من ديمقراطية الاحتلال إلى احتلال الديمقراطية

من ديمقراطية الاحتلال إلى احتلال الديمقراطية - الكاتب: بشير الأنصاري



احتلال الأفئدة والأدمغة
الديمقراطية والسياسة الخارجية الأميركية
وللاحتلال أوقافه
لماذا هذا الصندوق؟
النتيجة

لماذا ترفع الولايات المتحدة الأميركية اليوم شعار الديمقراطية في أفغانستان والشرق الأوسط، ولماذا سمى الرئيس الأميركي السابق الهجمة الأميركية الأولى على أفغانستان التي بدأت مساء السابع من شهر أكتوبر/ تشرين الأول لعام 2001 بعملية الحرية الدائمة؛ ولماذا كان الرئيس بوش يكرر في خطاباته وتصريحاته أن الاحتلال الأميركي لأفغانستان ليس إلا تنفيذا لمبادئ الديمقراطية؛ ولماذا ينتهج الرئيس أوباما نفس الأسلوب ويسير على خطى سلفه؟ و"لماذا تريد أميركا نشر الديمقراطية؟" والسؤال الأخير هو ما علاقة الديمقراطية بالاحتلال؟ أسئلة تدور بأذهان الكثيرين في عالمنا العربي والإسلامي.

احتلال الأفئدة والأدمغة
إذا تصفحنا تاريخ الإمبراطوريات فسنجد أنه ما من قوة عالمية إلا وكانت ترفع شعارات تزود قواتها المقاتلة بشحنة روحية و"عقيدة عسكرية"، وفي نفس الوقت توهن عزيمة المقاومة في نفوس أعدائها.

فجنكيز خان الذي يمكن اعتباره بطل اللامنطق في تاريخ الحروب ولم تشهد حلبة الزمان شخصية أكثر وحشية منه، كان يبرر حروب الإبادة التي كان يشنها على الحضارات الإنسانية بأنها ترجمة لإرادة الله على الأرض، وكان يختم أوامره بعبارة "منجو تنجري جوكندور"والتي تعني: "ليس هذا إلا تمثيلا لإرادة الله الخالد".

"
لتسهيل تحقيق تلك الغايات، تقوم الدول المهيمنة بتغليف المخططات العدوانية بمصطلحات أخلاقية كي يتسنى لهم اختراق الأدمغة واحتلال الأفئدة وشل الجوارح وإذلال الضمير وتدجين الروح وإماتة الوجدان
"

ثمة مصطلحات اليوم تستخدم لتحقيق غايات سياسية ومصالح اقتصادية وأهداف إستراتيجية، وفي نهاية المطاف لتبرير التدخل في شؤون الآخرين. ولتسهيل تحقيق تلك الغايات، تقوم الدول المهيمنة بتغليف المخططات العدوانية بمصطلحات أخلاقية كي يتسنى لها اختراق الأدمغة واحتلال الأفئدة وشل الجوارح وإذلال الضمير وتدجين الروح وإماتة الوجدان.

بالأمس القريب جاء الغرب ليستعير مصطلح "الاستعمار" الذي يحمل مدلول البناء والتطوير ليستخدمه للسيطرة على الشعوب الضعيفة ونهب ثرواتها، الأمر الذي حول كلمة "الاستعمار" القرآنية إلى مفهوم سلبي يحمل معنى القتل والنهب والاحتلال والهيمنة.

إذا كانت الديمقراطية نتاج الحضارة الإنسانية التي توصلت إليها الشعوب لتحكم نفسها بنفسها وتزيل الأنماط الاستبداية في الحكم، فإنها اليوم تعتبر من أكثر المصطلحات السياسية تعرضاً للتشويه والتحريف حتى أصبحت ثنائية الاحتلال والديمقراطية وجهين لعملة واحدة.

الديمقراطية والسياسة الخارجية الأميركية
النخب السياسية الأميركية في الحزبين الجمهوري والديمقراطي رغم اختلافهم على بعض الأمور فإنهم متفقون على اتخاذ "ترويج الديمقراطية" وسيلة لتمرير المشاريع وإضفاء الشرعية على سياسات الهيمنة في دول العالم الثالث وفي مقدمتها دول الشرق الأوسط والعالم الإسلامي، لأن شعار ترويج الديمقراطية يمكن أن يخدع الجماهير الغربية في الداخل ويبرر الاحتلال في نظر الشعوب، كما أنه يمكن أن يساعد قوات الاحتلال في الوصول إلى القلوب والعقول.

ففي عام 1970 قامت المجموعة الديمقراطية في الكونغرس الأميركي بإنشاء مكتب للديمقراطية وحقوق الإنسان في إطار وزارة الخارجية الأميركية، كما أن الرئيس الأميركي السابق الديمقراطي جيمي كارتر اعتبر نشر الديمقراطية دعامة أساسية لسياسته الخارجية.

