مؤتمر كابل الدولي ومشروع الاحتلال الثنائي

مؤتمر كابل الدولي ومشروع الاحتلال الثنائي - الكاتب: بشير الأنصاري




 

في جو تسوده الكآبة والإحباط وفي ظروف تشهد تصاعدا في عدد قتلى قوات التحالف والفساد المتفشي في الحكومة الأفغانية، جاء مؤتمر كابل الدولي ليجلب الأنظار إلى ابتسامات الضيوف الكبار من وراء ستار الدخان المتصاعد من دبابات التحالف التي جعلت المدينة أشبه بقلعة عسكرية من أن تكون عاصمة دولة.

المؤتمر الدولي، الذي انعقد في 20 يوليو/تموز 2010 في كابل وحضره بان كي مون الأمين العام للأمم المتحدة وأندرس فوغ راسموسن الأمين العام لحلف شمال الأطلنطي بالإضافة إلى ممثلين عن 70 دولة ومنظمة دولية، يعد أكبر مؤتمر دولي تشهده أفغانستان في العقود الأربعة الأخيرة. والحكومة الأفغانية باستضافتها هذا المؤتمر أرادت أن تقول للمجتمع الدولي إنها قادرة على تأمين سلامة الضيوف الذين كان من بينهم 44 وزيرا للخارجية ومن ثم بإمكانها أن تتولى مسؤولية الدفاع في المستقبل.

المصالحة الوطنية

"
منذ تولى كرزاي زمام الأمور، فإن الحكومة الأفغانية تبنت سياسة المصالحة وفتح الأبواب أمام العناصر المعتدلة في حركة طالبان، ولكنها حتى اليوم لم تجد تلك العناصر التي ظلت تبحث عنها في السنوات التسع الماضية
"

مؤتمر كابل الدولي يأتي بعد مؤتمر لندن الذي انعقد قبل ستة أشهر في العاصمة البريطانية بهدف التباحث حول مشروع المصالحة مع المعارضة المقاتلة الذي قدمته حكومة كرزاي للدول المانحة. والهدف من انعقاد هذا المؤتمر -كما أعلنته الحكومة الأفغانية- هو التباحث حول المصالحة مع المعارضة والتوطئة لتسلم مهام الأمن والتصرف في نسبة أكبر من المساعدات الدولية التي تتولاها الآن الهيئات العالمية في أفغانستان.

ومنذ تولى حامد كرزاي زمام الأمور، تبنت الحكومة الأفغانية سياسة المصالحة وفتح الأبواب أمام العناصر المعتدلة في حركة طالبان، ولكنها حتى اليوم لم تجد تلك العناصر التي ظلت تبحث عنها في السنوات التسع الماضية.

إذا كانت هنالك أي إمكانية للمصالحة فمن الممكن أن تكون مع الحكومة الباكستانية ومؤسسة الجيش الباكستاني التي ظلت تغازل حكومة كرزاي في العامين الماضيين لدرجة أنها أعلنت استعدادها لتدريب الضباط الأفغان على أراضيها، وذلك على لسان وزير خارجيتها في مؤتمر كابل.

إرث الحرب الباردة
منذ العام 1958 وعندما استولى أيوب خان على الحكم في باكستان دخلت العلاقات الأميركية الباكستانية مرحلة جديدة. فالاتفاقية العسكرية التي عقدتها باكستان مع الولايات المتحدة الأميركية في عهد الرئيسين أيوب خان وآيزنهاور مكنت المخابرات الأميركية من بناء مركز في منطقة (بده بير) في مدينة بيشاور الباكستانية للتنصت على أنشطة السوفيات في أفغانستان.

كما أنها ساعدت على النفوذ في قلب الجمهوريات الإسلامية المحتلة في جنوب الاتحاد السوفياتي وتنظيم طلعات تجسسية على أجواء أفغانستان والجمهوريات الإسلامية السوفياتية آنذاك. وقد حدث أن أسقطت طائرة تجسس أميركية كان يقودها الطيار (غيري باودر) في أجواء الاتحاد السوفياتي بعد أن أقلعت من هذه القاعدة. ومنذ العام 1958 وحتى آخر أيام إدارة طالبان استمرت الولايات المتحدة وباكستان على تعاونهما في كل ما يتعلق بالشأن الأفغاني.

