عندما يصبح أوكامبو خصما يجب أن يتنحى أو يُنحى

عندما يصبح أوكامبو خصما يجب أن يتنحى أو يُنحى- لؤي ديب

 

 

قبل أيام وفي ندوة ببروكسل شبَه المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية لويس مورينو أوكامبو مراقبة الانتخابات في السودان بمتابعة التصويت في ألمانيا في عهد الزعيم هتلر، وفي تصريحات السيد أوكامبو أربعة إيحاءات:

الأول: أن السودان كبلد بمجمل سكانه وتنوعه يعيش حالة مشابهة لموقف الشعب الألماني مع هتلر أثناء توليه حكم بلاده، وقياساَ على عدد أولئك الذين تورطوا مع هتلر، فإن السيد أوكامبو يوجه الاتهام لشريحة عريضة من الشعب السوداني دون تفصيل يذكر ودون سند.

الثاني: أن السيد أوكامبو يشبه الرئيس السوداني عمر البشير بهتلر الذي أجمع العالم على جرائمه، في خروج واضح عن حدود اللياقة المصاحبة لمنصب المدعي العام.

الثالث: موجه للمراقبين المحليين والدوليين بأن مهمتهم مجرد مضيعة للوقت، لأن السيد أوكامبو قرر منفردا أن السودان يعيش حقبة نازية.

الرابع: تدخل وتحريض واضح على صيرورة واستمرار العملية الانتخابية في السودان، ومحاولة لإفشالها، وانقضاض على حق الشعب السوداني في اختيار مؤسسات حكمه من خلال الانتخابات، وحكم مسبق بوصف نزاهة العملية بالمستحيلة.

"
 أوكامبو الذي أشبعنا مماطلة في تحريك ملف غزة، والذي أقر بنفسه بأن الملف الفلسطيني أكثر من مكتمل، أصبح يعطي الجزء الأكبر من وقته لتجاذبات شخصية مع الرئيس السوداني، وربما يكون قد وضع طوق نهاية خدمته حول عنقه إن تمت إجادة محاسبته على تصريحاته
"

إن السيد أوكامبو الذي أشبعنا مماطلة في تحريك ملف غزة، والذي أقر بنفسه بأن الملف الفلسطيني أكثر من مكتمل، أصبح يعطي الجزء الأكبر من وقته لتجاذبات شخصية مع الرئيس السوداني وربما يكون قد وضع طوق نهاية خدمته حول عنقه إن تمت إجادة محاسبته على تصريحاته.

عندما أصدرت المحكمة قرارها بتوقيف الرئيس البشير لم يكن قرارها حكماً وإنما جاء ضمن إطار استكمال الإجراءات والتحقيقات، ولست هنا بصدد تشريح قرار المحكمة وحيثياته الدافعة وإنما أركز على قرارها النهائي الذي بموجبه يبقى الرئيس البشير بريئا لحين ثبوت إدانته وإصدار حكم عليه، وفق ما جاء في المادة (66) من نظام روما المتعلق بقرينة البراءة، حيث إن:

(1) الإنسان بريء إلى أن تثبت إدانته أمام المحكمة وفقا للقانون الواجب التطبيق، (3) يجب على المحكمة أن تقتنع بأن المتهم مذنب دون شك معقول قبل إصدار حكمها بإدانته.

وتشبيه السيد أوكامبو الرئيس البشير بهتلر هو تعد على حقوق المتهم وفق نظام المحكمة وخروج سافر عن التفويض للمدعي العام والصلاحيات المنصوص عليها في هذا التفويض، وضرب عريض للقيم المنصوص عليها في المبادئ التوجيهية بشأن دور أعضاء النيابة والمعتمد من قبل مؤتمر الأمم المتحدة الثامن لمنع الجريمة. لقد كانت المادة (54) صريحة وواضحة في صلاحيات المدعي العام وحددتها بقوة، وليس فيها ما يجيز له إهانة الأشخاص أو الدول التي ينحدرون منها أو التدخل في شؤون الدول.

حيث بدأت تبرز جليا في الفترة الأخيرة شخصنة قضية الرئيس البشير من قبل السيد أوكامبو، وكأن الأمر يتعلق بثأر شخصي وأصبح السيد أوكامبو بشخصه محل تساؤل واستفهام حول نزاهته في استكمال ملف القضية، والمتابع لتصريحات السيد أوكامبو في العام الأخير يجد أن حياديته كمدع عام أصبحت في موضع الشك العميق في توليه زمام الأمور في قضية من هذا النوع، ويضع أسبابا قوية لإعادة تقييم الإجراءات المتخذة من قبله منذ بداية القضية.

