إيران النووية والجار التركي

سمير صالحة (إيران النووية والجار التركي



530 كلم من التداخل الجغرافي الغني بالتجارب التاريخية والانفتاح اللغوي والثقافي والحضاري. خضات وانتكاسات أكثر من مرة لكن سياسة الترهيب والترغيب كانت دائما المتحكمة. قلق تركي في مطلع الثمانينيات من "تصدير الثورة" وقلق إيراني مماثل من الجار "العلماني الموالي للغرب".

 زيارة الرئيس التركي الأسبق أحمد نجدت سزر التاريخية لطهران عام 2002 ثم الموقف التركي من الحرب الأميركية على العراق عام 2003 وأخيرا زيارة الرئيس الإيراني أحمدي نجاد عام 2004 لتركيا كانت كافية لفتح صفحة جديدة من العلاقات التركية الإيرانية تثمر تعاونا تجاريا يصل إلى مليارات الدولارات.

"
رجحت تركيا وإيران إبقاء مذهبيتهما أو ميولهما الدينية على الحياد في أكثر الأحيان ونجح نهج الرقابة الذاتية في الحؤول دون وقوع أية خضات وتوترات جدية بينهما خلال عشرات السنين
"

رجح الجانبان إبقاء مذهبيتهما أو ميولهما الدينية على الحياد في أكثر الأحيان ونجح نهج الرقابة الذاتية في الحؤول دون وقوع أية خضات وتوترات جدية بينهما خلال عشرات السنين. ليتحول ذلك إلى تنسيق وتفاهم في مسائل تعني البلدين تتقدمها الأزمة اللبنانية والحرب الأميركية في العراق والحرب الإسرائيلية على لبنان عام 2006 ثم الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة. فهل تنجح أنقرة في مساعدة طهران في تجاوز البرنامج النووي الإيراني وإيصاله إلى بر الأمان؟

التصعيد الإيراني النووي الأخير مع الغرب بعد قرار رفع نسبة تخصيب اليورانيوم إلى 20% وما صاحبه من اتفاق واسع هناك على أن هذه الخطوة تقرب إيران أكثر فأكثر من القنبلة النووية، رافقته حقيقة أخرى هي أن البرنامج الإيراني هذا وأمام ما يثيره من تساؤلات وردود تحول إلى مصدر توتر إقليمي واسع.

لا بل إن السياسة الإيرانية هذه ستقود في أحسن الأحوال وكما يرى البعض إلى طرح مواقف وإستراتيجيات جديدة تدفع نحو مناقشة مسائل إعادة ترتيب وتركيب العلاقات والمصالح بين دول المنطقة يكون موضوع البرامج النووية المتقابلة مركز الثقل فيها ويصعب منذ الآن إطلاق تخمينات حول تأثيراتها وانعكاساتها على علاقات دول الشرق الأوسط لكنها ستدفع في جميع الأحوال إلى بناء تحالفات وتكتلات جديدة ميزتها الانتشار النووي العسكري وإعطاء القوى الغربية الكبرى المزيد من الفرص للتدخل أكثر فأكثر في شؤون بيتنا.

إدارة أوباما التي يبدو أنها تعمل على إطلاق سياسة إيرانية جديدة تتعارض مع سياسة "اليد الممدودة" التي أصرت عليها أنقرة في الحوار الأميركي الإيراني لتجنيب المنطقة شبح الحرب، مصرة على لعب بعض هذه الأوراق في علاقاتها مع تركيا: التلويح بقبول الوساطة التركية وتسهيل الطريق أمامها وتمسكها بأن لا تكون هي من يوصل الأزمة إلى الطريق المسدود. وإقناع تركيا بأن المواجهة الغربية الإيرانية ستتحول سريعا إلى حرب إقليمية مفتوحة على أكثر من احتمال وجبهة تتعارض كليا مع إستراتيجياتها السلمية. كسب أنقرة إلى جانبها في مواجهتها المفترضة بعد رمي كرة العرقلة في الملعب الإيراني وضرورة إشراك تركيا في أي قرار غربي يصدر بغطاء دولي بسبب الحاجة الإستراتيجية لتركيا دولة الجوار مع إيران.