وخلال تلك الفترة ظل الأميركيون ينظرون إلى أفغانستان بعيون باكستانية ويديرون الأمور عبر هذا الوسيط الإستراتيجي (باكستان) الذي كان يلعب دوره النشط في محيطه الإسلامي بكل إتقان. ولكن بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 وظهور زلماي خليل زاد الأفغاني المولد على مسرح الأحداث شهدت العلاقات الثلاثية تغييرا واضحا وأصبحت الحكومة الأفغانية تسبق جارتها الباكستانية في الولاء للسيد الأميركي.

من "أفباك" إلى "باكاف"
عندما أعلن الرئيس الأميركي باراك أوباما إستراتيجيته بشأن أفغانستان أكد على وحدة الإستراتيجية في كل من باكستان وأفغانستان، الأمر الذي اصطلح عليه في لغة السياسة الأميركية بـ"أفباك"، الذي يختصر كلمتي أفغانستان وباكستان في الخطة الأميركية. إن "أفباك" مصطلح جديد أوجدته إدارة أوباما وبدأت تستخدمه في دوائر السياسة الخارجية الأميركية منذ فبراير/شباط 2009 للتعبير عن وحدة مسرح العمليات القتالية على طرفي خط ديورند الذي يعد من أكثر المناطق اضطرابا في العالم.

وقد أثار مصطلح "أفباك" حفيظة الساسة الباكستانيين الذين رأوا فيه إهانة لدولتهم التي تقارن نفسها مع الهند النووية وليس مع جارة جريحة طحنتها حروب الكبار على مدى العقود الثلاثة الأخيرة. والحساسية تجاه هذه الكلمة بدأت من قيادة الدولة الباكستانية، حيث صرح برويز مشرف رئيس باكستان السابق لمجلة شبيغل قائلا: أنا تماما ضد مصطلح (أفباك)، أنا لا أؤيد هذه الكلمة لأنها تضع باكستان في نفس المستوى مع أفغانستان. هنالك فرق بين البلدين. أفغانستان لا توجد فيها حكومة وينعدم فيها الأمن، على عكس باكستان التي تنعم بالأمن والاستقرار.

إن كلمة "أفباك" في الشهور الأخيرة قد استبدلت على لسان بعض المسؤولين الأميركيين إلى "باكاف"، أي باكستان وأفغانستان، وريتشارد هولبروك المندوب الأميركي في أفغانستان وباكستان قد بدأ يتجنب استخدام المصطلح.

كل الطرق تمر من إسلام أباد

"
اتساع دائرة القتال ضد قوات التحالف وفشل حكومة كابل وتضييق الخناق على إيران جعل صناع القرار في البيت الأبيض يتوصلون إلى نتيجة مفادها أن المشكلة الأفغانية لا يمكن حلها إلا من جذورها في باكستان
"

إن اتساع دائرة القتال ضد قوات التحالف بعد مرور تسع سنوات على إسقاط إدارة طالبان وفشل حكومة كابل وتضييق الخناق على إيران جعل صناع القرار في البيت الأبيض يتوصلون إلى نتيجة مفادها أن المشكلة الأفغانية لا يمكن حلها إلا من جذورها في باكستان، وضرورة العودة إلى الشريك القديم الذي ينتظر خروج القوات الدولية بفارغ الصبر.

ثمة حوار بدأ قبل سنة بين الطرفين الأميركي والباكستاني وصف بـ"الحوار الإستراتيجي" لمعالجة قضايا أساسية، من بينها طبيعة العلاقة مع أفغانستان. عندما زارت هيلاري كلينتون باكستان وهي في طريقها إلى مؤتمر كابل الدولي شاركت في الجولة الثانية للحوار الإستراتيجي الباكستاني الأميركي.