وللأسف كل ذلك يتزامن مع صمت سوداني غريب وعدم اتخاذ إجراء رادع ضد خروج المدعي العام عن حياديته وعن حدود الحصانة الممنوحة له في إطار أي قضية يباشرها، حيث نص البند الثاني من المادة (48) من نظام روما على أنه: يتمتع القضاة والمدعي العام ونواب المدعي العام والمسجل، عند مباشرتهم أعمال المحكمة أو فيما يتعلق بهذه الأعمال، بالامتيازات والحصانات ذاتها التي تمنح لرؤساء البعثات الدبلوماسية. ويواصلون، بعد انتهاء مدة ولايتهم، التمتع بالحصانة من الإجراءات القانونية من أي نوع، فيما يتعلق بما يكون قد صدر عنهم من أقوال أو كتابات أو أفعال بصفتهم الرسمية.

"
نريد عدالة قائمة على تحقيق لا انحيازا وطاعة عمياء لأوامر سياسية، وفصلا لا يعرف الوسطية بين السياسة والعدالة، وهو ما لم يتمتع به  أوكامبو مطلقا في قضية كان عليه أن يباشرها باحتراف ونزاهة

"

والصفة الرسمية لا تعطي الحق في توجيه الإهانات للمتهمين، والانتخابات السودانية برمتها قضية لا تدخل في اختصاص المحكمة، والتأثير على أعمال المراقبين والحوارات السياسية هي من المحاذير التي يجب على المدعي العام الابتعاد عنها.

ولأن الإهانة الأخيرة لا تمس الرئيس البشير وحده بقدر ما تمس عموم الشعب السوداني وتحاول الانتقاص من حقوقه المشروعة والمنصوص عليها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان باختيار حكامه وممثليه دون تدخل أو إعاقة، فقد أصبح من الواجب على الحكومة السودانية ومنظمات المجتمع المدني السوداني الاقتصاص للإهانة، والتوجه الفوري إلى جمعية الدول الأطراف في المحكمة لتفعيل نص المادة (46) من نظام روما التي تنص في فقرتها الأولى على أنه:

– يعزل القاضي أو المدعي العام أو نائب المدعي العام أو المسجل أو نائب المسجل من منصبه إذا اتخذ قرار بذلك وفقا للفقرة 2، وذلك في الحالات التالية: (أ) أن يثبت أن الشخص قد ارتكب سلوكا سيئا جسيما أو أخل إخلالا جسيما بواجباته بمقتضى هذا النظام الأساسي، على النحو المنصوص عليه في القواعد الإجرائية وقواعد الإثبات. وعلى الحكومة السودانية أو أصدقائها المطالبة بالتصويت بالأغلبية على عزل المدعي العام لفقدانه حياديته وإصدار تصريحات مسيئة وعنصرية للشعب السوداني، وإهانة شخص الرئيس السوداني وهو شخصية اعتبارية قيد الاتهام من قبل المحكمة ولم تبثث إدانته.

وهذا يتطلب عملا سريعا وفوريا مع الدول الأفريقية ومنظمة المؤتمر الإسلامي والجامعة العربية ودول عدم الانحياز الموقعة على المحكمة، وإن استطاع السودان البرهنة على ذلك أصبح بالإمكان الانتقال للتشكيك في كل ما صدر عن السيد أوكامبو وقُدم سابقا، وإعادة الإجراءات بموجب أنظمة المحكمة.

لقد خرج الشعر على ألسنتنا ونحن نطالب بعدالة دولية لا تميز ولا تنحاز، ولست أنكر هنا وقوع مآس وانتهاكات في دارفور سابقا، ولكني متأكد الآن من أن ما قدم ضد الرئيس السوداني تم من قبل مدّع عام لا يتمتع بالنزاهة لمباشرة عمله، نريد عدالة قائمة على تحقيق لا انحيازا وطاعة عمياء لأوامر سياسية، وفصلا لا يعرف الوسطية بين السياسة والعدالة، وهو ما لم يتمتع به السيد أوكامبو مطلقا في قضية كان عليه أن يباشرها باحتراف ونزاهة.

إن التصريحات الأخيرة التي لا نستطيع إلا أن نصفها بالمشينة والمعيبة بحق الشعب السوداني ورئيسه من قبل المدعي العام الدولي هي خروج تام عن حدود اللياقة القانونية ودور المدعي العام والحدود المرسومة له، وكل هذا يفرض على المجتمع المدني السوداني التوجه إلى المحاكم الأرجنتينية البلد الأصلي للمدعي والمحاكم الهولندية بلد الإقامة، لرفع دعاوى بالتعويض والسب والقذف العلني ضد السيد أوكامبو وتصريحاته ضد الشعب السوداني التي لا تمس من قريب أو بعيد بالقضية المنظورة أمام المحكمة.

وإذا كانت الأدوات القانونية الدولية قد استخدمت بكفاءة ضد الكثير من القضايا العربية، فأعتقد أنه آن الأوان لبروز جيل عربي قادر على تطويع تلك الأدوات في خدمة القضايا العربية والدفاع عن كل ما انتهك من كرامة.