رجب طيب أردوغان الذي ما زال يردد حتى اليوم أن تركيا في وساطتها هذه تقوم بواجب إنساني أخلاقي لا بد منه في مثل هذه المواقف واستعداد بلاده لأن تكون محطة تبادل الخدمات النووية بين طهران والغرب وجمع فرقاء النزاع حول طاولة حوار تعد هي لها تحت عنوان إبعاد شبح الحرب عن المنطقة، استمع قبل أيام إلى كلام آخر من وزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس في زيارته الأخيرة إلى أنقرة ومطالبته الأتراك بقبول اقتراح نشر صواريخ دفاعية لمواجهة أية هجمات صاروخية إيرانية ضد الأراضي التركية والسفن الحربية الأميركية الموجودة في البحر المتوسط.

لا بل إن تخمينات غيتس التي أطلقها بحضور وزير الدفاع التركي وجدي غونيل "لم يفعلوا شيئا لطمأنة المجتمع الدولي.. أعتقد أنه بات على بعض الدول أن تسأل نفسها: هل حان الوقت لتغيير نهجها؟"، تبدو أشدّ.

كما أن ما أعلن مؤخرا حول رفض واشنطن لاقتراح داود أوغلو حول تبادل اليورانيوم عبر روسيا وفرنسا بعد لقائه نظيره الإيراني متقي ودعوة الولايات المتحدة الأميركية حكومة العدالة والتنمية إلى عدم الوقوف إلى جانب إيران "التي تحاول الاستفادة من عامل الوقت فاقتراحها هذا سيكسبها ثمانية أشهر أخرى من الزمن للاقتراب من أهدافها" رسالة علنية واضحة تعني تركيا قبل غيرها.

وهناك قلق تركي من أن تكون خطة الحرب على إيران تستهدف بها أميركيا إسقاط النظام القائم واستبدال نظام سياسي جديد به، وهذا يعني استمرار مشروع النظام الإقليمي الأميركي الهادف إلى بناء شرق أوسط جديد عبر إسقاط الأنظمة المعارضة واستبدال أنظمة حليفة بها كما حدث في العراق قبل سبع سنوات.

"
ما يقلق تركيا هو احتمال صدور قرار دعم مشروع الحرب ضد إيران بإجماع دولي عبر لعب ورقة مجلس الأمن, أو قرار آخر بإعلان المواجهة مع إيران باسم منظمة حلف شمال الأطلسي التي التحقت تركيا بها عام 1952
"

ومما يقلق تركيا أيضا ويتركها في الموقف الحرج احتمال صدور قرار دعم مشروع الحرب بإجماع دولي عبر لعب ورقة مجلس الأمن أو قرار آخر بإعلان المواجهة مع إيران باسم منظمة حلف شمال الأطلسي التي التحقت تركيا بها عام 1952 وهي ملتزمة بقراراتها وإستراتيجياتها بشكل عام.

كما يزعج أنقرة أيضا استمرار الغرب في تجاهل القدرات والمخزون النووي الإسرائيلي والتمسك بوضعه خارج معادلات المواجهة مع إيران وهي مسألة ليست عادلة كما تقول تركيا.

فتحييد السلاح النووي الإسرائيلي على هذا النحو لا يزيل حالة الغبن وروح العداء ولن يبدل من نتائج استطلاعات الرأي الغربية خلال طرح سؤال "لماذا يكرهوننا؟" بهذه البساطة.

لا بل إن الأصوات الإسرائيلية المتعالية التي تطبل وتهلل للحرب الكلاسيكية ضد إيران بأسرع ما يكون لتجنب مخاطر الحرب النووية في المستقبل التي ستكون مكلفة للجميع واستعداد تل أبيب للقيام بالخطوة التفجيرية الأولى لتوريط المنطقة في هذه الحرب تقلق حكومة العدالة والتنمية وتدفعها يوما بعد يوم لبذل جهودها في البقاء بعيدا عن مواجهة غير منصفة تخرج منها إسرائيل المنتصر السياسي الأكبر.

أنقرة تعرف كذلك أن المعارض والمعرقل الأكبر لدورها في الملف الإيراني هو تل أبيب التي تراجعت علاقاتها السياسية معها في الآونة الأخيرة لأكثر من سبب يتمحور حول سياسة حكومة نتنياهو التصعيدية الاستفزازية التي فرطت بكل سهولة في المبادرات والوساطات التركية بين العرب وإسرائيل وأن تل أبيب التي لا تبحث عن ذرائع لمهاجمة إيران لن تصل إلى مرادها بهذه السهولة فواشنطن مصرة على إبقائها بعيدة عن إستراتيجيات الأزمة النووية حتى لا تفقد منذ بداية الطريق دعم الكثير من القوى الإقليمية والدولية لتحركاتها هذه.

