في معنى الدم

تصميم العنوان: في معنى الدم - الكاتب: سيف دعنا



في الوقت الذي كان قتلة الجيش الصهيوني يستبيحون فيه "مرمرة الزرقاء" ويريقون الدم على دفتها, كانت فلسطين جديدة وأخرى تولد في عرض البحر. لم تعد فلسطين ملكا لنا نحن العرب ولا يحق لنا أن ندعي ذلك.

ولم تعد فلسطين مشروعنا نحن العرب, فلا أخلاق تبيح لنا احتكارها بعد ما سال من دم أحرار هذا العالم في سبيل حرية غزة ما سال. كل من استثمر ودفع في مشروع حرية فلسطين بعذاباته وعذابات أهله وشعبه صار صاحب حق فيها, وكل من استثمر ودفع في فلسطين بدمه صار صاحب قضية ومصلحة في هذا المشروع الذي لا يزداد إلا عظمة وإنسانية وعالمية مع كل قطرة دم جديدة تراق فتعيد تشكيل معنى فلسطين ودلالة قضيتها وبشارة حريتها.

فلسطين الجديدة التي ولدت في آخر الأيام من مايو/أيار وخرجت من بطن البحر هي الصورة الأحدث والأقوى والأعظم, والمعنى الأشد والأعمق دلالة لفكرة فلسطين التي لولا ما سال من الدم وبناها حرفا بعد حرف وحجرا بعد حجر لكانت تاريخا منسيا أو حكاية من زمن بعيد مكانها صفحات الكتب أو رفوف المكتبات.

هو الدم الذي حمى فلسطين الفكرة من النسيان والضياع لأكثر من اثنين وستين عاما, برغم الدعم المطلق وغير المحدود لكيان الشر والعنصرية من القوى العظمى وبعض العرب والفلسطينيين. وهو الدم الذي جعل فلسطين اليوم أكبر بما لا يقاس من قطعة الأرض الواقعة بين البحر والنهر والتي يمكن الصهيوني استعمارها مؤقتا فقط. وهو الدم الذي جعل من فلسطين مشروع الوطن الحلم عصيا على الإبادة والإفناء, برغم وهن من وهن وسقوط من سقط وتوقيع من وقع من العرب والفلسطينيين.

وهو الدم الذي جعل فكرة فلسطين اليوم أكبر من أن تختزلها دلالة واحدة, أو رمز واحد, أو معنى واحد, فلقد أصبحت بفعل الدم والشهادة أكبر من أي دلالة وطنية أو قومية أو إقليمية. وهو الدم الذي جعل من الصديق, بدمه وبدم أهله, صاحب قضية, والنصير, بدمه ودم أهله, صاحب حق.

والدم الذي سال في آخر أيام مايو/أيار, يجعل من فلسطين رمزا عالميا للحرية ودلالة إنسانية للعدالة وعنوانا أمميا للأخوة بين البشر. فليتسلح الكيان الغاصب بالجديد من أحدث وأفتك أدوات القتل, فسيبقى أصغر وأوهن من أن يهزم فكرة فلسطين التي أضحت أكبر وأقوى من أن تهزم بعد كل هذا الدم. هذا هو معنى الدم.

إسرائيل أعلنت الحرب على شعوب العالم في بحر فلسطين, فجعلت من فلسطين التي خذلها بعض العرب والفلسطينيين قضية كل هذه الشعوب. ربما هو اقتناع منها بحتمية مصيرها ومحاولة بائسة ويائسة لتغيير ما لا يمكن تغييره, أو اقتناع بحتمية هذه المواجهة مع كل شعوب الأرض.

