عين على انتخابات السودان

عين على الانتخابات في السودان : فيوليت داغر



شكل حدث الانتخابات السودانية أحجية كبيرة لمنظمات حقوق الإنسان والتيارات الديمقراطية العربية والغربية. فقد أنفقت على الصعيد الدولي مليارات -وليس ملايين- الدولارات لزرع وترويج فكرة الانتقال السلمي للديمقراطية، خاصة منذ سقوط جدار برلين وحلف وارسو. ثم بدأت مؤسسات المراحل الانتقالية تعطي دروساً هنا وهناك في الإصلاح الإداري والرقابة المالية والحكم الرشيد والعدالة الانتقالية.

 ولم يعدم الأمر دراسات في الثورات البرتقالية والتجربة الأوكرانية والليبرالية الجورجية والتشيكية. هذه الأخيرة التي عاد اليوم رمزها المغدور فاكلاف هافيل يطالب "بإعادة الاعتبار للروح والأخلاق والوعي"، بعد أن انتصر في مجتمع الغاب التشيكي اقتصاد السوق والفساد وتبييض الأموال وانهزم الإنسان بكل معاني الكلمة.

والسؤال الآن: هل أن محطات التلفزيون الممولة أميركياً والحملات الإعلامية المركزة، مدحاً أو ذماً، ضد أنظمة محددة قادرة على بناء مجتمع ديمقراطي جديد؟ وهل يمكن استبدال المجتمع البشري بمجتمع افتراضي قابل للتطويع والسيطرة والتسيير كما نريد؟ هذه الأسئلة لم تأت من تبليسي أو بغداد، وإنما من الخرطوم. أي المكان الذي وضعت نظامه أكثر من إدارة أميركية على قائمة التصفية، لا التطويع أو التحييد أو الاحتواء.

"
السنوات الأخيرة التي عاشها السودان كانت بكل المعاني سنوات اضطراب المفاهيم وغياب التصورات السهلة وموت الإيديولوجيات، من الإسلامية إلى الليبرالية مروراً بالشيوعية
"

فمنذ توقيع اتفاقية السلام مع الحركة الشعبية في الجنوب، اهتزت عدة صور كلاسيكية عن الطابع الإسلاموي لسلطة ترفض أي تعاون مع العلمانيين أو الحركات المسلحة، وتعتبر التأمين والتمكين الإيديولوجي برنامج عمل إستراتيجيا، وترفض التجربة البرلمانية التي عرفها السودان أربع مرات في تاريخه المعاصر، بل وتعتبر المؤتمر الوطني النخاع الشوكي للعمود الفقري المسمى بالدولة.

فالسنوات الأخيرة التي عاشها السودان كانت بكل المعاني سنوات اضطراب المفاهيم وغياب التصورات السهلة وموت الإيديولوجيات، من الإسلامية إلى الليبرالية مروراً بالشيوعية.

من المشروع أن نطرح السؤال: كيف عادت القوى العظمى، التي استهدفت رأس النظام في نظام قائم على أساس قوة الرأس، لتطالب المعارضة بالانخراط في عملية "الشرعية الانتخابية" ثم للقول بقبولها نتائج الانتخابات؟ هل التحولات الداخلية هي وحدها ما كان وراء أكثف حضور للمراقبين الغربيين في انتخابات تجري في العالم العربي في التاريخ؟ ألم تتشكل جماعات من كل حدب وصوب وبدعم من كل مهتم بالشأن السوداني من أجل المراقبة الانتخابية؟ لقد شهدنا عدداً لا سابق له من الجمعيات السودانية (ساهمت أكثر من 1138 منظمة سودانية في أعمال المراقبة والتوعية والتدريب وتقديم المساعدة، أي حوالي 65000 شخص بشكل مباشر أو غير مباشر منهم 25000 مراقب محلي) تشارك، وتنقسم بحسب الحساسيات السياسية لكل واحدة منها ووفقاً لمن ساعدها مالياً، في متابعة الانتخابات.