وقوف وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون في العاصمة الباكستانية إسلام أباد قبل الذهاب إلى كابل يحمل أكثر من رسالة، ولعل أهمها أن الولايات المتحدة الأميركية لا يمكن أن تتجاهل دور باكستان في حل المشكلة الأفغانية وبدأت تسعى لإعادة المياه إلى مجاريها.

الوزيرة التي كانت تحمل عصا وجزرة وقبضة حديدية في قفاز مخملي في الوقت نفسه الذي أظهرت فيه مخاوفها من برنامج باكستان النووي أبدت تأييدها من الموقف الباكستاني بشأن المصالحة الأفغانية. كما أنها عدّت محادثاتها مع قائد الجيش الباكستاني الجنرال أشفق كياني أفضل وسيلة لتحقيق السلام والاستقرار في أفغانستان. وقد قالت بالحرف الواحد إن الهدف من طرح قضية الحوار مع طالبان هو التوصل إلى موقف إقليمي موحد بشأن أفغانستان وأن الولايات المتحدة لن تعارض أي جهد للمصالحة ولا ترفض أي عرض.

محاصرة اللاعب الإيراني
لقد شهدت الوزيرة الأميركية أثناء وجودها في باكستان توقيع الاتفاق على فتح الطريق التجاري بين الهند وأفغانستان عبر الأراضي الباكستانية، الأمر الذي سوف يؤثر على حجم الاستفادة من الطريق الذي يربط أفغانستان بميناء بندر عباس الإيراني. ويسمح الاتفاق للشاحنات الأفغانية باستخدام الطرق البرية عبر باكستان لنقل البضائع إلى جارتها الهند، كما يسمح للبضائع الأفغانية بالوصول إلى الموانئ الباكستانية، في محاولة لزيادة حجم تجارتها مع بقية دول العالم. وقد أشادت الولايات المتحدة بهذه الاتفاقية ووصفتها بالمعاهدة الأكثر أهمية بين الجارتين حتى الآن.

"
إذا احتدم الصراع بين إيران من جهة وأميركا  من جهة أخرى فإن المأزق الأفغاني بتعقيداته يمكن أن يكون فرصة ذهبية لضرب الأسطورة الأميركية وتدميرها، الأمر الذي تدركه الإدارة الأميركية وتسعى لتفاديه بالعودة إلى الوسيط الباكستاني
"

إن نجاح اتفاقية فتح الطريق التجاري بين أفغانستان والهند مرورا بباكستان يمكن أن يمهد لتحقيق الحلم الأميركي بربط مصادر الطاقة في آسيا الوسطى عبر الأراضي الأفغانية إلى شبه القارة الهندية ولقطع الطريق أمام أنبوب السلام الإيراني الذي قطع شوطا كبيرا لربط الجارتين الباكستانية والإيرانية الذي من المتوقع أن يمتد إلى الأراضي الصينية. منوشهر متكي وزير الخارجية الإيراني الذي كان من بين الضيوف المتحدثين في هذا الحدث طلب منه رئيس المؤتمر ألا يخرج عن إطار البحث أثناء إلقاء الخطاب.

إذا احتدم الصراع بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية من جهة والولايات المتحدة وحلفائها من جهة أخرى فإن المأزق الأفغاني بتعقيداته يمكن أن يكون فرصة ذهبية لضرب الأسطورة الأميركية وتدميرها، الأمر الذي تدركه الإدارة الأميركية وتسعى لتفاديه بالعودة إلى الوسيط الباكستاني الخبير.

من المستفيد؟
المستفيد الأول من مؤتمر كابل هو الرئيس حامد كرزاي الذي تمكن من هندسة المؤتمر بطريقة تحقق أهدافه مثل أخذ موافقة دول التحالف على إبقاء قواتها في أفغانستان حتى العام 2014، وهو العام الذي تنتهي فيه ولايته، وهو بحاجة إلى من يحافظ على عرشه.

