مطالبة الرئيس المصري والملك الأردني بعدم المشاركة في هذا اللقاء، رغم إدراكها خلو هذا الطلب من المعنى والجدية وفنتازيته كرد فعل من قوى مقاومة على حدث وصفته هي نفسها عند تبرير طلبها بعدم المشاركة بأنه مؤتمر ستكون له نتائج مدمرة على صعيد القضية الوطنية الفلسطينية.

المؤتمر إذن ينعقد في بيئة إستراتيجية يمكن وصفها بتوازن العجز، وهي تسمح بالحركة لمن يستطيع استجماع بقايا قوة دون وجود معيقات حقيقية في طريقه رغم هشاشة القوة المحركة.

ما يبدو في الأفق هو أن حركة ما ستنتج عن هذا المؤتمر مرجعيتها الأساسية خريطة الطريق التي لم يعد بإمكان نتنياهو ويمينه رفضها، ولم يعد بإمكان قوى المقاومة الفلسطينية والممانعة الإقليمية وضع الديناميت التقليدي الكافي لتفجيرها، ولا تملك السلطة الفلسطينية قدرة المناورة على هوامشها.

أما الأطراف الإقليمية والدولية فستجد لها مساحات أخرى تحقق من خلالها مصالحها وتوازناتها التي يبدو أنها قيد الإنضاج تحت الطاولات عدا ما يبدو فوقها.

بهذا تكون إسرائيل قد قدمت ما تعتقده ثمناً لسعي المجتمع الدولي نحو ترويضها، وتكون بهذا قد قدمت الثمن الأبخس لاستحقاق توازن الردع على حدودها الذي أنتج مأزقاً إستراتيجياً على صعيد دورها في المنطقة.

وقد تعبر عن ذلك من خلال تجديد قرار تجميد البناء في المستوطنات ما عدا القدس طبعاً، وقد تفرج عن عدد من الأسرى وترفع بعض الحواجز، وتقوم بنقل بعض مناطق "ب" و"ج" لمصلحة السلطة الفلسطينية. وسيجد الكثيرون في هذا فرصة لتعزيز التفاؤل وأن أفقاً ما قد بات مفتوحاً على الحل.

في المقابل ستجد فصائل المقاومة الفلسطينية نفسها في وضع لا تحسد عليه، غير قادرة على النسف أو العرقلة، وغير قادرة على قبول المزيج التسوَوي.

الأردن ومصر من جهتهما لن يكونا قادرين على رفض المنتج الإسرائيلي الفلسطيني الأميركي، لكون الرفض قد يضعهما أمام خيار الانتقال إلى مواقع الإعاقة التي لا يريدانها ولا يستطيعانها، وإن كانا يدركان أن هذا المنتج التسووي سيكون على حسابهما في المدى الإستراتيجي.

الصمت الشامل الذي أعقب المناخات الملتهبة وتكتيكات حافة الهاوية من قبل جميع الأطراف في بداية العام، يشي بنهاية هذه المناخات لصالح حقبة المحصلات والوصول إلى جرد الحسابات والحصول على الأثمان المقبولة والمعقولة للأطراف كل بحسب ما جمع من أوراق.

مناخات التهديدات وتكتيكات حافة الهاوية الشاملة خرج منها العرب للأسف دون الحد الأدنى من القدرة على المساومة فكيف بالتصدي؟

"
الشعوب لن تجمع على الباطل القادم، ولن تسامح أي طرف على نكوصه وغرقه في حساباته الذاتية الضيقة، والثمن لن يكون على حساب طرف دون آخر
"

فالمؤسسات والفصائل الفلسطينية في حالة شلل كلي، والسلطة تعيش حالة من انعدام الوزن ما عدا الوزن الموضوعي الناجم عن مأزق الآخر، في حين وضعت فصائل المقاومة نفسها مقيدة ومحشورة في زاوية هي اختارتها دون أن تدرك مخاطرها الإستراتيجية ونتائجها المفضية إلى الشلل.

لم يصدر إلى الآن عن أي طرف ما يشي بقدرته على إفشال المنتج الأميركي الذي ستكون سماته الأساسية تحسينات على وضع السلطة الفلسطينية، وتنازلات إستراتيجية على صعيد القضية الوطنية الفلسطينية، وتنازلات إسرائيلية عن الخطوط اليمينية الصهيونية الحمراء، ومكسبا إستراتيجيا صهيونيا يتصل بإعادة إنتاجه وتدوير وظيفته بتقليصها في حدود "بينلوكس" الأراضي المقدسة الذي يشمل فلسطين والأردن، وإعادة إنتاج هذا الدور من خلال تكييف المحيط سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وثقافياً بما يسمح بتوفير متطلبات البقاء للكيان الصهيوني الذي دخل خريف مشروعه السياسي المتمثل في إسرائيل المهيمنة.

القوى الشعبية العربية والفلسطينية هي الطرف المتبقي والذي يعول عليه استثمار حالة توازن الضعف التي تمر بها الأطراف إذا أحسن استثمارها وأقدم بجرأة وشجاعة على رفض المنتجات السامة المتوقعة من مؤتمر الخريف، رغم أن التعويل راهناً على الحالة الشعبية في ظل شلل نخبها السياسية وتخبطها قد لا يخلو من مكونات تفكير تفاؤلي أكثر منه موضوعي.

وهل تستقوي السلطة الفلسطينية بالوحدة الوطنية الفلسطينية لتقليل حجم التنازلات التي يمكن أن تفرض عليها في هذا المؤتمر وما بعده؟ وهل تملك قوى المقاومة إبداع مخرج لنفسها من هذا السجن الفصائلي الذي وضعت نفسها بداخله نحو أفق وطني أرحب يسمح لها لاحقاً بالعودة إلى مشروع المقاومة؟

لم يعد في مقدور عاقل -إلا من باب زرع الوهم- مطالبة النظام الرسمي العربي بمواجهة الاستحقاقات القادمة بالقوة، فهل يقدم النظام الرسمي العربي على تجميع نفسه تحت سقف ممانعة بالحد الأدنى، يبدو فيه مستجيباً للبيئة الإستراتيجية الدولية، ويجعل إسرائيل تدفع ثمن عملية الترويض بحدها الأقصى؟

الشعوب لن تجمع على الباطل القادم، ولن تسامح أي طرف على نكوصه وغرقه في حساباته الذاتية الضيقة، والثمن لن يكون على حساب طرف دون آخر.

المؤتمر القادم له استحقاقات كبرى سيكون أقل منتجاتها حل المشكلة الفلسطينية على حساب الأردن، وإدماج الكيان الصهيوني ككيان طبيعي في المنطقة.

وسيبقى سؤال الشعوب مفتوحاً ينتظر إجابتهم الحتمية في مواجهة الاستخفاف بحقوقهم الوطنية ومستقبلهم ومستقبل أجيالهم القادمة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.