الكثير من الملفات المتماسكة تغاضى عنها السيد أوكامبو تنفيذا لأجندات سياسية، وليس أقلها ملف غزة حين تجاهل عشرات التقارير الدولية وتوصية تقرير غولدستون في هذا الشأن، وإذا كنا جادين في مطالبنا بعدالة دائمة فإنه أصبح لا بُد من قول الكلمة الصعبة وتخطي الحواجز واستغلال الأدلة ليتنحى المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية عن منصبه، فقد أصبح شخصه بمثابة العبء الأكبر على المنصب والدور المناط به لإنفاذ العدالة الدولية.

علينا أن ننتقل من موقع المجاملة على أمل لا وجود له إلى موقع القدرة على التغيير وامتلاك أدواته، فمنصب المدعي العام محل شك في قدرته على اتخاذ القرار دون تأثيرات سياسية أو دوافع شخصية، وعبء هذه المهمة يجب ألا يكون في ملعب السودان وحده، بل تخطى الأمر السودان وأصبح قضية كل الأحرار في العالم الذين ينادون بالحرية والاقتصاص من مجرمي الحرب، وليعمل الجميع من أجل توفير الفرصة للدول الأعضاء في نظام روما لتناقش تصرفات المدعي العام وتصريحاته في الأعوام الأخيرة ولنترك الفرصة للجنة محايدة تشكلها تلك الدول لفحص حيادية المدعي العام وقدرته على ممارسة مهامه دون انحياز.

"
إن مكونات العدالة الدولية كثيرة ومتشابكة وأهم مكوناتها الشخوص القائمون على تطبيقها، وكما لإصلاح العدالة الكثير من المداخل فإن محاسبة ومساءلة المدعي العام الدولي عن أقواله وتصرفاته هو أحد أكبر وأهم تلك المداخل من أجل عدالة دولية دائمة ومستقيمة

"

لقد أعطى السيد أوكامبو بتصريحاته الأخيرة فرصة ذهبية لكل أولئك الذين ينشدون العدالة الدولية والانتقال بها للعدالة المستدامة لتصحيح صفات منصب المدعي العام واتخاذ إجراء حازم ضد التجاوز والتعدي على شرف وكرامة وأخلاقيات المنصب المناطة به إقامة العدل، والمفترض في صاحبه -وفقا للمبادئ التوجيهية التي توضح شروط من يشغله- أن يقدم ضمانات فعلية وقوليه بأنه يمارس عمله على أساس عدم التحيز أو المحاباة، بحيث يستبعد أي تمييز ضد الأشخاص يستند إلى العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسي وغيره من الآراء، أو المنشأ الوطني والاجتماعي أو الأصل العرقي أو الملكية أو المولد أو الحالة الاقتصادية أو أي وضع آخر، وهو ما لم يحترمه السيد أوكامبو عندما سمح لنفسه وهو يشغل منصب المدعي العام بالتدخل في الانتخابات السودانية، محاولا التأثير على موقف المراقبين واصفا مهمتهم بالمستحيلة، وتلك تصريحات يحاول وكيل نيابة مبتدئ لا محترف الابتعاد عنها وتجنبها حفاظا على استقلاليته وحياديته.

لقد أصبحت قضية الرئيس البشير قضية شخصية بالنسبة للسيد أوكاومبو والحكم هنا لا يستند إلى اعتقاد بل وقائع وتصريحات، الشيء الذي يضع القضية وما تم فيها موضع تساؤل كبير، والدفاع هنا يؤصل لحالة انحياز للمحكمة وضرورة نزاهة طاقمها، وبالتالي ضمان إجراءات سليمة تفضي إلى قرارات سليمة خالية من الشك، وإذا كنا نعيش في عصر عدالة لا تخلو من تدخل سياسي فليس أقل من محكمة جنائية دولية يكون القانون الدولي أساسا لعملها ومسودة إجراءات روما ضابطا لتصرفات أعضائها.

إن المراجع لكل ما صدر عن محكمة نورمبرغ ويوغسلافيا سابقا ورواندا لا يجد فيه تجريحا شخصيا لأشخاص ثبتت إدانتهم وتمت محاكمتهم، والأصل في القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني -الذي يشكل المرجع الأساسي للمحكمة وكل من يعمل فيها- هو التأصيل لاحترام البشر وكرامتهم مهما فعلوا أو تصرفوا، والتعامل معهم وفق القانون وحزمته العقابية التي لا تحتوي عرفا أو نصا إجرائيا على قذف وسب البشر مهما كانت التهم الموجهة إليهم.

إن مجرد مدح الحقبة الهتلرية أو قول كلمة مجاملة بحق هتلر يشكل سندا قانونيا قويا في الكثير من دول العالم لدخول السجن أربع أو خمس سنوات، فما بالنا ونحن أمام حالة تشبيه شعب بأنه يمارس تلك الحقبة وهو بريء لم تثبت إدانته بهتلر نفسه.

إن مكونات العدالة الدولية كثيرة ومتشابكة وأهم مكوناتها الشخوص القائمون على تطبيقها، وكما لإصلاح العدالة الكثير من المداخل فإن محاسبة ومساءلة المدعي العام الدولي عن أقواله وتصرفاته هو أحد أكبر وأهم تلك المداخل من أجل عدالة دولية دائمة ومستقيمة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.