الحكومة التركية ومعركة إصلاح القضاء

العنوان: الحكومة التركية ومعركة إصلاح القضاء

لا لقضاء يخدم القوى الانقلابية
التوازن بدلا من سيطرة لون واحد

تشهد تركيا هذه الأيام جولة أخرى من جولات معارك تعزيز الديمقراطية التي تخوضها حكومة حزب العدالة والتنمية مع القوى المتسلطة على رقاب الحكم في البلد، وسط الاعتقالات التي تطال ضباطا كبارا في الجيش، عنوانها هذه المرة القضاء الذي بات واضحا أنه بحاجة ماسة إلى إصلاح جذري ليعمل هو نفسه في إطار الدستور والقوانين.

بدأ البرلمان التركي يوم الأحد 2 مايو/أيار جلسات الجولة الثانية الحاسمة للتصويت على حزمة من التعديلات الدستورية التي اقترحتها حكومة حزب العدالة والتنمية، من شأنها أن تغيّر الطريقة التي يعين بها القضاة في المحاكم العليا وتجعل من الصعب حظر الأحزاب السياسية مع إمكانية مساءلة العسكريين أمام محاكم مدنية، وذلك رغم معارضة القوى القومية والعلمانية بحجة أنها تجرد السلطة القضائية من دورها بتوفير التوازنات.

إن التعديلات الدستورية التي تسعى الحكومة التركية لإجرائها عبر الاستفتاء الشعبي في يوليو/تموز المقبل، تهدف بالدرجة الأولى إلى إصلاح النظام القضائي للحد من التدخلات السافرة للقضاء في الحياة السياسية لتنظيمها وفق رؤية نخبة متسلطة، ضاربا عرض الحائط بإرادة الشعب التركي وتطلعاته.

لا لقضاء يخدم القوى الانقلابية
وقد حققت حكومة حزب العدالة والتنمية نجاحات مبهرة في السياسة الخارجية والعلاقات مع دول المنطقة في شتى المجالات، إلا أن هذا الصعود في الخارج قابله وضع متأزم في الداخل بسبب محاولات الانقلاب على الحكومة والاعتقالات التي طالت عددا من كبار ضباط الجيش المتقاعدين وحتى الموظفين، وأضيفت إلى ذلك أنباء مسرّبة تفيد أن المدعي العام "عبد الرحمن يالتشينكايا" يقوم بجمع أدلة لرفع دعوى قضائية جديدة إلى المحكمة الدستورية يطلب فيها حظر الحزب الحاكم، وهو ما دفع حزب العدالة والتنمية الذي نجا من الحظر في المرة الأولى بفارق صوت واحد فقط، إلى التفكير في أنه ربما لا ينجو في المرة الثانية وبالتالي فعليه أن يبادر بتعديلات دستورية تجعل حظر الأحزاب أكثر صعوبة وتحد من سيطرة القضاء المطلقة على الحياة السياسية.

"
أمثلة كثيرة تدل على انحياز المجلس الأعلى للقضاة والمدعين العامين بشكل سافر للقوى الانقلابية، مما جعل إعادة بناء المجلس الأعلى للقضاة والمدعين العامين أمرا لابد منه لمواصلة مسيرة الديمقراطية
"

لم تكن الحكومة التركية وحدها ترغب في إصلاح القضاء، بل القوى الديمقراطية كلها كانت تطالب به الحزب الحاكم منذ أن ظهر جليا أن القضاء بطبيعته الحالية يشكل عائقا كبيرا أمام مسيرة الإصلاحات الديمقراطية بسبب توغل القوى الانقلابية فيه وتوظيفه في سبيل إحكام قبضتها على السلطة في البلاد ومعاقبة المعارضين لها وحماية عناصرها من قبضة العدالة. ونذكر هنا على سبيل المثال بعض القضايا الحساسة التي تم التدخل فيها لصالح القوى الانقلابية:

– رفع ممثل الادعاء العام في محافظة "أضنة" "ساجد كاياسو" في مارس/آذار 2000 دعوى قضائية بطلب محاكمة رئيس الجمهورية السابق "كنعان إيفرين" بتهمة قيادة الانقلاب العسكري، ولكن وزير العدل آنذاك "حكمت سامي تورك" أمر فورا بفتح تحقيق في حقه وتم إبعاده عن منصبه بتهمة أنه أساء استخدام صلاحياته، ومنعه المجلس الأعلى للقضاة والمدعين العامين من مزاولة مهنة المحاماة. وهكذا بدأت لرجل القانون أيام المعاناة القاسية التي وصفها بأنها قد تضطره لبيع الليمون في السوق لكسب رزقه ومعاشه, كل ذلك فقط بسبب طلبه تطبيق القانون الذي يعتبر الانقلاب العسكري جريمة.