"
الدم الذي سال في بحر فلسطين لا يمكن أن يكون إلا إيذانا وإعلانا غير قابل للشك ببداية نهاية كيان لا يرى العالم إلا من منظار البندقية, وليس تاريخه إلا أزمانا ومسافات قصيرة تفصل مجزرة همجية عما سبقها وما يليها من مجازر

"

نهاية كيان
مهما يكن, فالدم الذي سال في بحر فلسطين لا يمكن أن يكون إلا إيذانا وإعلانا غير قابل للشك ببداية نهاية كيان لا يرى العالم إلا من منظار البندقية, وليس تاريخه إلا أزمانا ومسافات قصيرة تفصل مجزرة همجية عما سبقها وما يليها من مجازر.

من أخذ القرار الدموي بذبح من يناصر غزة ليلا في عرض بحر فلسطين, وبرغم أنه قصد وبإصرار كل تفاصيل المجزرة, لم يكن يعي أن الدم والشهادة, كما يعلم التاريخ, هما من سيجعل ويبقي من حرية غزة عنوان المرحلة ودليل السياسة, ليس للعرب فقط, بل ولكل من يمقت الظلم والعدوان والقهر وسلب الأوطان, ولكل من استثمر في فلسطين بالدم والجهد من أحرار هذه الأرض فأصبح صاحب حق وصاحب قضية. هذا هو معنى الدم.

لم يختلط دم أبطال أسطول حرية غزة بماء البحر فقط. لقد طبع هذا الدم مستقبل السياسة وأفق الصراع في المنطقة لتصبح حرية غزة ملفا لا يمكن تجاوزه ويستحيل الالتفاف عليه, ويكون مشروع فلسطين العربي والإنساني العنوان الذي سيفرض نفسه على كل الأجندات والأولويات شاء من شاء وأبى من أبى.

ليست هذه المرة الأولى التي يختلط فيها الدم العربي مع دماء الأحرار من غير العرب من أجل قضية فلسطين, ولكن السياق والأسلوب والتوقيت والهدف هذه المرة يعطي الدماء التي أريقت على دفة مرمرة معنى آخر. فإسرائيل اليوم, وبدون منازع, هي قوة الشر الأولى والقاتل الأقذر في العالم, وفلسطين النقيضة ولدت مرة أخرى وبحلة جديدة تلونها دماء من كل شعوب الأرض لتصبح قضية كل شعوب الأرض. هذا هو أحد معاني أن يستبيح كيان صغير بغيض, لا يعي معنى الدم وقوة الشهادة وعناد الحقيقة والتاريخ, بضربة واحدة دماء كل الشعوب.

ومفعول الدم, كما يعلمنا التاريخ, هو أكبر من أن يحتويه أو يقدر على تطويقه كيان صغير بحجم إسرائيل, ولو كان خلفه من كان خلفه. ولعنة الدم وبشارته أقوى من أن تمسحها إستراتيجية الكذب وتلفيق العلاقات العامة ودبلوماسية الإرهاب.

في كل مرة يسيل فيها الدم تعلو البشارة, ويزداد زخم دلالة غزة ووعد حريتها. وفي كل مرة يسيل فيها الدم, يتجذر الاقتناع ويستعصي الدم الذي سال على التجاوز أو الالتفاف عليه. ففلسطين وغزة أصبحتا, بفعل هذا الدم الكثير المتعدد, أكبر من أن تهزم. هذا هو درس التاريخ وهذا هو معنى الشهادة, والشقي من لا يتعظ. فالشهادة تأريخ لزمن, عنوان لهدف, وشهادة على مرحلة وإلا لكانت مجرد موت غير ذي معنى.

ولأن الدم الذي سال من أجل حرية غزة لم يكن فلسطينيا فقط, أو عربيا فقط, فإن غزة وفلسطين أصبحتا أكثر من عنوان ورمز ودلالة للعدالة والحرية, بل أصبحتا مشروعا إنسانيا استثمر فيه بالدم الكثير من البشر ليصبحوا شركاء العرب في فلسطين الفكرة والقضية والوطن, وإسرائيل أصغر من أن تهزم العالم كله, وأضعف من أن تعيد تشكيل الإنسانية كلها مهما مارست من إرهاب ودكتاتورية أخلاقية. هذا هو معنى الدم.

