فرنسا والقاعدة بالساحل

فرنسا والقاعدة بالساحل



قلق أمني
حذر إزاء واشنطن
استراتيجية جديدة

في مارس/آذار الماضي ، وفور إطلاق سراح الرهينة الفرنسي بيير كامات, على أثر ضغوط دبلوماسية مكثفة مورست على الرئيس المالي توماني توري وكذا مفاوضات غير رسمية ذات طابع أكثر سرية أجريت بشكل منفصل مع السلطات الجزائرية, كشف تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي عن استراتيجيته الجديدة في دول الساحل.

ففي خطابه "إلى شعوب وقادة دول الساحل والدول الأفريقية الواقعة جنوب الصحراء", أعلن الرجل الثاني للتنظيم والمتحدث باسمه أبو عبيدة يوسف إعادة انتشار مقاتلي المنظمة وتمركزهم بشكل دائم في منطقة الساحل, مكرسا بذلك هذه الرقعة الشاسعة من الأراضي الصحراوية كجبهة جديدة للقاعدة ضد "أعداء الإسلام".

ومثل ذلك ردٌ التنظيم رسميا على "الحرب الصليبية" التي تشنها الولايات المتحدة الأميركية في المنطقة عبر قاعدتها الدائمة أفريكوم, ورده كذلك على فرنسا لـ"تدخلها" العسكري في المنطقة, فالتنظيم يرى أن القوتين متحدتان في مشروع مشترك "يهدف لاستعمارالبلدان الإسلامية ونهب ثرواتها" بالتواطؤ مع "عبيدهما", قادة البلدان المجاورة.

وفضلا عن حاجة قاعدة المغرب العربي الإسلامي لإضفاء الشرعية على أفعالها الإجرامية ولتجنيد عناصر جديدة منحدرة من السكان المحليين, فإن الهدف الذي تسعى إليه يتجاوز ذلك, فهي تصبو لحمل حكومات الدول الغربية على التدخل بشكل أكثر مباشرة في المنطقة والانخراط العسكري فيها سعيا إلى إيجاد مبررات للكفاح ضد "قوات الاحتلال", وما تكرار اختطاف الرهائن الأوروبيين إلا أحد تجليات هذا المشروع.

"
ترى باريس أن إستراتيجية التعاون الأمني "اللين" المعتمدة حتى الآن من طرفها والتي تعطي الأولوية لتقديم الدعم اللوجيستي, وتوفير معدات الاتصالات, فضلا عن تدريب وحدات محلية, أثبتت قصورها ومحدودية تأثيرها.

"

قلق أمني
وتسعى فرنسا, التي تتصدر قائمة أهداف القاعدة في المغرب الإسلامي, جاهدة لتفادي حصول مثل هذا التصعيد, غير أن قلقها من تزايد انعدام الأمن في المنطقة جعلها تبحث عن سبل التوصل لإستراتيجية أمنية أكثر فاعلية دون المخاطرة في الوقت ذاته بتحويل هذه المنطقة إلى ميدان للمواجهة بين الحركة الجهادية الدولية وبين الغرب.

ولا شك أن الرهان من الأهمية بمكان, بالنسبة لفرنسا هذه المنطقة الصحراوية الشاسعة التي تشمل حدود دول المغرب العربي وموريتانيا ومالي والنيجر, والتي يزدهر بها التهريب بكل أنواعه, والاتجار بالبشر وأعمال العنف, بما فيها التفجيرات, هي في طور التحول إلى ملاذ آمن (للعصابات) وتهدد مصالحها الإستراتيجية.

وترى باريس أن إستراتيجية التعاون الأمني "اللين" المعتمدة حتى الآن من طرفها والتي تعطي الأولوية لتقديم الدعم اللوجيستي, وتوفير معدات الاتصالات, فضلا عن تدريب وحدات محلية, أثبتت قصورها ومحدودية تأثيرها.

كما أن الغياب المستمر للتنسيق في السياسات الأمنية بين الدول المتجاورة, التي تفرقها طموحات السيادة والنفوذ, يبقى حجرة عثرة أمام تحقيق أي تقدم, ينضاف إلى ذلك الغياب المستمر للسياسات التنموية الوطنية, الأمر الذي يجعل الأرضية خصبة لظهور بؤر للجريمة وعدم الاستقرار وهو ما يجب التصدي له حتما, وعلى كل فهذه العناصر مجتمعة تفرض على باريس مراجعة عاجلة لإستراتيجية تدخلها.

ومما يدل على ارتباك الفاعلين الفرنسيين حول هذا الملف قيام وزارة الدفاع الفرنسية لتوها وبهدوء تام بإطلاق "ورشة" تفكيرية تتناول على نطاق أوسع العلاقات بين دول المغرب العربي ودول الساحل الإفريقي وقد انضمت إلى وزارة الدفاع في هذه الورشة وزارة الخارجية كذلك.