بعد ذلك جاء رونالد ريغان الجمهوري لينشئ صندوق الوقف القومي للديمقراطية ليلعب دور قفاز الحرير على مخالب السياسة الخارجية. ثم جاء الرئيس كلينتون ليجعل "ترويج الديمقراطية" من الأهداف الأميركية الأربعة للإستراتيجية الإنمائية على مستوى العالم. أما الرئيس بوش فقد أسرف في استخدام المصطلح، ففي خطابه الافتتاحي لدورته الثانية في عام 2005 بالغ في الأمر وأعلن قائلا: إن بقاء الحرية على أرض الولايات المتحدة الأميركية يعتمد بصورة متزايدة على مصير الحرية في أجزاء أخرى من كوكب الأرض. وأفضل أمل للسلام في عالمنا هو نشر الحرية في كل العالم.

انطلاقا من هذه الحقيقة فإن سياسة الولايات المتحدة تقوم على دعم الحركات الديمقراطية ومؤسساتها في كل دولة وثقافة، وهدفنا النهائي يتمثل في اجتثاث الاستبداد من عالمنا (بوش، 20/1/2005). وجاء الرئيس الديمقراطي أوباما لتعلن إدارته على منبر وزارة الخارجية الأميركية وعبر موقعها الرسمي أن الديمقراطية وترويجها في العالم تعتبر من الركائز الأساسية للسياسة الخارجية الأميركية.

وللاحتلال أوقافه
الحكومة الأميركية لم تكتف بترويج "الديمقراطية" وتعزيزها عبر المؤسسات الحكومية والأنظمة الرسمية بل أنشأت مؤسسات غير حكومية ووقفية تدعي الاستقلال في أنشطتها والحياد في قراراتها لتقوم بمهمات دولية لا يمكن للجهات الحكومية والهيئات الدبلوماسية الأميركية أن تقوم به، والمنظمات التي اشتهرت في هذا المجال هي: المعهد الجمهوري الدولي، والمعهد الديمقراطي الوطني، ومؤتمر المنظمات الصناعية، ومركز المشروعات الدولية الخاصة وصندوق الوقف القومي للديمقراطية، وهذه الأخيرة تعتبر أكثرها شهرة.

"
الحكومة الأميركية لم تكتف بترويج الديمقراطية وتعزيزها عبر المؤسسات الحكومية والأنظمة الرسمية بل أنشأت مؤسسات غير حكومية ووقفية تدعي الاستقلال في أنشطتها والحياد في قراراتها
"

إن صندوق الوقف القومي للديمقراطية مؤسسة خاصة أنشئت في عام 1983 بموجب قرار صادر عن الكونغرس، وهي جهاز لا يخضع لكثير من قيود الرقابة العامة. يعتقد الصحفي الفرنسي تيري ميسان أن مسؤولي هذه المؤسسة ينتقون من بين موظفي وكالة المخابرات الأميركية السابقين. وهذه المؤسسة انخرطت في أنشطة كانت موجهة لأفغانستان بعد سنة واحدة من تأسيسها وذلك في أشد أيام الحرب الباردة سخونة.

يقول عالم الاجتماع الأميركي النيكاراغوي المولد والمحاضر في جامعة سنتا باربارا بكاليفورنيا إن هذه المنظمات تستخدم الأموال للتلاعب بنتائج الانتخابات وللتنسيق للانقلابات العسكرية في جميع أنحاء العالم وكل ذلك يتم تحت ستار "نشر الديمقراطية".

وفي فنزويلا حسب رأي بعض المؤسسات الفنزويلية، قامت مؤسسة صندوق الوقف القومي للديمقراطية بدعم منظمات غير حكومية ونقابات تجارية وساعدتها على التخطيط للانقلاب على شافيز في فنزويلا وأرستيد في هايتي. والجدير بالذكر أن صندوق الوقف القومي في عام 2004 ضاعف ميزانيته لتمويل "المشاريع الديمقراطية" في كل من أفغانستان والعراق.

لماذا هذا الصندوق؟
ويليام كولبي المسؤول السابق في وكالة المخابرات الأميركية صرح مرة حول نشاط صندوق الوقف القومي لترويج الديمقراطية حسب ما نشرته صحيفة واشنطن بوست في عددها الصادر 14/3/1982 قائلا "إن معظم الأنشطة التي كنا نقوم به سابقا في الخفاء، يمكننا في الوقت الحالي القيام به علنا وذلك عبر هذه المؤسسة". وأعلن آلن وينشتاين أحد منظري صندوق الوقف القومي للديمقراطية في عام 1991 "هناك الكثير مما نقوم به اليوم، كان يقع ضمن مهام وكالة المخابرات المركزية منذ 25 عاما."

كارل جرشمن رئيس صندوق الوقف القومي للديمقراطية خلال مؤتمر صحفي عقده في 29 /8/ 1986 قال بالحرف الواحد: في زمن التقنيات المتقدمة وعصر انفجار المعلومات ليس من الممكن أن نحقق الاستقرار والأمن والمصلحة الوطنية بالاعتماد على القوة العسكرية فقط، بل بالإغراء الذي يلعب دورا مهما في زماننا. علينا أن نطور قدراتنا وننمي مهاراتنا للوصول إلى أفكار الآخرين وإراداتهم.. علينا أن نجعل من شعار ترويج الديمقراطية في العالم أساسا لتنمية هذه المهارات.