وعليه، ألا يعطي وجود مئات المنظمات المدنية في آلاف مراكز الاقتراع ورقة حسن سلوك للسلطة السودانية التي فعلت ما لم يحدث في مصر يوم مولت السفارة الأميركية وحدها المراقبين المحليين، أو في العراق حيث كان المراقب المحلي أسير الأوضاع الأمنية، أو في موريتانيا حيث تلخصت مهمة الانتخابات نفسها في شرعنة انقلاب ضابط يعتبر المؤسسة العسكرية الحزب الأقوى في البلاد، وبالتالي يعطيها الحق في فرض رئيسها على الدولة والمجتمع؟.

الديمقراطية لا تتلخص في تقنيات انتخابية وحسن تطبيقها. فالوهم الذي يحمله البعض من أن فكرة التحول الديمقراطي تبدأ بمعايير تقنية، وضعها أصحاب القبعات الزرق في الأمم المتحدة بتوصية من الإدارة الأميركية أو الاتحاد الأوروبي، هو فكرة تحتاج للمراجعة.

الديمقراطية نمط تصرف ينطلق من ضرورة إعطاء الخصم قيمة حضور، والمواطنة ثقافة وممارسة لا يملك أحد القدرة على بيعها في حانوت، أو الترويج لها عبر عمالة مدفوعة الأجر. وإن كان للمشهد الانتخابي أن يعبر عن شيء، فهو في تصعيده لكل الطحالب والطفيليات والأمراض القديمة والجديدة إلى السطح فيما يسمح للمجتمع بإبصار مشكلاته السياسية والمدنية.

من يستطيع القول إن السودان لا يدفع اليوم فاتورة انقلاباته العسكرية المتتابعة، وبشكل أوضح الفاتورة الأخيرة لانقلاب 1989؟ وإن الأحزاب السودانية، كما الجمعيات الأهلية والحقوقية المبكرة النشأة في هذا البلد والمتكاثرة بشدة، لا تعيش أزمة عميقة تحتاج لوقفة مراجعة؟ الأمر الذي بالتأكيد أهم من مجرد المشاركة أو مقاطعة الانتخابات، مراقبتها أو الغياب عنها، اتخاذ خيار المقاومة المدنية أو الاستسلام الطوعي لأجندة مسبقة الصنع محددة المقاييس، أكانت بصناعة محلية أو من إنتاج غربي.

ترددت في السودان عبارات وتقييمات، تراوحت بين طرفي نقيض، حول نجاح الانتخابات بشكل منقطع النظير وبكل المعايير، أو إعلان فشلها بشكل ذريع وبحيث إن كل ما جرى هو مجرد نهب لأموال الشعب السوداني والأموال الخارجية لتعزيز سلطة الحزب الحاكم. بالتأكيد، لا يوجد فك ارتباط بين أجهزة الدولة وحزب المؤتمر.

هكذا تصور الدكتور الترابي العلاقة بين الحزب الإسلامي والدولة الإسلامية، قبل أن يصبح هو نفسه ضحية هذا التداخل المرضي بين التنظيم السياسي والسلطات القضائية والتشريعية والتنفيذية. وإلى اليوم لم يقم أحد بمراجعة جدية لفترة سنوات السيطرة الإيديولوجية على حياة المواطنين والمواطنات، ولم يضع الحزب الحاكم في الشمال وشريكه في الجنوب تجربتهما على مبضع النقد والتقييم.

ولنتساءل بصراحة، هل هناك مشروع سياسي متماسك وبعيد النظر لطرف سياسي واحد (هناك أكثر من 70 حزباً) للخروج من نمط الحكم التسلطي عبر الفصل التام بين المؤتمر الوطني وأجهزة الدولة المختلفة؟ ثم أليس من اللافت للنظر ألا تنجح الطبقة السياسية المعارضة في الاتفاق على شخصية وطنية جامعة في وجه رئيس موجود في السلطة منذ أكثر من عقدين؟ أو ليس من المشروع السؤال عن سبب غياب إستراتيجية بناءة لديها للتعامل مع الانتخابات حتى ولو كان الموقف "المقاطعة المعبرة عن الذات والأسباب"؟.

