كيف يصبح الحق حقا

كيف يصبح الحق حقا؟ - رشيد الحاج



تحاول هذه المقالة إصلاح العلاقة بين الحق والقوة في ثقافتنا السياسية المعاصرة. فلماذا نعتقد بأن الحق سينتصر دائما في النهاية، حتى لو لم يكن هناك مدافعون عنه؟ ولماذا هذه النظرة السلبية للقوة؟ ثم ألم تبجل ثقافتنا الإسلامية القوة والأقوياء في مرحلة ازدهارها؟

واليوم إذا كان الأقوياء المعاصرون لا يراعون الحق والأخلاق، فهل هذا يدفعنا إلى احتقار القوة أم إلى السعي إلى الحصول عليها للدفاع عن حقوقنا؟

فكلما تعرضت أمتنا لهجمة استعمارية تحاول النيل من أرضنا أو مقدساتنا، أو نكبت بعمل إجرامي ضد شعبنا، سواء في فلسطين أو العراق أو غيرهما، سرعان ما نسوغ لأنفسنا تلك المصائب بأن الحق هو الذي سينتصر في النهاية، وأنه مهما بلغت درجة قوة الاستعماريين الجدد، وأيا كانت درجة تطور قواتهم، فإنهم سيهزمون في النهاية شر هزيمة، وسيكون مصيرهم مثل أي قوة غاشمة، طال الزمن أم قصر.

فالحق في ثقافتنا السياسية ينتصر في النهاية بشكل دائم، و"إحقاق الحق" أمر مفروغ منه، ويكذب كل من يظن أن "حق القوة" سينتصر على "قوة الحق". فنحن لا نتصور مستقبل أمتنا إلا وفيه الحق منتصرا شامخا، بطريقة تؤكد أن داخل الحق قوة خفية عادلة هي التي تجعله يبقى ويستمر.

فالحق لا يموت -كما يقول غسان كنفاني- لأننا في النهاية أصحاب حق وقضية عادلة.

غير أننا نريد أن نتوقف عند فكرة "قوة الحق" التي تؤكد عليها ثقافتنا السياسية كل يوم، ذلك أن تمجيد الحق والتأكيد على عدالة حقوقنا الكبرى بطريقة أيدولوجية وعاطفية له مشاكل خطيرة.

فالشعارات التي تؤكد أن حقنا سيعود في النهاية أيا كانت المصاعب والتحديات، شعارات تمنحنا أمانا نفسيا واطمئنانا روحيا يهدئ من غضبنا ويخفف من توترنا، غير أنها شعارات تجعلنا نظن أن عودة حقوقنا مسألة حتمية ومفروغ منها، مهما بلغت درجة تكالب القوى الاستعمارية علينا، الأمر الذي يؤدي إلى تسرب روح الاتكالية والتقاعس، ما دام كل شيء سيكون في النهاية على ما يرام.

"
عودة الحق ليست مسألة عاطفية يمكن حلها بمجموعة من الشعارات الأيدولوجية الوجدانية، وإنما هي مسألة سياسية تخضع لشروط لا بد من العمل على تحقيقها، وبدون ذلك فإن الحق لن ينتصر
"

فمشكلة هذه الطريقة في التفكير في مسألة الحق، أنها طريقة تقفز فوق المشكلة ولا تواجهها، تقلل من قوة الأعداء دون الاهتمام بكيفية مواجهتهم، تبرر الواقع المرير ولا تحاول تغييره، تهرب من الحاضر باتجاه المستقبل، تجعلنا نظن أن كل شيء سيتحقق بمجرد ما نتمناه، أو نُعرب عن رغبتنا في تحقيقه.

والتاريخ رغم ذلك يحدثنا عن عشرات من الأمثلة لشعوب سُحقت وأبيدت وخرجت من التاريخ بشكل كامل، علما بأن الحق كان معها وأن عدالة قضيتها يعترف بها حتى أعداؤها. وما حصل للهنود الحمر خير مثال على ذلك.

وهذا يعني أن عودة الحق ليست مسألة عاطفية يمكن حلها بمجموعة من الشعارات الأيدولوجية الوجدانية، وإنما هي مسألة سياسية تخضع لشروط لابد من العمل على تحقيقها، وبدون ذلك فإن الحق لن ينتصر، إذ إن الحق الذي لا يجد من يدافع عنه سيوضع على رفوف التاريخ لينام هناك قرير العين حتى إشعار آخر، مهما كان عادلا وأخلاقيا.

ويعود السبب في انتشار ثقافة تمجيد "قوة الحق" والاعتقاد بأن للحق قوة بذاته تجعله ينتصر دائما دون أي عمل نقوم به إلى عاملين أساسين:

العامل الأول هو الأنظمة السياسية العربية التي تريد تهدئة روع الشارع العربي والتخفيف من غضبه الناتج عن ضعف أنظمته وتقاعسها عن مواجهة التحديات التي تواجه الأمة.

فالأنظمة العربية تؤكد للناس صباح مساء وفي كل وقت أن الحق سيعود إلى أصحابه في النهاية، وذلك لكي تمنحهم شعورا خادعا بالأمان النفسي، وتجعلهم لا ينتبهون إلى درجة فساد هذه الأنظمة وعدم أخلاقيتها، ناهيك عن تأجيل مسألة إعادة الحقوق إلى أجل غير مسمى، الأمر الذي يخفف من ضغط الرأي العام على هذه الأنظمة.