لكن الجميع يعرف أيضا أن إدارة البيت الأبيض لن تفرط بمثل هذه السهولة في الخدمات الإسرائيلية عند الضرورة ومع صدور قرار الحرب. قد تلتقي أنقرة مع الغرب عندما تقول لا لإيران نووية مجاورة لكن حسابات حكومة العدالة والتنمية تختلف رغم كل شيء عن حسابات الغرب الذي يتجاهل تماما أن إسرائيل النووية هي التي تتحمل الجزء الأكبر من المسؤولية في إيصال الأمور إلى هذه النقطة من التوتر والتصعيد والانسداد.

أنقرة تصر على أن انفجارا إقليميا من هذا النوع سيتحول هذه المرة وبسرعة البرق إلى جبهات قتالية وحروب استنزاف داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة وخارجها في الجولان وعلى الحدود الإسرائيلية اللبنانية مثلا.

لكنها ترى كذلك أن الحرب على إيران ستكون حرب تغيير وإعادة تركيب المكعبات في العراق وأفغانستان وباكستان والصومال والسودان واليمن ولبنان بالدرجة الأولى. وما يعني تركيا هنا هو التصدي مباشرة للراغبين في الدخول على خارطتها العرقية واللغوية والجغرافية ضمن محاسبة تاريخية يصر البعض على إحيائها رغم مرور أكثر من قرن كامل عليها.

"
ما تحذر منه أنقرة أن الحرب ضد إيران ستفتح الأبواب على مصراعيها أمام تكتلات واصطفاف ديني مذهبي إقليمي لن يكون من السهل تلافيه لكونه سيساهم في تحريك تركيبة الكثير من دول المنطقة الدينية والعرقية
"

وما تحذر منه أنقرة أيضا أن حربا على هذا النحو مع إيران ستفتح الأبواب على مصراعيها أمام تكتلات واصطفاف ديني مذهبي إقليمي لن يكون من السهل تلافيه لكونه سيساهم في تحريك تركيبة الكثير من دول المنطقة الدينية والعرقية كما رأينا في العراق مؤخرا.

قنابل عنقودية وفوسفورية ونووية قد تنفجر في سماء الكثير من البلدان لكن قنابل تفجير سياسية وعرقية ودينية سترافق هذه الانفجارات في أكثر من مكان وقد لا يسلم منها الكثير رغم كل الضمانات التي يقدمها الغرب للحلفاء والشركاء والمتعاونين.

لكن تركيا تعرف كذلك أنه في حال تراجع فرص التسوية السلمية للمواجهة مع إيران فهي ستجد نفسها ملزمة بقبول وتبني خيارات وبدائل سياسية وأمنية جديدة تأخذ بعين الاعتبار مسار التطورات على الأرض قد تصل إلى اقتناعها هي الأخرى بإطلاق خطوة طالما رفضتها وتجنبت الحديث عنها هي المشاركة الفعلية في سباق التسلح النووي وتوسيع رقعته إلى شراكة إستراتيجية مع الكثير من الدول العربية والإسلامية إذا ما كانت تريد حماية موقعها ودورها ومكانتها الإقليمية.

العدالة والتنمية لن يمكنه بمثل هذه السهولة تجاهل حالة إقليمية تنتشر تدريجيا بين القوى الفاعلة وهي مرتبطة مباشرة بموضوع التسلح النووي. حالة تتقدم تحت عنوان مشروع "القومية النووية" المتفاعل يوما بعد آخر في الشرق الأوسط والذي بدأت بعض القوى الإقليمية تبني حساباتها ومصالحها الإستراتيجية على أساسه وهو ما سيقود تركيا إلى مراجعة مواقفها وسياساتها حتى ولو طغت جوانبه السلبية الاصطفافية على جوانبه الانفتاحية الإيجابية.

أنقرة تعطي الأولوية لفرصة الحل الأهم الواجب التمسك بها والقائمة على إبقاء الأطراف جميعها أمام طاولة الحوار والاستمرار في عملية نقل الرسائل وترطيب الأجواء وتخفيف حالة الاحتقان الذي يصر عليه البعض لكونه يستمد قوته ومكانته من إفشال مثل هذه الخطوات واستغلال مثل هذه الفرص.

لكن أنقرة تعرف أيضا أنها لن تنجح إلى ما لا نهاية في لعب الموقف الحيادي وهي ستميل إلى جهة أو أخرى عندما توصد أبواب الحوار وتشعر بأن البعض الذي يشيد بدورها ووساطاتها يستغل كل ذلك لكسب المزيد من الوقت والفرص وإطالة الأزمة لتحقيق المزيد من أهدافه وتطلعاته.