"
مراكز القرار الغربية تبدو وكأنها تعيد النظر في التعامل مع ملف السودان، وما العملية الانتخابية إلا جزء من هذه المراجعة التي تحمل أكثر من سلة بيد واحدة: الاقتصادية والسياسية وملف دارفور
"

مراكز القرار الغربية تبدو وكأنها تعيد النظر في التعامل مع ملف السودان، وما العملية الانتخابية إلا جزء من هذه المراجعة التي تحمل أكثر من سلة بيد واحدة: الاقتصادية والسياسية وملف دارفور. أما موضوع المعايير الدولية للانتخابات التي أحدثت جدلاً، خصوصاً إثر تصريحات الرئيس كارتر بأن الانتخابات السودانية لم تستوفها، فيمكن القول إن توفر الحد الأدنى منها (حق وحرية الانتخاب، صوت واحد لناخب واحد، سرية الاقتراع وضمانه للحريات الأساسية) أو عدمه لا يكفي لجعل الانتخابات ميزان حرارة فعليا للواقع والمستقبل السياسي في البلاد.

من لا يعرف أن معايير التمويل الانتخابي والمساواة بين الناخبين ليست مثلاً من ميزات الانتخابات الأميركية وأن النسبية قاعدة أساسية للتقييم؟ ثم كيف يمكن أن تكسر صناديق الاقتراع جليد 24 سنة من الغياب البرلماني؟ ألم تتطلب الانتخابات مشاركة جماعية سياسية ومدنية لتهيئة ناخبين أكثر من نصفهم يشارك لأول مرة في الاقتراع، لانتخاب 14,550 مرشحاً مدرجين على 8 قوائم في الشمال و12 في الجنوب، تزخر بالأسماء والرموز والوجوه التي ليس من السهل تفكيك أحجيتها من طرف الناخب وخصوصاً الأمي أو الطاعن في السن الذي استغرقت مدة اقتراعه ليس أقل من ربع ساعة؟ أعتقد أن الطبقة السياسية لم تستثمر الهوامش المتاحة لتفعيل الحياة السياسية، خاصة أن أي مراقب كانت لديه الإمكانية، ليس فقط على التواجد المكثف والحركة بحرية حيث شاء، بل ووقف التصويت في مراكز الاقتراع التي يعتبر أن خروقات تعتري العمليات التي تجري فيها. وهناك إعادة للانتخاب خلال الشهرين القادمين في 17 دائرة قومية و16 دائرة ولائية.

لا شك في أن ما قامت به السلطات السودانية مغامرة كبيرة. وربما كان من عناصر اطمئنانها أنها أجرتها بغياب معارضة متماسكة ومنسجمة، قادرة على الاحتجاج في حال حصول تزوير في مراكز اقتراع النتائج فيها متقاربة، مثلما حدث في بلدان عديدة شكلت فيها نتائج الانتخابات شرارة احتجاجات أو نهاية مرحلة.

بالتأكيد لم تكن الأطراف السياسية في السودان على درجة واحدة من الجاهزية، ولم تملك الوسائل التي تسمح بحد أدنى من المساواة في خوض المعركة، ولم يكن بوسعها أن تدعي نصراً لم تكن بوضعها الممزق قادرة عليه. هناك من تحدث منذ ما قبل بدء عمليات الاقتراع بالتزوير، ومنها من انسحب من المبارزة بسبب الخسارة المتوقعة أو لعدم استجابة الطرف القوي في لعبة الموازين لمطالبه وشروطه.

وفي بالمقابل، من الضروري القول -للإنصاف- إن الحياة السياسية في السودان تدفع ثمن عقدين من الممارسة التسلطية والأمنية والحزبية التي أنهكت المجتمعيْن المدني والسياسي وقلصت الفرص الطبيعية للنمو عند الفضاء غير الحكومي.

والأدهى هو أن الإعلام الذي تعامل مع الانتخابات بستار من الموضوعية، كانت الذاتية طاغية على طريقة إبرازه للحدث، بغض النظر عن نوع القناة أو الصحيفة التي يعمل بها الصحفي. لدرجة أن التصريحات والحوارات -عندما لا تكون مباشرة- كانت تجتزأ من مضمونها ويتم تقطيع أوصالها بحيث لا يبقى منها إلا ما يناسب ناشرها، ومنها ما لم أتعرف على نفسي فيها.