والهدف من هذه الخطوة هو استكشاف الرافعات والدعائم الجيدة التي يتعين تنشيطها لجعل البلدان المعنية تنخرط في جهود منع نشوب الصراعات وفي الأنشطة التنموية من خلال شراكات طموحة وفعالة, أما جوهر ذلك فيتمثل في سعي فرنسي دؤوب لتفادي نشر قوات أجنبية في المنطقة, إذ ينظر إلى مثل ذلك الخيار بوصفه محفوفا بالمخاطر, ناهيك عن رفض معظم دول المنطقة له.

حذر إزاء واشنطن
وفي هذه النقطة بالذات تبدو المقاربة الفرنسية شبيهة لما عبر عنه في باريس كذلك القائد الأميركي لقوات أفريكوم الجنرال ويليام إي كيب وورد, فقد حرص وورد خلال زيارة قام بها للعاصمة الفرنسية يوم السادس من يناير/كانون الثاني 2010 على طمأنة الفرنسيين بأن الجيش الأميركي ليست لديه نية لتشييد قاعدة عسكرية دائمة في منطقة الساحل.

ومع ذلك, فإن الفرنسيين يلتزمون الحيطة والحذر لتوجسهم من الطموحات الأميركية في هذه المنطقة من العالم التي هي في الواقع محط أنظار الكثيرين, والحقيقة أن الأميركيين والفرنسيين ينسقون وجودهم العسكري في بلدان الساحل من خلال محافل إقليمية ودولية متعددة.

وهكذا فإن فرنسا, جنبا إلى جنب مع دول المغرب العربي ودول الساحل الأفريقي, تساهم في البرنامج الأميركي (تي أس سي تي آي) أي "مبادرة مكافحة الإرهاب العابر للصحراء" والتي تستهدف التصدي لازدياد مخاطر التهديد الإرهابي والجريمة المنظمة في منطقة الساحل والصحراء وذلك عبر مناورات "فينتلوك" العسكرية المتعددة الجنسيات التي تجرى كل عام منذ العام 2005.

غير أن هيئة الأركان العامة الفرنسية, مثلها في ذلك مثل السلطات السياسية لهذا البلد ترى أن لفرنسا دورا يتعين عليها إبرازه، وتصر على ضرورة تميز هذا الدور كي لا يتماهى مع الدور الأميركي الضخم, الذي يرتكز على عتلة مكافحة الإرهاب الواعدة بالنسبة لبلدان المنطقة.

ولا يزال تنظيم القاعدة يمثل بقرة حلوبا للوبيات الأمن الغربية, وأداة مثالية لحكومات المنطقة التي تعلمت كيف تستغله للاستفادة من الهبات المالية والتفنن في طرق التصدي للمعارضين على المستوى المحلي والتنافس على النفوذ مع دول الجوار.

وقد جعلت الولايات المتحدة الأميركية, منذ أحداث 11 سبتمبر/أيلول, من محاربة الإرهاب إحدى الدعائم المفضلة لبسط نفوذها في دول الجنوب من آسيا إلى الشرق الأوسط, غير أن هذه المقاربة الأمنية الصرفة لم تفشل في الحد من التهديدات الأمنية فحسب, بل تمخضت كما يبدو عن نتائج عكسية.

"
تحاول فرنسا التموقع ضمن إستراتيجية أمنية تعتمد على مكافحة كل مصادر دعم توسع شبكات العنف, بل وكل أشكال الجريمة المنتشرة في منطقة الصحراء والساحل

"

استراتيجية جديدة
وتحاول فرنسا كذلك التموقع ضمن إستراتيجية أمنية تعتمد على مكافحة كل مصادر دعم توسع شبكات العنف, بل وكل أشكال الجريمة المنتشرة في المنطقة, وترى أن تأهيل الجيوش وتجهيزها الذي تساهم فيه على صعيد الأطراف المتعددة جنبا إلى جنب مع الأميركيين وعلى الصعيد الثنائي مع شركاءها الإقليميين, يجب أن يشفع بسياسية تنموية هادفة وفعالة.

وتشمل مثل هذه السياسة دعما اقتصاديا واجتماعيا وطيدا لشعوب المنطقة وللبرامج الأكثر التزاما بمتطلبات الحكم الرشيد.

ولكي لا تخرج هذه السياسة عن طوق المعايير الأخلاقية, يجب أن تشمل, فاعلين محليين وأن لا تقتصر على الشراكات مع الدول والحكومات, تلكم هي التوجيهات الأولى لـ"الورشة" التفكيرية التي يواصلها المسؤولون الفرنسيون بغية إعداد مقترح يقدم ضمن مبادرة أورو-ساحلية مستقبلية يجري تطويرها حاليا.

وتأمل فرنسا أن تضطلع بزعامتها, وهي بذلك تجرب محاولة فاشلة لاستعادة نفوذ كان مهيمنا في السابق, وتظهر كشريك قوي للولايات المتحدة الأميركية, شريك لا يمكن لواشنطن تجاوزه, وبذلك تضمن باريس حماية مصالحها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.