معادلة تمسك الغرب بالمواجهة والتحريض الإسرائيلي اليومي وأن تل أبيب جاهزة لتكون رأس الحربة في هذه المعركة العسكرية مع إيران مقابل لعبة التطويل والمماطلة الإيرانية ستقود حكومة العدالة إلى تغيير سياساتها ومواقفها إذا ما شعرت بأن ما يجري ويدور هو عبارة عن مناورات سياسية تتم عبر تركيا لكسبها دون تقديم أية تنازلات وإطلاق بوادر انفتاحية سياسية ودبلوماسية تبعد شبح الحرب عن التخوم التركية.

تركيا لن تكون طرفا ولا شريكا في لعبة تغيير النظام أو التدخل في الشأن الإيراني الداخلي، فالجاران تجاوزا هذا البرنامج الصعب. وهي تعرف أيضا أن لغة السلام والانفتاح الإقليمي التي تعتمدها في السنوات الأخيرة تزعج البعض وأن لعبة الألوان أيضا تحتاج إلى مراجعة وتدقيق فاللون الرمادي في لغة الحوار الإقليمي الذي تعتمده في لغتها الإقليمية أحيانا يغيظ هذا البعض الذي يحاول أن يقودها نحو إلزامها باعتماد خيار أحد اللونين المتناقضين الأبيض أو الأسود.

"
أنقرة تصر على إقناع طهران بأن وجود جارة نووية لها سيعني شعورها الدائم بحالة القلق والتوتر وستكون عرضة لضغوط داخلية وخارجية كثيرة تطالبها بالالتحاق بعضوية النادي النووي الإقليمي بشكل أو بآخر
"

لكن أنقرة تصر على إقناع طهران بأن وجود جارة نووية لها سيعني أيضا شعورها الدائم بحالة القلق والتوتر وستكون عرضة لضغوط داخلية وخارجية كثيرة تطالبها بالالتحاق بعضوية النادي النووي الإقليمي بشكل أو بآخر.

أنقرة ستكون أول المغادرين لبساط الريح الإيراني الذي يحلق إقليميا وسط إعجاب الكثيرين هذه الأيام رغم الرياح والعواصف الشديدة التي تعصف به من كل صوب وذلك إذا ما اكتشفت أنها تعيش في عالم من السراب والخيال وشعرت بأن جهودها وتحركاتها وتنقلاتها الدائمة والإشادة بهذه الجهود هي فقط لكسبها في محاولة للحصول على مزيد من الفرص والوقت كما يرى البعض.

بقدر ما تحتاج القيادة الإيرانية إلى حملات توحيد الداخل الإيراني المنقسم وإلزام الجميع بالوقوف إلى جانبها في حرب مصيرية من هذا النوع فإن قيادة العدالة والتنمية ملزمة بتبرير أي قرار تتخذه في الوقوف إلى جانب جهة والابتعاد عن جهة أخرى في هذه المواجهة لحماية مواقعها السياسية في الداخل أولا وعدم التفريط في خيوط إدارة اللعبة الداخلية بمفردها التي وضعها الناخب التركي قبل ثماني سنوات بين يديها ثانيا.

أميركا متمسكة بنشر الصواريخ ودعوة تركيا إلى اتخاذ التدابير الاحترازية الأمنية والعسكرية لكن أنقرة تراهن على سياسة شفافة مكشوفة ملخصها الأمن الإقليمي والسلم الإقليمي بعيدا عن بؤر التهديد النووية.

وإصرار واشنطن على حماية الأراضي التركية من التهديدات الإيرانية عبر إقامة مظلة صواريخ وقائية ما زال يلقى الاعتراض من قبل الحكومة التركية التي تتمسك بأن تكون الأولوية لحملاتها الدبلوماسية لتكون هي المظلة الأقوى ليس فقط في حماية الجغرافيا التركية بل في حماية علاقاتها ومصالحها المشتركة مع إيران وأمن واستقرار المنطقة بأكملها. فهل ستنجح في الدفاع عن معادلتها هذه؟

مرة أخرى نردد أن مطالبة طهران بمراجعة سياستها النووية وأن انفتاحها ومصالحتها مع دول الخليج هي الخطوة الأولى الأوفر حظا في إزالة حالة التوتر والتصعيد لكن القوى الغربية مطالبة أيضا بأن تكون أكثر موضوعية واعتدالا وإنصافا في التعامل مع الملفات النووية الإقليمية التي باتت متداخلة ومتشابكة بسبب أكثر من قضية وأزمة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.