– ألقيت قنبلة في نوفمبر/تشرين الأول 2005 داخل مكتبة يملكها عضو سابق في حزب العمال الكردستاني في بلدة "شمدينلي" بجنوب شرق تركيا وخلف الانفجار قتيلا وحضر المدعي العام مع قائم مقام "شمدينلي" للكشف في المكان، ولكن ضابطا أطلق النار عليهما مما أدى إلى مقتل أحد المتجمعين ومغادرة المدعي العام المكان دون أن يقوم بعمله.

وأدرج المدعي العام في محافظة "وان" "فرحات صاريكايا" قائد القوات البرية الجنرال ياشار بويوكانيت (الذي أصبح فيما بعد رئيس الأركان) في لائحة المتهمين وطلب محاكمته بتهمة تشكيل عصابة واستخدام صلاحياته خارج حدود القانون في الحرب على الانفصاليين الأكراد، على خلفية التحقيق في أحداث "شمدينلي".

لم يضيع المجلس الأعلى للقضاة والمدعين العامين الوقت وسرعان ما تدخل في القضية لصالح الجنرال وطرد "فرحات صاريكايا" من عمله ومنعه من مزاولة مهنة المحاماة في تركيا.

– اعتقلت محكمة محافظة "أرضروم" ممثل الادعاء العام في محافظة "أرزنجان" "إلهان جيهانير" بتهمة الانتماء لشبكة "أرغينيكون" الإجرامية وقامت قوات الأمن بتفتيش مكتبه ومنزله في أرزنجان بتعليمات من المدعي العام في "أرضروم" عثمان شانال المزود بصلاحيات استثنائية خاصة وأسفر التفتيش عن وضع اليد على أقراص مدمجة وأجهزة حاسوب وعدد كبير من الوثائق. ولكن المجلس الأعلى للقضاة والمدعين العامين فاجأ بتجريد المدعي العام في "أرضروم" عثمان شنال من جميع صلاحياته في محاولة للدفاع عن المدعي العام "إلهان جيهانير".

أمثلة كثيرة تدل على انحياز المجلس الأعلى للقضاة والمدعين العامين بشكل سافر للقوى الانقلابية، بالإضافة إلى أنباء تشير إلى العلاقات المشبوهة بين بعض أعضائه وأعضاء شبكة "أرغينيكون" التي قامت بتخطيط عدة محاولات انقلابية، وهو ما جعل إعادة بناء المجلس الأعلى للقضاة والمدعين العامين أمرا لا بد منه لمواصلة مسيرة الديمقراطية.

التوازن بدلا من سيطرة لون واحد
تتهم المعارضة الحزب الحاكم بالسعي إلى تقويض استقلال القضاء وتوطيد سلطاته، معبرة عن مخاوفها من سيطرة أعضاء حزب العدالة والتنمية على دوائر المحكمة العليا، إلا أن المتأمل يرى أن اتهام المعارضة في غير محله حيث إن السلطة القضائية يغلب عليها لون واحد وهو لون حزب الشعب الجمهوري، وهي خاضعة لنفوذ وتأثير النخبة المتسلطة التي تعد نفسها حارسة للعلمانية الكمالية في البلاد.

إن ما يجري الآن أمر في غاية التعقيد حتى بالنسبة للأتراك ولذا يصعب فهمه على القارئ العربي ولا بد من شرح بعض التفاصيل لتتضح الصورة، ومنها طريقة اختيار الأعضاء للمحاكم العليا والمجلس الأعلى للقضاة والمدعين العامين.

"
يغلب على السلطة القضائية لون واحد وهو لون حزب الشعب الجمهوري، وهي خاضعة لنفوذ وتأثير النخبة المتسلطة التي تعد نفسها حارسة للعلمانية الكمالية في البلاد
"

– المحكمة الدستورية: تتكون المحكمة الدستورية من 11 عضوا، يعين رئيس الجمهورية ثلاثة أعضاء منهم مباشرة، أما بقية الأعضاء فيعينهم من بين المرشحين (ثلاثة مرشحين لكل عضوية) الذين يختارهم كل من محكمة التمييز (عضوين) والمحكمة الإدارية العليا (عضوين) ومحكمة التمييز العسكرية (عضو واحد) والمحكمة الإدارية العسكرية العليا (عضو واحد) ومحكمة المحاسبات (عضو واحد) ومجلس التعليم العالي (عضو واحد).

– محكمة التمييز: يتم اختيار أعضائها من قبل المجلس الأعلى للقضاة والمدعين العامين.

– المحكمة الإدارية العليا: يتم اختيار أعضائها من قبل المجلس الأعلى للقضاة والمدعين العامين.