باربارا هيج، نائبة مكتب البرمجة والتخطيط والتقييم في وزارة الخارجية في جلسة الاستماع مع لجنة العلاقات الدولية في الكونغرس التي انعقدت بتاريخ 19 /11/2003 صرحت قائلة "إن صندوق الوقف الوطني للديمقراطية يسعى إلى تشجيع الأفكار والقيم والعادات التي من شأنها أن تضمن ديمقراطية السوق في أفغانستان – للهيمنة الأميركية اليوم واجهتان تواجه بهما العالم؛ الديمقراطية وسياسة السوق الحرة، ولا يمكن فهم ديمقراطية السوق في أفغانستان إلا في هذا الإطار- وأضافت: هدفنا دعم المجموعات التي يمكنها أن تنقل المعلومات وتتعرف علي أناس طيبين!.

النتيجة
لا يمكن لنا فهم السياسة الخارجية الأميركية بناء على تصريحات السياسيين أو البيانات الرسمية الصادرة من البيت الأبيض أو وزارة الخارجية، بل الأساس الذي يمكننا به فهم السياسة الخارجية الأميركية وتقييم أهدافها في المنطقة هو أن ننظر إلى ما تفعله السياسة للأميركيين وليس ما يقولونه.

يقول جورج كنان الرئيس السابق لمكتب التخطيط في وزارة الخارجية الأميركية أن الديمقراطية لم تكن لها أية قيمة في السياسة الخارجية الأميركية يوما ما. ويقول هاورد ويردا مؤلف "الثورة الديمقراطية في أميركا اللاتينية: التاريخ، السياسة والسياسة الخارجية الأميركية": تبني لغة الديمقراطية ليس إلا جسرا يربط بين مصالحنا الإستراتيجية وقلقنا الأمني… إن أجندة ترويج الديمقراطية ليست إلا غطاءً يمكننا أن نستر بها أهدافنا الإستراتيجية الكبرى.

"
الهدف الأساسي من ترويج الديمقراطية ليس إلا خلق وزرع نخبة سياسية جديدة وغريبة عن الجذور الثقافية والحضارية للأمة وتسليم السلطة لها، وصناعة إعلام يطبل لهذه النخبة, وصناعة مجتمع مدني أليف ومؤدب!
"

الديمقراطية والاحتلال ضدان لا يجتمعان، ومثل هذه الثنائية كمثل الخير والشر والنور والظلمة، حيث لا يمكن لهذين المبدأين المتناقضين أن يجتمعا. الديمقراطية مبدأ يتبلور فيه حرية الإرادة، في الوقت الذي يمكن اعتبار الاحتلال قيدا على هذه الحرية. إن الديمقراطية لا يمكن أن تأتي عبر إذلال الشعوب وامتهانها أو الاستخفاف بها ومصادرة إرادتها.

إن الولايات المتحدة برفعها شعار ترويج الديمقراطية؛ أكثر الشعارات بريقا وجاذبية، واستخدامها اللغة الناعمة، تهدف فقط إلى انتهاج أقصر الطرق وأقلها تكلفة في الوصول إلى أهدافها الإستراتيجية.

إن العالم اليوم يشهد حربا من نوع جديدة، حرب يعتبر فيها احتلال قلوب وعقول الشعوب المستهدفة خطوة أساسية لضمان احتلال الأرض. إن الديمقراطية التي تتحدث عنها الولايات المتحدة الأميركية في المنطقة والتي تروج لها في العالم هي جزء لا يتجزأ من مشروع التدخل وآلية مؤثرة من آليات الاحتلال وسلاح فتاك يستخدم في الحرب الجارية كاستخدام طائرات بي-52 وصواريخ توماهوك وكروز.

إن الهدف الأساسي من ترويج الديمقراطية ليس إلا خلق وزرع نخبة سياسية جديدة وغريبة عن الجذور الثقافية والحضارية للأمة وتسليم السلطة لها، وصناعة إعلام يطبل لهذه النخبة ومن ثم يدفع الشعب إلى ظل عباءتها، وخلق طبقة برجوازية طفيلية، وصناعة مجتمع مدني أليف ومؤدب! وفي الختام خلق نقابات مهنية وأحزاب سياسية ومؤسسات نسوية وظيفتها لعب دور ديكوري في مسرحية الديمقراطية.

إن شعار ترويج الديمقراطية يمكن أن يعطي غطاء المشروعية للاحتلال ووليده غير الشرعي المتمثل في النظام السياسي للدول المستهدفة، كما أنه يمكن أن يحول دون قيام معارضة حقيقية في مواجهة النظام الحاكم ولو كانت معارضة سلمية. وترويج الديمقراطية يمكن أن يساعد على الاندماج في الاقتصاد العالمي وتبني نظام السوق والذوبان الكامل في الرأسمالية العالمية.

فهل يمكن لأحرار العالم أن يكشفوا حقيقة ديمقراطية الاحتلال، وينقذوا الديمقراطية من الاحتلال مثلما أنهم يسعون لتحرير أرضهم؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.