"
ولدت من بطن البحر فلسطين أخرى جديدة ستقهر من ظن أنه لا يقهر, ودم أبطال أسطول الحرية كان القابلة التي خصها التاريخ بشرف بعث وإيقاظ المعنى والدلالة الإنسانية الخالدة لفكرة أصبحت أكبر من أن يحتويها من يظن أنه يحتويها
"

فلسطين أخرى
لن تفيد إستراتيجية "اقتل واكذب" هذه المرة, ولن تثمر حملات العلاقات العامة ودبلوماسية الإرهاب, ولن تجدي سياسة الابتزاز و"بروباغاندا" التزوير, ولن يسعف لعب دور الضحية وذرف دموع التماسيح في قلب الحقائق وتشويه تاريخ كتب بالدم.

ليس فقط لأن الشهود والشهداء هذه المرة أقوى وأكبر وأكثر تنوعا من أن يدعي أي كان الحديث باسمهم ويزور خارطة دمهم. وليس لأن الفضيحة والجريمة هذه المرة أكبر من أن تغطيها حملة علاقات عامة كما اعتاد من اعتاد قتل الأطفال والمدنيين. وليس فقط لأن الضحية هذه المرة تنتمي لأكثر من أربعين أمة وشعب ولا يمكن لأي كان أن يدعي تمثيل ما يمثله دمهم. وليس فقط لأن الجريمة استهدفت أكثر العناوين المدنية وضوحا ولا يمكن لأي طاغية أن يناطح عناد الحقيقة. وليس فقط لأن "بساطير" المرتزقة القتلة داست بكل الوقاحة والعنف كل الشرائع وكل القوانين وكل القيم فاستحقت لعنة البشر جميعا.

بل لأن هذه الحملات والإستراتيجيات تنتمي لزمن آخر مضى وانقضى ولن يعود. ولأن إسرائيل أعلنت الحرب على العالم كله شعوبا, وقوانين, وقيما, وأخلاقا, وهي أصغر من أن تنتصر. ولأن الصورة هذه المرة ملطخة بأكثر مما يمكن لأي حملة مسحه من الدماء التي صنعت التاريخ والمستقبل منذ الحرب على غزة وحتى أسطول الحرية. وأيضا, لأن معنى غزة ودلالة فلسطين يطبعهما من العذاب والألم والدم المشكل لهما أكثر مما يمكن لأي طغيان أن يحرف أو يزور حتى لو سانده بعض من أهل البيت. هذا هو معنى الدم.

في الخاتم من مايو/أيار ولدت من بطن البحر فلسطين أخرى جديدة ستقهر من ظن -ووهم وكذلك من تعب وقصر نفسه- أنه لا يقهر, ودم أبطال أسطول الحرية كان القابلة التي خصها التاريخ بشرف بعث وإيقاظ المعنى والدلالة الإنسانية الخالدة لفكرة أصبحت أكبر من أن يحتويها من يظن أنه يحتويها, وأعظم من أن يمثلها من يظن أنه يمثلها, وأقوى من أن يقهرها من يظن أنه سيقهرها.

هذا زمن مضى وانقضى ولن يعود, فمفعول الدم أقوى من مفعول السياسة وفتك السلاح, ومعنى الدم أشد قوة ووضوحا من أن تحجبه الدبلوماسية وابتزاز الإرهاب, ودلالة الشهادة أبعد من أي شرعية وأعمق من أي تشريع, وبشارة الشهادة أوضح من أي تزوير وأسطع من أي خداع.

في الآخر من مايو/أيار, بدأ عهد فلسطين الجديدة, حيث لا صوت يعلو فوق صوت الدم, ولا حقيقة أقوى وأعند من حقيقة الشهادة, ولا لون يطبع التاريخ والسياسة والدبلوماسية أكثر وأعمق من لون الدم المراق على دفة "مرمرة الزرقاء". في الآخر من مايو/أيار, في عرض بحر فلسطين, وأمام أعين كل الخلق, انتصر الدم على السيف.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.