في الوقت الذي تصنف فيه منظمة الشفافية الدولية الحكومة الأفغانية على رأس قائمة أكثر الدول فسادا في العالم -إذا استثنينا الصومال بحكم أوضاعها المختلفة- جاء مؤتمر كابل الدولي لتعلن الدول المانحة فيه تسليم 50% من معوناتها إلى حكومة غارقة في الفساد بدل المنظمات الدولية.

قبل سنتين كانت الحكومة الأفغانية تحتل المرتبة الخامسة في الفساد في العالم، ولكنها اليوم تتصدر تلك القائمة. والسؤال الذي يطرح نفسه: ما الذي جعل المجتمع الدولي يضاعف ثقته في نظام يضاعف فساده؟!

والسؤال الآخر: هل يمكن للمؤتمرات الدولية ولو في حجم مؤتمر كابل أن تنقذ نظاما جعل من البلاد سلة أفيون العالم وبؤرة للمافيا الدولية والجريمة المنظمة ودولة تعاني من ضعف الإدارة وانعدام العدالة وسيطرة القبلية وتفشي الفساد ونقص القدرة على إنشاء إدارة تتسم بالشفافية والكفاءة وفقدان المصداقية السياسية والمشروعية الوطنية، والأهم من ذلك كله تفتقد النوايا الصادقة لحل مشاكل البلاد والعباد؟ وهل الحكومة التي لم تستطع أن تكمل قائمة وزرائها بعد مضي ما يقارب سنة من "انتخاب" رئيسها تستطيع أن تستجيب للتحديات الكبرى التي تواجهها البلاد والمنطقة؟

إن الولايات المتحدة الأميركية والحكومة الأفغانية الموالية لها توصلتا إلى نتيجة، كما تشهد بذلك أدبيات الطرفين، مفادها أن أقصر طريق للخروج من المأزق الحالي هو كسب الدعم الباكستاني وفتح صفحة جديدة للاحتلال الثنائي في تاريخ أفغانستان.

لقد بدأت القوات الأميركية في أفغانستان توزيع مسؤولياتها على أكثر من مستوى، فعلى المستوى المحلي بدأت تسلح مليشيات قبلية وتدعمها بالأموال والإمكانيات، وعلى المستوى الإقليمي عادت إلى إستراتيجية الشراكة الباكستانية كما كان الحال أيام الحرب الباردة.

"
لا يمكن تصور أي مصالحة أو استقرار في غياب اللاعب الإيراني والعنصر الهندي وقيادات العرقيات المختلفة في الشمال والغرب وعدم تجاوب المجموعات المقاتلة الأخرى في الجنوب
"

لقد أعلن الجيش الباكستاني مرارا أن باكستان بحاجة إلى عمق إستراتيجي في أفغانستان، والولايات المتحدة الأميركية بدأت تشعر بالحاجة إلى الخروج قبل فوات الأوان، والرئيس كرزاي الذي يفتقد الشعبية في بلاده يبحث عن مشروعية وطنية.

كما أن حركة طالبان في فترة حكمها (1996-2001) وجدت أنها بحاجة إلى واجهة مقبولة لدى الرأي العام العالمي لتتجنب الحصار والعزلة الدوليين. وثمة أصوات في باكستان اليوم مثل حميد غول الرئيس السابق للاستخبارات العسكرية تطالب بالاستعداد الباكستاني لملء الفراغ الناتج عن انسحاب القوات الدولية في أفغانستان وتجنب أخطاء الماضي. وهكذا فإن اللاعبين يتقاربون بعضهم من بعض، والحاجة لملء الفراغ الذي يشعره كل طرف يمكن أن تشكل أرضية للتلاقي بين الأطراف المعنية.

وإضافة إلى ما تقدم، فإنه لا يمكن تصور أي مصالحة أو استقرار في غياب اللاعب الإيراني والعنصر الهندي وقيادات العرقيات المختلفة في الشمال والغرب وعدم تجاوب المجموعات المقاتلة الأخرى في الجنوب. فهل بإمكان الحكومة الباكستانية ومؤسسة الجيش الباكستاني أن تساعد (الشريك) الأميركي على حل مشكلة التعارض في أصعب معادلات المنطقة؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.