"
نعيش اليوم في زمن العولمة والاستعمار المتعدد الأشكال والأزمات الاقتصادية الرهيبة، وهذا زمن منفلت أخلاقيا ولا يزن الأمور إلا بميزان القوة
"

أما العامل الثاني فيشكله المثقفون ورجال الفكر، ذلك أن قسما كبيرا من مثقفينا يحاول شحذ الهمم ورفع درجة ثقة الأمة بنفسها، من خلال التأكيد على أن حقنا هو الذي سينتصر في النهاية.

وهذا دور نوافق عليه، لأن إحدى مهام المثقف هي أن يرفع درجة ثقة شعبه بنفسه وينشر ثقافة التماسك، غير أن هذا الدور كثيرا ما يسير في دروب بعيدة عن الهدف الذي يسعى إليه.

بل إن بعض مثقفينا لا يفضلون مصارحة شعوبنا بأسباب مشكلاتنا، وهي أننا لا نمتلك القوة التي تسمح بنيل حقوقنا، ويفضلون الاكتفاء بالكلام المعسول الذي يحاكي أحلام الناس السياسية ويريح ضمائرهم وينفس عن توترهم النفسي.

ويلجأ المثقفون إلى دغدغة أماني الناس السياسية وتزييف وعيهم السياسي للمحافظة على شعبيتهم وانتشارهم الواسع، فغالبية الناس اليوم -وبسبب حالة الانكسار التي تعاني منها الأمة- لا ترتاح إلا للكلام الذي يمنحها الأمان السياسي، ولا تقرأ إلا لمن يبيعها الأحلام مجانا، ويرسم لها صورة وردية لمستقبل دون أي تعب أو بذل أي جهد.

فبعض المثقفين أيضا لهم مصالحهم الخاصة وحساباتهم التي تختلف في كثير من الأحيان عن مصالح الناس وحقوقهم.

كل هذه العوامل -وعوامل أخرى غيرها- أدت إلى نشوء فكرة رومانسية وعاطفية عن الحق في ثقافتنا، في حين أن المطلوب هو تكوين فكرة واقعية وسياسية وعلمية عن الحق.

وهذا يعني أن الحق لا بد أن يقترن بالقوة حتى ينتصر. أما فكرة أن الحق لديه قوة سرية داخلية هي التي تجعله ينتصر، فهي فكرة خيالية قد تصلح موضوعا لفيلم عربي أو قصيدة غزل، غير أنها لا تصلح للتفكير في العالم المعاصر الذي لا يعرف سوى صراعات المصالح والنفوذ.

فنحن نعيش اليوم في زمن العولمة والاستعمار المتعدد الأشكال والأزمات الاقتصادية الرهيبة، وهذا زمن منفلت أخلاقيا ولا يزن الأمور إلا بميزان القوة، لدرجة أن نيتشه ذهب إلى القول إن "الأخلاق من صنع الضعفاء" وإن الأقوياء لم يعرفوا الحق المثالي تاريخيا، وإنما تعرفوا فقط على مصالحهم ومطامعهم، وسعوا إلى مد نفوذهم حتى لا تغيب عنه الشمس، دون أي اهتمام بالأخلاق والعدالة والحق.

"
الحقيقة المرة والقاسية التي علينا مواجهتها هي أننا لا نمتلك القوة التي تمكننا من الدفاع عن حقوقنا واستعادة مقدساتنا ومواجهة الأطماع التي تحيط بنا من كل مكان، وقد آن الأوان أن نواجه مثل هذه الحقيقة
"

وما نريد أن نقوله في النهاية هو أن المسألة ليست في ما إذا كان الحق معنا أم لا رغم حقنا التاريخي الثابت، وليست في أننا أخلاقيون أم لا رغم عدالة قضيتنا وأخلاقيتها، وإنما المسألة تكمن في: هل لدينا القوة التي تسمح لنا بالدفاع عن حقوقنا أم لا؟ وإذا لم تكن لدينا هذه القوة فلماذا؟ ومن المسؤول؟

الحقيقة المرة والقاسية التي علينا مواجهتها هي أننا لا نمتلك القوة التي تمكننا من الدفاع عن حقوقنا واستعادة مقدساتنا ومواجهة الأطماع التي تحيط بنا من كل مكان، وقد آن الأوان لنواجه مثل هذه الحقيقة، فالاعتراف بالمشكلة أول خطوة باتجاه حلها.

أما الخطوة الثانية فهي تحديد المسؤول عن هذا الضعف الرهيب الذي تعاني منه أمتنا، وهنا تظهر ضرورة إصلاح الأنظمة العربية الفاسدة -المسؤول الأول عن ضعفنا- لأنها هي التي تنتج الفساد والقمع ونهب الثروات، وتمارس الاستقواء الأمني وتكميم الأفواه، وتزيد في تخلف المجتمع وإدخاله في سراديب الانقسام الطائفي والعشائري والاقتصادي، لكي يسهل عليها حكمه والسيطرة عليه.

أما الخطوة الثالثة فمتروكة لمن يقرأ هذا المقال، ما دام أصبح يعرف سبب المشكلة والمسؤول عنها!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.