– المجلس الأعلى للقضاة والمدعين العامين: يتكون من 7 أعضاء، أحدهم وزير العدل والثاني مستشار وزارة العدل، ويتم اختيار ثلاثة أعضاء من بين أعضاء محكمة التمييز وعضوين من بين أعضاء المحكمة الإدارية العليا. يقدم كل من محكمة التمييز والمحكمة الإدارية العليا ثلاثة مرشحين لكل عضوية إلى رئيس الجمهورية ليعين أحدهم عضوا في المجلس الأعلى للقضاة والمدعين العامين.

أما طريقة اختيار المرشحين فيكرر أعضاء المحكمة التصويت لاختيار كل مرشح على حدة (يتم التصويت ثلاث مرات) وبالتالي يختار التيار الحاكم في المحكمة المرشحين الثلاث كلهم –طبعا من لون واحد- فلا يختلف كثيرا إذا قام رئيس الجمهورية بتعيين أحد المرشحين أو الآخر، أي أن رئيس الجمهورية هو من يعين أعضاء المجلس الأعلى للقضاة والمدعين العامين ولكن من بين المرشحين الذين ينتمون كلهم إلى التيار نفسه.

وباختصار فالتيار الحاكم في محكمة التمييز والمحكمة الإدارية العليا هو الذي يختار أعضاء المجلس الأعلى للقضاة والمدعين العامين، ثم يقوم هذا الأخير بتعيين أعضاء محكمة التمييز والمحكمة الإدارية العليا، فهكذا يتم الدوران ويواصل هذا التيار العلماني الكمالي المتشدد سيطرته في القضاء ولا يسمح لأحد من خارج التيار بالتسلل إلى المحاكم العليا أو المجلس الأعلى للقضاة والمدعين العامين.

إن التعديلات الدستورية الأخيرة تكسر احتكار لون واحد للقضاء وتحقق التوازن بطريقة لا تكون لأي جهة سيطرة كاملة عليه، وذلك برفع عدد أعضاء المجلس الأعلى للقضاة والمدعين العامين من 7 إلى 22 يرأسه وزير العدل ويكون مستشار الوزارة عضوا حكميا فيه، ويعين رئيس الجمهورية أربعة أعضاء مباشرة، أما العدد الباقي فيتم انتخابه من قبل محكمة التمييز (ثلاثة أعضاء) والمحكمة الإدارية العليا (عضوين) ومجلس أكاديمية العدل (عضو واحد) والقضاة والمدعين العامين العاديين (سبعة أعضاء من بين القضاة والمدعين العامين من الدرجة الأولى) والقضاة والمدعين العامين الإداريين (ثلاثة أعضاء). وهكذا، فإنّ المجلس الأعلى للقضاة والمدعين العامين سيصبح، وفق التعديل الجديد، شبيها بنظيره في كل من فرنسا وإسبانيا وإيطاليا.

"
التعديلات الدستورية الأخيرة تكسر احتكار لون واحد للقضاء وتحقق التوازن بطريقة لا تكون لأي جهة سيطرة كاملة عليه، وبالتالي سيصبح المجلس الأعلى للقضاة والمدعين العامين شبيها بنظيره في كل من فرنسا وإسبانيا وإيطاليا
"

ومن المتوقع أن تحصل الحزمة في القراءة الثانية على أصوات تتراوح بين 330 و367 صوتا، وبالتالي إحالتها بواسطة رئيس الجمهورية إلى الاستفتاء الشعبي، الذي يعقد خلال 60 يومًا من تاريخ المصادقة عليها.

وأعلن حزب الشعب الجمهوري أنه سيتقدم إلى المحكمة الدستورية للطعن في التعديلات الدستورية في حال مصادقة رئيس الجمهورية عليها أو إحالتها إلى الاستفتاء الشعبي. ومن المحتمل أن تقرر المحكمة الدستورية بطلان التعديلات الدستورية مع وقف إجراء الاستفتاء الشعبي عليها، وبعده يرفع المدعي العام "عبد الرحمن يالتشينكايا" دعوى قضائية للمحكمة الدستورية لحظر حزب العدالة والتنمية بتهمة السعي لتغيير جوهر المواد الدستورية التي لا يمكن تغييرها تحت أي ظرف، وهذا هو السيناريو الأسوأ لتركيا، الذي سيؤدي إلى الفوضى العارمة في البلاد.

كما أنه من المحتمل أن يؤجل رئيس المحكمة الدستورية "هاشم كيليتش"، الذي كثيرا ما ينتقده العلمانيون المتشددون بسبب حجاب زوجته وتصريحاته الداعية للإصلاحات الديمقراطية، النظر في القضية إلى ما بعد ظهور نتائج الاستفتاء الشعبي، وهذا ضمن صلاحياته، ويقرر الشعب التركي قبول التعديلات في الاستفتاء ليتحقق هذه المرة السيناريو الأسوأ للقوى الانقلابية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.