أما البعض الآخر، فقد قاطع تماماً طرفاً ما لافتراض مسبق لموقف معين لديه لا يناسب توجه الوسيلة الإعلامية، في حين كان آخر يسأل المدعو عما عساه سيقول قبل أن يجرى الحوار معه ليبقيه أو يعتذر منه. بكل الأحوال، لم نسمع بمقاضاة صحفي عبّر عن رأيه، رغم أن منهم من قال إن الرقابة الذاتية أقوى من الخارجية منذ أن تم التوافق على ميثاق الشرف الصحفي. لكن هل نفترض أنه بعد أن ترفع العين الخارجية ستكون هناك تصفية حسابات ومقاضاة لصحفيين؟.

كما في كل حدث، هناك نصف الكأس الفارغ والآخر الملآن. وعندما نشدد على الأخير، فبالمقارنة خصوصاً مع بلدان عربية وأفريقية مجاورة كثيرة لا تسمح بأن يجري فيها ما شهده السودان. وكي يعطي هذا الأخير المثل لهذه البلدان وليكون نموذجاً تحتذى تجربته، يفترض أن يقبل الحريصون على نجاحها النقد والتدقيق بشفافية وأمانة. فالمبتغى إصلاح الخلل، وأيضاً سد الثغرات والذرائع على أصحابها.

النقاط المضيئة تجب الإشادة بها، ولو أن هناك من قد يأخذ على من يقولها إنه بذلك يحابي النظام القائم. لكن الحقيقة لا يمكن حجبها مهما كان ثمن الجهر بها، ولا بد من التأكيد على أن تواجد المرأة بنسبة 25% على اللوائح الانتخابية (بما يعني 112 مقعداً في البرلمان الوطني من أصل 450 و43 مقعداً في الجنوب من أصل 117) هو من الأهمية بمكان بحيث لا يجوز أن يغفل.

"
هناك مؤشرات تفيد بأن هناك توجها وفاقيا مفاده أن كل من لم يصل للسلطة التشريعية بالانتخاب يشارك في السلطة التنفيذية بالتوافق, الأمر الذي يؤكد مجدداً تداخل السلطات بدل فصلها
"

لقد كانت المرأة حاضرة بقوة في كل مفاصل هذه التجربة في بلد فتح الأبواب لمجتمعه المدني بالانخراط في إدارة الشأن العام، حيث بان أن الناخب السوداني (أكثر من 16 مليون) بإصراره وصبره هو الفائز الأول. وعليه، نأمل ألا تغيّب إرادته وحضوره المواطني في الفترة القادمة.

والأمل كبير بأن يمارس سلطته الرقابية انطلاقاً من أن المرشحين انتخبوا غالباً ليس بناءً على برامج سياسية أو لمصالح شخصية، وإنما بتغليب التوجهات المحلية والتحالفات القبلية. التجربة مدعاة للاهتمام، لا بل للدراسة المعمقة لاستقاء العبر.

هناك مؤشرات تقول إن هناك توجها وفاقيا مفاده أن كل من لم يصل للسلطة التشريعية بالانتخاب يشارك في السلطة التنفيذية بالتوافق. الأمر الذي يؤكد مجدداً تداخل السلطات بدل فصلها، والتعاون من فوق عوض أن يكون من تحت، ويعيد للمربع الأول حول شكل الممارسة المواطنية للديمقراطية.

الطريق ما زال متعثراًً، وليست هذه الانتخابات سوى حلقة في مسلسل طويل للخروج من نفق الدولة التسلطية باتجاه التحول الديمقراطي. ولا شك في أن هذا النضال يحتاج لكل الطاقات والأطراف الفاعلة، درءاً للأخطار التي تهدد السودان وحفاظاً على مصالح شعبه وقدرته على الاستفادة من خيرات بلده ومشاركته المسؤولة في عملية البناء والتنمية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.